بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فمن أجلِّ وأكبر نِعم الله على عبده الإنسان نعمة العقل، وأول شرف العقل أنه لا يشترى بالمال، ولو بِيعَ العقل لما اشتراه إلا العاقل لمعرفته بفضله، والعقل المكتسب يقبل الزيادة والنقصان؛ قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الصواب عند جماهير أهل السنة -وهو ظاهر مذهب أحمد، وهو أصح الروايتين عنه، وقول أكثر أصحابه- أن العلم والعقل ونحوهما يقبل الزيادة والنقصان؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: العقل عقلان: عقل غزيري، وعقل مكتسب مستفاد.
وقال العلامة الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: العقل غزيرة يخلقه الله عز وجل في الإنسان، ولكن مع ذلك يكون بالاكتساب، وكم من إنسان ترقى في العقل، حتى وصل إلى درجة لا يبلغه أقرانه بسبب ممارسته وتنمية عقله.
ومن الأسباب التي تزيد في نماء العقل ما يلي:
- تقوى الله بفعل الطاعات واجتناب المحرمات:
قال الشيخ محمد بن سليمان العليط: على قدر طاعة العبد لربه يزيد عقله وتنفتح بصيرته.
ومن الطاعات التي تزيد في قوة العقل: غضُّ البصر عن المحرمات، قال العلامة ابن القيم رحمه الله في فوائد غضِّ البصر: أنه يقوِّي العقل ويزيده... فإذا غضَّ بصره عن محارم الله عوَّضه الله بأن يطلق نور بصيرته عن حبسه بصره لله".
وهذا يعني أن إطلاق العنان للبصر في النظر إلى المحرمات، يحرم العقل من النماء والكمال، فليجاهد العبد المسلم نفسه وليغضَّ بصره عما حرَّم الله عليه النظر إليه، طاعةً لربه، وحرصًا أن يكون ذلك سببًا لكمال عقله ونموه.
- تلاوة القرآن الكريم بتدبر:
قال الله عز وجل: ﴿ كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [ص: 29]، فالقرآن الكريم كتاب كثير الخيرات والبركات، فكم من عقول غيَّرها! وكم من أفكار صحَّحها، ومن بركاته أنه من أهم وأكبر الأسباب التي تُنمي العقل، إذا قُرأ بتدبُّر وتأمُّل وتفكُّر لمعانيه، وهذا التفكر مما يُنمي العقل ويزيد فيه، وإذا كانت القراءة في الكتب المفيدة للبشر - كما سيأتي - تزيد في كمال العقل ونموه، فكيف بكتاب رب البشر الذي ﴿لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ﴾ [فصلت: 42]؟!
تكفَّل من أنزله بحفظه؛ كما قال تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ [الحجر: 9]، فمن عاش معه في ليله ونهاره بقلبه قبل لسانه، أنار الله بصيرته، واتسعتْ مداركه، وزاد عقله.
- معاشرة العقلاء:
قال أبو حاتم البستي رحمه الله: والذي يزداد به العاقل من نماء عقله هو التقرب من أشكاله، والتباعد من أضداده، فعن محمد بن أبي مالك الغزي قال: سمعت أبي يقول: جالسوا الألباء أصدقاءَ كانوا أو أعداءً، فإن العقول تلقح العقول.
فمن رام نماء عقله فعليه بمجالسة العقلاء، ومن أولئك العلماء والصالحون؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأربعة تزيد في العقل:.... مجالسة الصالحين، ومجالسة العلماء.
ومن الأمور التي ينبغي تجنُّبها؛ لأنها تكون سببًا في نقص العقل مجالسة ومعاشرة السفهاء؛ قال شعبة رحمه الله: عقولنا قليلة، فإذا جلسنا مع مَن هو أقل عقلًا منَّا، ذهب ذلك القليل، وإني لأرى الرجل يجلس مع مَن هو أقل عقلًا منه فأمْقته.
وقال الإمام ابن حزم رحمه الله: فينبغي أن يكون فيمن تؤثر صحبته خمس خصال: أن يكون عاقلًا، حسن الخلق، غير فاسق، ولا مبتدع، ولا حريص على الدنيا.
أما العقل، فهو رأس المال، ولا خير في صحبة الأحمق، فإنه يريد أن ينفعك فيضرك، ونعني بالعاقل الذي يفهم الأمور على ما هي عليه؛ إما بنفسه، وإما أن يكون إذا أُفهِم فَهِمَ.
- التعلم والمران:
قال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: إن العقل ينمو بالتعلم والتحصيل، والدربة والمران، كالجارحة التي تكتسب المهارة من دوام العمل.
فليحرص الإنسان على استخدام ما وهبَه الله عز وجل من مواهب تساعد على نمو العقل وكماله؛ كالحفظ، والتذكر، والتركيز، والمقارنة، والتحليل، وعدم تعطليها اعتمادًا على وسائل التقنية والاتصال الحديثة، فإن الاعتماد التام على تلك الوسائل مما يُضعف نماء عقله وكماله.
- مشاورة العقلاء وأهل الخبرة والاختصاص وطلب النصيحة منهم:
قال أحد السلف: الرجال ثلاثة: رجل، ونصف رجل، ولا شيء، فالرجل من كان له عقل ويشاور العقلاء، ونصف الرجل هو الذي يشاور العقلاء ويأخذ برأيهم، والذي لا شيء هو الذي لا عقل له، ولا يشاور أحدًا.
ومن شاور أهل الأحلام والنهى، وأهل الأمانة والتقى، ممن حنكتهم التجارب، فإن ذلك مما يزيد في نماء العقل وكماله؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: والنصيحة لقاح العقل، فكلما قوِيت النصيحة قوِي العقل واستنار.
قال الإمام الماوردي رحمه الله: قال بعض البلغاء: مِن حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراءَ العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفردُ ربما ضلَّ.
- الاستفادة من التجارب:
الاستفادة من التجارب التي تمرُّ بالإنسان طوال حياته من أسباب نمو العقل وكماله؛ قال أبو حاتم البستي رحمه الله: لا يكون المرء بالمصيب في الأشياء حتى تكون له خبرة بالتجارب، وكانت العرب تقول: العقل التجارب.
ومن استفاد من التجارب التي تمرُّ به، لم يلدغ من جحر واحد مرتين، فاللدغة الأولى جعلته يتقي اللدغة الثانية.
- تجنُّب فضول الكلام:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وأربعة تزيد في العقل: ترك الفضول من الكلام.
- قراءة الكتب الطيبة النافعة:
قال الإمام المرداوي في منظومته "الآداب"
وخير جليس المرءِ كُتب تُفيدُهُ *** عُلُومًا وآدابًا كعقل مُـؤيد
قال شارح المنظومة الإمام السفاريني رحمه الله: كتب جمع كتاب، تفيده بمطالعتها فيها، وإمعان نظره، وسبْره لها، (علومًا)... وتفيده الكتب أيضًا: (آدابًا)... كما تفيده الكتب أيضًا بمطالعتها ولزوم التفهيم في معانيها عقلًا.
والمقصود بالكتب التي لها دور في نمو العقل وكماله: الكتب النافعة التي على منهج السلف الصالح رضوان الله عليهم، مع الحذر من كتبٍ يدَّعي مؤلفها أنها تزيد العقل عقلًا، وهي في الحقيقة عبارة عن كلام مزخرف ليس فيه إلا تضييع الزمان، وإتعاب الأذهان، وكثرة الهذيان، وشغل النفوس بما لا ينفعها، بل قد يُضلها، وفي أقل الأحوال تركها في شكوكٍ وحيرة، يأتي على رأس تلك الكتب: كتب الفلاسفة المتقدمين والمتأخرين، ومن سار على دربهم واتبع منهجهم.
ومن جمع الله له بين العقل المطبوع والمكتسب، فقد نال خيرًا كثيرًا؛ قال العلامة ابن القيم رحمه الله: فإذا اجتمعا في العبد، فذلك فضل الله يؤتيه من يشاء، واستقام له أمره، وأقبلت عليه جيوشُ السعادة من كلِّ جانب... وإذا انفردا نقصَ الرجلُ بنقصان أحدهما.
ومن وفَّقه الله ونال العقلين تمكَّن بتوفيق الله عز وجل وفضله أن يستثمر قدراته العقلية فيما ينفعه، وابتعد عن التخبط والعشوائية، وعالج الأمور بحكمة، وألحق الأسباب بالمسببات، واستفاد من الماضي لبناء الحاضر، والتخطيط للمستقبل، وعرَف أن المقدمة الصحيحة تؤدي إلى نتيجة صحيحة، والعكس بالعكس، واتسعت جميع مدارك التفكير لديه.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد
التعليقات ( 1 )
شكر
-لقمان
12:03:10 2019-08-24