حول كتاب بناء الإنسانيَّة


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

‏الكتاب الثاني في هذه السلسلة هو كتاب (بناء الإنسانيَّة) لروبرت بريفولت (1948م)، وهو طبيب فرنسي، وأنثروبولوجي اجتماعي، وروائي. والحديث عن كتابه بمناسبة مروف الذكر المائة عليه هذه السنة، حيث صدر لأول مرة سنة 1919م، في 371 صفحة.

‏مع أنَّ هذا الكتاب المهم صدر قبل مائة سنة باللغة الإنجليزية، إلا أنَّه لم يترجم إلى العربية حتى هذا اليوم، فيما أعلم، ولم يتعرف عليه القارئ العربي إلا من خلال بعض النقولات عنه التي وصلته من خلال محمد إقبال وغيره من المفكرين الذين كتبوا عن الحضارة الإسلامية.

‏هذا الكتاب مُكَرَّس لإثبات نظرية أنَّ تطور البشريَّة، هو ما يصنع الإنسانية، وأنَّ التكفير العقلي هو الأداة الرئيسة لهذه العملية.

‏و تطور البشريَّة، يعني النمو الطبيعي لحياة الإنسان من الحياة البدائية إلى الحياة الاجتماعية المنظمة بعقلانية، والتي من شأنها تلبي متطلبات الحياة البشرية. ويعني بالإنسانية: الحياة البشرية المنظمة الكاملة، وهي وحدة عضوية حقيقية مقدمة وفوق الكائنات الحية الفردية التي تتكون منها.

‏ولأنَّ هذا الكائن البشري، في نظر المؤلف، ليس شيئًا موجودًا بالفعل كحقيقة منتهية، ولكنه شيء في طور الإعداد، فغرض المؤلف هو وصف كيفية تكوينه. هذا الوصف يأخذ بطبيعة الحال شكل فلسفة التاريخ. والمشكلة هي: ما هو العامل الثابت والسبب الحقيقي للتقدم البشري؟

ينتقد المؤلف نظريات النمو الذاتي، التي تحاول تفسير تقدم الإنسان من خلال القدرات العقلية للإنسان أو بسبب خصائصه العرقية، على أساس أنها أهملت مراعاة عوامل تكيف الإنسان مع البيئة، فدار الحوار في حلقة مفرغة. كذلك لا يفسر التقدم البشري من خلال القول إنَّ الإنسان بطبيعته حيوان متقدم.

‏إنما يصبح السياق الحقيقي للسبب والأثر قابلاً للفهم، بدلاً من التركيز على العقل والعرق،  عندما يتم توجيه الانتباه إلى البيئة التي يتفاعل فيها البشر ويتطورون.

‏كذلك عندما ننتقل إلى النظريات الخارجية، نظريات الحتميَّة الجغرافية والاقتصادية، فهي أيضًا غير كافية لأنها تهمل العوامل البشرية. إنَّ التغيرات الجغرافية والاقتصادية يمكن أن تفسر التغيرات في حياة الإنسان، ولكن ليس لا تفسر تقدمهم المستمر.

‏نحن لا نكتشف إطلاقًا السبب الحقيقي في الظروف الطبيعية للتقدم، لأنَّ السبب، على الأقل عند الحديث عن العمليات التقدمية، هو أكثر من عامل تكييف. إنه عامل ثابت. وبالتالي، لا يمكن للتغيرات البيئية وحدها أن تُعلل الاستمرارية التي يبدو أنها سمة من سمات التطور البشري.

‏إنَّه لا يمكن العثور على السبب الكافي إلا من خلال دراسة الإنسان في علاقاته مع بيئاته، وفي مجال بيئة التكيف البشري يمكن العثور على السبب الحقيقي للتقدم. ولهذا، يُحاول المؤلف إثبات أنَّ نوع رد الفعل، الذي يسميه الفكر العقلاني، هو السبب الأساس للتقدم البشري. التفكير العقلاني هو آلية تكيِّف الإنسان العجيبة.

أما ما يخص اللاعقلانية في تاريخ البشرية، فالمؤلف يرى أنَّ أكثر أشكال  الفكر اللاعقلاني صلابة وشراسة هما: الأعراف، وفكر القوة. فالتفكير الأعراف هو التفكير الذي تهيمن عليه التقاليد، والعادات، والدوغمائية. أما فكر القوة فهو الذي يهيمن عليه ممارسة قوة الفرد أو الطبقة على الآخرين.

‏فكر الأعراف يأخذ صعوده في أشكال التفكير البدائي المبكر. أما فكر القوة فهو نتاج التمايز المتزايد باستمرار في المجتمع إلى طبقات ومصالح متضاربة، وما يترتب على ذلك من السيطرة على القوة من قبل البعض الآخر. ومع استمرار هذه العملية، يصبح فكر القوة أكثر انتشارًا وسائدًا.

‏وتاريخ البشريَّة -في نظر المؤلف- ليس إلا صراعًا بين التفكير العقلاني وبين الشكلين غير العقلانيين للتفكير: فكر الأعراف، وفكر القوة. وعندما نجد في التاريخ الإنساني تعثرًا وإحباطًا للتقدم، فلا بد أن نجد أنَّ السبب في ذلك هو وجود أحد هذين العاملين أو وجودهما معًا.

‏ثم يتحدث المؤلف عن ثلاث مراحل متميزة طبعت مسار التطور البشري: أولاً: المرحلة القبلية البدائية، التي حكم فيها فكر الأعراف والتقاليد مطلقة. ثانيًا: خلفت تلك الحالة الحضارات الشرقية الكبرى التي يهيمن عليها كليًا فكر السلطة الثيوقراطية. ثالثًا: تأتي تجربة اليونان الناجحة، التي تحرر العقل البشري تمامًا تقريبًا من الفكر العرفي والقوة.

‏ومع أنَّ التجربة اليونانية كانت تستخدم جميع بيانات الفكر العقلاني المتاحة لها، إلا أنها لا تسهم إلا قليلاً في زيادتها، وفقرها ذلك يشل قدرتها التي تستمدها من الحرية. واستمر العالم يحتوي على الكثير من الهمجية والكثير من السمات الشرقية، أخيرًا تستسلم المرحلة الحضارة اليونانية-الرومانية لمد هائل من هذه العناصر التي تغمرها وتطغى عليها.

‏رابعًا: المرحلة الرابعة أو الحديثة، وهي بكل معنى الكلمة تطور جديد، ومن المفترض عادةً أن تبدأ بـ النهضة الأوروبية. لكن المؤلف يرى في النهضة المزعومة عقبة، وليست سببًا للتقدم. وكان يهيمن عليها تمامًا فكر القوة. إنها مرحلة تحذلق ومصطنعة حتى النخاع.

‏إنَّ النهضة الحقيقية لأوروبا –في رأي المؤلف- تعزى إلى أسباب أخرى، إنَّها تُعزى إلى: أولاً: تطور العلوم الطبيعية بين العرب والأندلسيين، وانتشارها في أوروبا. ثانيًا: الثورة التجارية. ثالثًا: قوة العقل التي كشفت عن التناقضات في لاهوت العصور الوسطى.

‏"الكتاب قيمٌ لأنَّه يلقي الضوء على العديد من الفروق الأخلاقية لدينا، ومن المستحيل هنا حتى الإشارة إلى العديد من الأفكار الذكية التي يزخر بها الكتاب. إنَّ المؤلف يستحق تبريرّا أكثر إيجابية من ذلك. في الوقت الذي يبدو فيه أنصار الذكاء محبطون بشكل واضح، فإن تقديم دفاع متحمس عن قوة العقل هو خدمة حقيقية". هربرت شنايدر

 

‏بعض نصوص روبرت بريفولت عن الحضارة الإسلاميَّة:

‏"ليس ثمة ناحية واحدة من نواحي الازدهار الأوروبي إلا ويمكن إرجاع أصلها إلى مؤثرات الثقافة الإسلامية بصورة قاطعة. إنَّ الدَّين الذي على علمنا تجاه علم العرب ليس فيه أنه احتوى على الاكتشافات المذهلة أو النظريات الثورية؛ بل العلم مَدِين بما هو أكبر وأعظم من ذلك للثقافة العربية، فالعلم مدين لهم بوجوده نفسه".

‏"إن روجر بيكون درس اللغة العربية والعلم العربي والعلوم العربية في مدرسة أكسفورد على خلفاء معلميه العرب في الأندلس. وليس لروج بيكون ولا لسميه [=فرنسيس بيكون] الذي جاء بعده الحق في أن يُنسب إليهما الفضل في ابتكار المنهج التجريبي. فلم يكن روجر بيكن إلا رسولاً من رسل العلم والمنهج الإسلاميين إلى أوروبا المسيحية، وهو لم يملَّ قط من التصريح بأن تعلم معاصريه للغة العربية وعلوم العرب هو الطريق الوحيد للمعرفة الحقة. والمناقشات التي دارت حول واضعي المنهج التجريبي هي طرف من التحريف الهائل لأصول الحضارة الأوروبية. وقد كان منهج العرب التجريبي في عصر بيكون قد انتشر انتشارًا واسعًا، وانكب الناس في لهف على تحصيله في ربوع أوروبا".

‏أخيرًا، مع أن السيد أبو النصر أحمد الحسيني، في سنة 1337هـ، ترجم بعض فصول الكتاب التي تعلق بالحضارة الإسلامية في كتاب عنوانه: (أثر الثقافة الإسلامية في تكوين الانسانية)، ولم أقف عليه، و"علق عليها دفاعًا وشرحاً" في 239 صفحة، إلا أن الكتاب يستحق الترجمة كاملاً، ترجمة عصرية دقيقة.

انتهى.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply