فن الرواية: السحر الإسلامي المفقود


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

قرر أستاذٌ جامعيٌ اسمه (روبرت لانغدون)، متخصصٌ في تاريخ الأديان بجامعة هارفارد، القيام برحلة طويلة للبحث عن سرٍ دفينٍ محفوظ منذ قرون في صدور جماعة باطنية آلت على نفسها أن تحفظه مهما كلفها الأمر، ومهما كان الثمن.

والكشف عن هذا السر الخطير يترتب عليها فظائع كبيرة، ويترصد له أعداء خطرون جداً يحاولون بكل جهد أن يدفنوه إلى الأبد، لأن هذا السر المكتوم لو تم اكتشافه فسيكون من شأنه أن ينسف أهم المعتقدات الدينية الراسخة في المسيحية. ولذلك كان الحفاظ على هذا السر مكتومًا مسألة حياة أو موت!

ومما يجعل مهمة الأستاذ الجامعي شبه مستحيلة؛ أنَّ هذا السر الدفين يقع تحت وصاية جماعة دينية باطنية تسمى (جمعية صهيون) وهي جمعية سريَّة تأسست عام 1099 ميلاديَّة، وهي تتشكك في كل أحد ولا يمكنها الوثوق في أحد، واحتمالية الوصول لهذا السر من خلالها يعد أمرًا بالغ التعقيد والصعوبة!

تبدأ الرحلة الأستاذ الجامعي، الشاقة والطويلة، حينما يُقتل مدير متحف اللوفر جاك سونيير في أول حدث مهم في تلك الرحلة العلمية، ثم تتلاحق المشاهد لتظهر صوفي نوفو خبيرة الشفرة في الشرطة الفرنسية، ليكتشف الأستاذ الجامعي أنها حفيدة جاك سونيير.

صوفي نوفو ،خبيرة الشفرة في الشرطة الفرنسية، ستكشف (الوثائق السرية) أنه ليس فتاة عادية بل استثنائية، فهي في الحقيقة من سلالة يسوع الناصري (المسيح) من ابنته سارة، وأنه هو رئيس تلك الجمعية الباطنية!

وهذه (الوثائق السرية) التي تؤمن بها (جمعية صهيون) المسيحية؛ تثبت، حسب مزاعمها، أن المسيح رجل عادي قد تزوج من (مريم المجدلية) وأنجب منها بنـتًا سُميت (سارا) وأن ذريتها أصبحت ملكية، وأن وظيفة أعضاء (جمعية صهيون) هي حماية هذه الذرية الملكية والحفاظ عليها!

كما تثبت هذه (الوثائق السرية) –حسب مزاعمهم- أن الإمبراطور (قسطنطين) الروماني هو من زَوَّرَ المسيحية وعبث بها، وأدخل فيها الرموز الوثنية مثل اعتماد يوم 25 ديسمبر الذي هو عيد ميلاد الإله الفارسي (مثرا) عيداً لميلاد المسيح!

ما مضى ليس إلا بعض الوقائع والأحداث التي تروياها رواية قصصية أشهرت عالميًا، معظم أحداثها وما تقدمه من معلومات خرافات وبعضه يستند إلى بعض الدراسات الأكاديمية في مقارنة الأديان. هذه الرواية هي: (شيفرة دافنشي) أو (The Da Vinci Code) للروائي المشهور: دان بروان.

وهكذا تمضي رواية (Da Vinci Code) على هذا المنوال وفق حبكة درامية مثيرة وشيقة، تجعل الرواية وكأنها حقيقة مسلمة، وتستند إلى وقائع تاريخية، ويزداد ذلك الشعور لديك وأنت تنغمس في الوصف الدقيق للأماكن التاريخية والأثرية التي تصفها الرواية وصفاً دقيقاً بروعة لا توصف!

وتزداد الرواية تألقاً بعناصر الإثارة والغموض، وكثرة الألغاز والطلاسم والرموز التي تُحل بشكل فائق ودقيق. كما يقول أهل الخبرة والاختصاص.

هذه الرواية منذ أن ظهرت للنور وهي تثير الكثير من الجدل ليس بين عامة الناس فحسب، بل بين الأكاديميين والمتخصصين في فن الرواية وتاريخ الأديان، وقد بلغت شهرتها حداً كبيراً، حيث طُبع منها عشرات الملايين من النسخ وبأكثر من 50 لغة مختلفة، وأنتج منها فيلمٌ سينمائيٌّ يحمل الاسم نفسه.

الرواية ماتعة ومثيرة، لكن تفاصيلها وجوانبها الأدبية وغموضها وحبكتها لا تهمنا الآن كثيراً، بقدر ما يعنينا مدى تأثير مجرد (رواية قصصية) مثل هذه في الناس، وكيف استطاعت أن تغيَّر بل تقلب قناعات الكثير من المؤمنين بالمسيحيَّة، وهي مجرد رواية؟!

الحديثُ عن تأثير الرواية في الناس حديث كبير ومتشعب، وآثارها ظاهرة للعيان، لكننا سوف نلقي ضوءً يسيراً على هذا التأثير، لنصل للهدف المقصود من كتابة هذا المقال، وهو: أثر الرواية وعمق تأثيرها في الناس: عقديًا وثقافيًا وأخلاقيًا وقيميًّا.

لعل بعض القراء سوف يفاجئون كيف أن رواية (شيفرة دافينشي) كانت سبباً أساساً في تدفق الزوار -وهم يمسكون بنسخة من الرواية- إلى متحف (اللوفر) وكنيسة (سان سولبايس)، وكأن رواية (شيفرة دافينشي) قد تحولت إلى كتاب مقدس للسياحة يسير وفق معطياته هؤلاء السياح!

تقول إيلين مكبرين، مؤرخة فنية في جامعة هارفارد ومؤسسة باريس ميوز للسياحة: "عندما وصل العدد إلى 30 ممن سألوني: هل هذا هو المكان الذي قُتل فيه أمين المتحف؟ أو هل صحيح ما قيل عن لوحة دافنشي عذراء الصخور؟ وتصورت كيف بدأ الناس يقتربون من اللوفر وتساءلت لماذا لا نستفيد من ذلك؟".

وعندها بدأت إيلين مكبرين بتنظيم رحلات مكثفة تحت عنوان (حل شيفرة دافنشي في اللوفر)، ووصلت هذا الرحلات إلى 100 جولة في الشهر لسياح قادمين من أمريكا الشمالية فقط!

كما أشار القسيس المسيحي بول روماني في كنسية (سان سولبايس) إلى أنَّ رواية (شيفرة دافينشي) دفعت عشرات الآلاف من المعجبين بالرواية لزيارة الكنيسة للبحث عن مفاتيح الشفرة!

وتقول ليديا سانفيتو، المرشدة السياحية بروما: "لم أسمع حديثاً إلا عن رواية شيفرة دافينشي بعد أن نشرها الأميركي دون بروان في 2003م، وكان الاهتمام أولاً من قارئين أمريكيين ثم من إيطاليين وجنسيات أخرى، ابتداء من أواخر العام الماضي بعد نشر ترجمات بلغات أخرى في جميع أنحاء العالم".

وتقول السائحة فيكتوريا سينـتون من جوهانسبرج: "اعتقد أن الكتاب يمكن تصديقه بصورة كبيرة". ويقول جوسيبي نبوليون المدير المسؤول عن لوحة دافنشي: "شهد المتحف اهتماماً متجدداً من الناس جاءوا لرؤية هذه التحفة الفنية بعد أن حقق الكتاب شهرة واسعة".

ويواصل جوسيبي نبوليون حديثه فيقول: "للعمل عند لوحة العشاء الأخير وشرحها للزائرين؛ أصبحت قراءة الكتاب مطلوبة من جانب كل العاملين تقريباً، أصبحوا أكثر من أي وقت مضى يسألون أي الشخصيات تمثل يوحنا، ويسألون عن شكل الحرف "V" الذي تشكل بين جسمه وجسم المسيح".

وطبقاً لما ذكرته The Telegraph Daily بتاريخ 3/10/ 2004م، فإنَّ كتاب (شيفرة دافينشي) هو أكثر الروايات الخيالية مبيعاً على الإطلاق.

ولشهرة هذه الرواية تحولت قصتها إلى فيلم سينمائي بلغت تكاليفه حوالي (100) مليون دولار أمريكي، وقام بتمثيله: توم هانكس، وإيان ماك كيلين، وعرض عام 2006م وحصل مؤلف الرواية من وراء روايته على عشرات الملايين!

ودفعت الرواية عشرات الآلاف من الناس الذين وقعوا تحت تأثير ساحرها لزيارة مسرح أحداث الرواية، فتدفقوا  لزيارة متحف "اللوفر"، وكنيسة "سان سولبايس" ولوحة "دافينشي" وتتبع خطوات بطل رواية "الشيفرة" خطوة بخطوة، حتى تحول هؤلاء الآلاف إلى باحثين هواة يبحثون عن آثار مخفية لجمعية صهيون!

هذا في الجانب الثقافي والسياحي، أما في الجانب الديني والتاريخي، والذي خصصت له الرواية حصة الأسد؛ وصدمت الاعتقاد السائد في المسيحية، فقد كان لها تأثير كبير لا يمكن أن يوصف، وقد يصعب فهم -عند كثيرين-: كيف لرواية خيالية أن تزعزع عقائد الناس؟!

يقول القسيس المسيحي بول روماني، الأب في كنسية (سان سولبايس): "أدركُ أن كثيراً من الناس يتعاملون في الواقع مع الرواية على أنها حقيقة راسخة".

ويقول الكاردينال جورج رئيس أساقفة شيكاغو: "إنه كتاب مقنع بالنسبة لكثيرين".

وقامت إحدى عضوات كنيسة الثالوث المقدس بلندن (Holy Trinity) بمتابعة مواقف الناس تجاه المسيحية بعد رواية (شيفرة دافينشي) فوجدت أن هناك تأثيراً قوياً أحدثته تلك الرواية في قناعات الناس.

ومن تلك الشهادات، شهادة رجل قال لها: "إن الرواية تبين أن الكتاب المقدس لا يمكن أن يكون صحيحاً، وأنه حدث تغيير في النص". وتقول فتاة مؤمنة مسيحية: "هذا الكتاب كاد يفقدني إيماني". وتقول فتاة أخرى مسيحية متدينة: "هذا الكتاب جعلني أعتقد أنه ليس لديَّ حقائق واقعية تدعم إيماني".

وتقول ليديا سانفيتو المرشدة السياحية بروما: "إنهم يعذبونني، لم أفاجأ من الأمريكيين، ولكن أذهلني بالفعل أن الايطاليين يطرحون أيضاً مثل هذه الأسئلة بالرغم من تقليدهم الكاثوليكية الراسخة".

وبسبب ما أحدثته تلك الرواية من زعزعة وبلبلة عقدية في عقول المسيحيين، فإنَّ الكنيسة لم تقف مكتوفة اليد، بل حرمت قراءة تلك الرواية ورؤية الفيلم، وأصدرت عشرات البيانات الاستنكارية، وأصدرت الكتب والمقالات الكثيرة للرد على رواية (شيفرة دافينشي)!

يقول تارسيزيو بيرتوني، كاردينال الفاتيكان: "لا تقرأوا ولا تشتروا شيفرة دافنشي"!

ويقول رجل الدين المسيحي الأنبا يوحنا قلته، النائب البطريركي للأقباط الكاثوليك: "شاهدت الفيلم مع مجموعة من أهل العلم والنقد لفنون السينما، وأعلن بصراحة وأمانة أنه فيلم شيطاني ملعون بكل المقاييس".

ويواصل الأنبا يوحنا قلته حديثه المتألم فيقول: "الفيلم يحاول هدم العقيدة المسيحية من أساسها، أي شيطان وراء هذا العمل؟! وأي فكرة جهنمية تريد أن تغزو العقول البريئة والبسيطة؟!".

وقد أُلفت كتب مسيحية كثيرة للرد والتصدي للرواية، ومنها كتاب القس (نكي جمبل) بعنوان: (الرد على الشيفرة) وقدم لهذا الكتاب وقرظه كل من: الدكتور منير حنا أنيس: مطران الكنيسة الأسقفية بمصر وشمال أفريقيا والقرن الأفريقي، والأنبا يوحنا قلته، الأنبا مرقس، مطران الأقباط الأرثوذكس.

وغيرها من ردود الكثيرة والعنيفة للكنسية ورجال الدين المسيحيين. والسؤال الجوهري: أين الأقلام الجادة والهادفة والنبيلة من هذا السحر المفقود، سحر البيان والتبيان، سحر الكلمة والسرد والقصة: سحر الرواية؟

إن باب الرواية لا يزال مغلقاً -أو يكاد أن يكون- أمام القلم الهادف الأصيل، ففي حين كتب أغلب فلاسفة الغرب أفكارهم الفلسفية وروجوها من خلال الرواية، وكذلك فعلت التيارات التغريبية وروجت أطروحاتها الفكرية من خلال الروايات، وأرخوا للأحداث الثقافية والمجتمعات من خلال رواية خيالية!

بل وتطفل المتطفلون على هذا الفن، فكتب الرخيص والهابط من الأفكار والأخلاقيات، واستغلوا الجنس ومحفزاته لترويج رواياتهم. وفي المقابل، يظل هذا الباب شبه مغلقٍ أمام القلم النبيل الهادف الذي لا يزال مهمِلاً أو متجاهلاً هذا الفن العظيم في التأثير على الناس وعلى أخلاقياتهم وقناعاتهم!

التاريخ، المجتمع، الخيال، يمتلك مادة خصبة وعريقة سياسياً وثقافياً واجتماعياً، تستطيع الأقلام أن تصوغوها في رواية مبتكرة تثري الناس. والتاريخ بخطئه وصوابه يشكل مادة خصبة لهذا الفن، يعالج الخطأ ليصحح، ويكرس الصواب ليطبع، والناس بحاجة ماسة لقلم أمين يخط كلماته بأسلوبِ روائي رشيق.

أخيرًا، أتمنى أن أرى هذا الفن مُجسدًا في روايات هادفة ونبيل بخيال محلق وكلمات ساحرة، تجمع ما بين الهدف النبيل والأسلوب الرشيق الجاذب للنفوس والخيال الخصب الخلاق... ودمتم بخير.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply