بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فإن الغيبة من أكبر الجرائم، ومن أوسعها انتشارًا، ومن أشدِّها خطرًا، ويتساهل الكثيرون في تكدير صفْوِ سجلِّهم يوم القيامة، فلا يعلمون عاقبة الأمر، ولا يُدركون مآلاته، ويَكفي لبيان خطر الغيبة وصفُ الله تعالى لهذه الجريمة في القرآن الكريم؛ قال الله تعالى: ﴿وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ﴾[الحجرات: 12]، وفي الآية الكريمة أبلغُ وصفٍ لحال المغتاب بأنه كمَن يأكُلُ لحم أخيه ميتًا، وهذا يحفِّز المسلمَ على تجنُّب هذا الخطر الداهم، ويَعظه أن يتَفادى هذه الجريمة النَّكراء.
عاقبة الغيبة:
قبل بيان ماهية الغيبة، وكيفيَّة تجنُّبها، يَجب معرفةُ عاقبتها؛ لكي يَحرص المسلمُ على الابتعاد عن هذا الفعل، وتفادي ما يُفضي إليه، وفي السُّنة النبوية ورَدَ مِن الوعيد بخصوص الغيبة ما يكفي لكي يكون رادعًا، ومنقِّحًا لهذا السلوك؛ فعن أنس بن مالك رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لما عُرِجَ بي مررتُ بقومٍ لهم أظفارٌ من نُحاس، يخْمِشون وجوهَهم وصدورَهم، فقلتُ: من هؤلاء يا جبريلُ؟ قال: هؤلاء الذين يأكلون لحومَ الناسِ، ويقعون في أعراضِهم))؛ (أبو داود) وصححه الألباني.
فهل يتخيَّل المرء أن له أظفارًا من نحاس يَخمش بها وجهه وصدره؟! وما الذي يدفعه لذلك؟! وما الذي يجعله أسيرًا للسانه فيَغتاب هذا ويسب هذا؟! نسأل الله تعالى السلامة من كل سوء، وأن يُجنِّبنا شرور اللسان، وما قرَّب لجهنَّم من قول وعمل.
بيَّن الرسول صلى الله عليه وسلم في السنَّة النبوية أن المغتاب من ضمن المفلسين يوم القيامة؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتَدرونَ ما المُفلِسُ؟ إنَّ المُفلسَ من أُمَّتي مَن يأتي يومَ القيامةِ بصلاةٍ وصيامٍ وزكاةٍ، ويأتي وقد شتَم هذا، وقذَفَ هذا، وأكلَ مالَ هذا، وسفكَ دمَ هذا، وضربَ هذا، فيُعْطَى هذا من حَسناتِه، وهذا من حسناتِه، فإن فَنِيَتْ حَسناتُه قبلَ أن يُقضَى ما عليهِ، أُخِذَ من خطاياهم، فطُرِحَتْ عليهِ، ثمَّ طُرِحَ في النَّارِ))(صححه الألباني).
والمغتاب يبيع حسناته بأبخس الأثمان، ويشتري النار، ويقدم عليها؛ من جرَّاء تهاونه في إطلاق لسانه بلا روية، وبلا تحقُّق مِن نتائج هذا الأمر، والمسلم يوم القيامة حريصٌ أشدَّ الحرص على الحسنة، التي قد تكون سببًا في دخول الجنة، وقد تكون سببًا في تجنُّب جهنَّم وعذابها، وقد تكون سببًا في الارتقاء في درجات الجنة، فكيف يتأتَّى لمن يدرك هذا أن يغتاب هذا، ويسبَّ هذا، وينتقص من هذا؟!
تعريف الغيبة:
خيرُ تعريف للغيبة وضَّحه الرسول صلى الله عليه وسلم في حديثه الشريف؛ فعن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أتدرون ما الغيبةُ؟))، قالوا: اللهُ ورسولُه أعلمُ، قال: ذِكرُكَ أخاكَ بما يكرهُ، قيل: أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ؟ قال: إنَّ كان فيه ما تقولُ فقد اغتبتَه، وإن لم يكنْ فيه فقد بهتَّه))؛ (مسلم).
ومِن هذا الحديث العظيم يجب على المسلم تجنُّب كل آليات وأدوات الغيبة؛ فلا يَذكر أخاه بما يكرهه، بأي وسيلة كانت، ولو بالإشارة والتلميح، وحتى إن كان ما يقوله المرء صحيحًا؛ فهي تُعتبَر غيبة، لها جزاؤها وعاقبتها، وإن كان ما يدعيه المرءُ غير صحيح، فقد وقع في جريمتين: الغيبة، والافتراء، وهذا هو البهتان، أن تدَّعي سوءًا في الغير افتراءً عليه.
وسائل تجنب الغيبة:
فليَحرص المسلم أشدَّ الحرص على تجنُّب ذِكر الغير بالسوء بأي قدر، فلا يَذكر الغير إلا بالخير، ولا يُجاري الغير في مجالس السوء، حتى يتجنَّب حرَّ جهنَّم ونارها، ولا يجلس في مجالس الغيبة، وينهَر فاعِليها، وليتذكَّر المسلم ستر الله تعالى عليه، وفضله عليه؛ فلولا ستر الله تعالى ما نظَرَ أحد إلى أحد، ولَتَكدر صفو الناس، وضاقت عليهم حياتهم، ولنُحسِن كما أحسن الله تعالى إلينا، وليَسْع المرءُ لتنبيه غيره؛ كي يتجنَّب الغيبة، ويوضِّح لهم خطرها، ولينصر أخاه عند سماعه لما يكرهه، فيَنهر المغتاب، ويبيِّن فضيلة الغائب وحرمته.
وليحرص من اغتاب الآخرين على الندم والتوبة، ولا يُشترَط إخبارُ من اغتابه المرءُ بفعله؛ لأن هذا يكون مَجلَبة للكراهية والشحناء، ولكن على المغتاب اغتنامُ الفرصة لذكر فضائل من اغتابهم، والدعاءِ والاستغفار لهم، وعن أبي الدرداء رضي الله تعالى عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مَن ردَّ عن عِرض أخيه ردَّ اللهُ عن وجهِه النَّارَ يومَ القيامة))؛ (الترمذي والألباني).
الأحوال التي تُستثنى منها الغيبة:
والأحوال التي تُستثنى منها الغيبة بيَّنَتها اللجنة الدائمة للإفتاء؛ بناءً على الأدلة والمصلحة الشرعية، كما يلي: "الغيبة هي: ذِكر المسلم أخاه بما يكره؛ من المثالب والمعايب ونحوهما، ولكن هناك مواضع ذكَرها العلماء يتكلم فيها المسلم عن أخيه بناءً على المصلحة، وهذه المواضع منها: طلبُ الإنصاف من الظالم، فيقول للقاضي أو الحاكم مثلًا: ظلمَني فلانٌ بكذا، ومنها: طلب الفتوى، فيقول المستفتي للمفتي: فعَل فلان بي كذا، فهل هذا حقٌّ له أم لا؟ ومنها: تحذير المسلمين من أهل الشر والريب؛ كجَرْح المجروحين من الرواة والشهود، ومنها: الاستشارة في مُصاهرة إنسان أو مشاركته أو مجاورته، ومنها: ذِكر المجاهر بالفسق بما يجاهر به، ومنها: التعريف بالشخص إذا لم يَقصد التنقُّص بأن يكون معروفًا بلقَب؛ كالأعمش والأعرج والأصم ونحوها، وبالله التوفيق، وصلى الله على نبينا محمد وآله وصحبه وسلم" انتهى؛ (اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء).
المسلم يستثمر اللسان في ذكر الله تعالى، وفي الخير، والدلالة عليه، ولا يَستجيبُ للنفس الأمَّارة بالسوء، بل يُطوِّعها لاغتنام الأجر الكبير، والفضل العظيم، وليُكثِر من التسبيح والتحميد، والتهليل والتكبير، والحوقلَة؛ فهذه الدنيا جَسْرٌ للآخرة، فلا يبِع المسلمُ آخرته بدنياه.
نسأل الله تعالى أن يَجعلنا من المحسنين، وأن يُجمِّلنا بجميل أوامره الكريمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد