بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
الخطبة الأولى:
أيها المسلمون: أوصيكم ونفسي بتقوى الله تعالى, فاتقوا الله على الدوام, (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) [آل عمران:102].
أيها الإخوة في الله: إن الله سبحانه خلق الإنسان وجعله أعظم وأكرم وأشرف مخلوق على وجه الأرض، فقال تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) [التين:4].
فالإنسان عجيب في تكوينه الجسمي، وغريب في تكوينه الروحي, وفيه من الأسرار العظيمة ما لا يعد ولا يحصى.
لذلك أمرنا الله تعالى بالنظر والتفكر في أنفسنا، فقال تعالى: (وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ) [الذاريات:21].
والله تعالى بين أنه سيُري الناسَ آياته في الآفاقِ والأنفسِ حتى يتحقق لهم اليقينُ بأن رسالة محمدٍ صلى الله عليه وسلم حق، فقال تعالى: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) [فصلت:53].
لذلك جعلت الشريعة الحفاظ على حياة وصحة الإنسان أحد الضروريات الأساسية التي أمرت الشريعة بالحفاظ عليها وحمايتها وتنميتها, فحذرت الشريعة الإسلامية من إيقاع النفس في مواطن الهلاك، فقال تعالى: (وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ) [البقرة:105], وقال تعالى: (وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا) [النساء:29].
والدنيا ما هي إلا دار بلاء وأمراض، ظل زائل، ومتاعٌ منتهٍ؛ ما من إنسان في هذه الدنيا إلا ولا بد أن يواجه فيها مرضا وعافية، وسرورا وفرحا وحزنا، وسراء وضراء.
كل هذا لماذا؟ لأن الله يقول: (تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) [الملك:1-2]، ويقول: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) [الكهف:7].
ومع (ما عُلِم عن) متاع الدنيا الزائل، وتنغصها، وتكدرها بالأمراض والموت، إلا أن الشريعة الإسلامية أمرت بالاحتياط والحذر، فأمرت بالتداوي من الأمراض، فعن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "لكل داء دواء، فإذا أصاب دواء الداء برأ بإذن الله عز وجل".
لقد أمرت الشريعة بالتداوي ومجانبة أسباب الإلقاء باليد إلى التهلكة.
ولنا اليوم عدةُ وقفات مع الأمراض، خاصة المعدية، أو التي لا يرجى برؤها عند الأطباء.
الوقفة الأولى: إن الإسلام أمر المسلم بالتوكل على الله في جميع أموره, (وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) [المائدة:23], (وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ) [الطلاق:3]، فلا يخاف المسلم إلا من الله.
كل هذا مع أخذه بالأسباب المباحة أو الواجبة شرعا, دون إيذاء أو تخويف للآخرين, كتخويفهم بتلك الأخبار السيئة عن بعض الأمراض المعدية, والشائعات المكذوبة، دون أدنى تبيّن أو تثبت, وفي ذلك يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: "لا عدوى ولا طيرة، ويعجبني الفأل"، قالوا: وما الفأل يا رسول الله؟ قال: "الكلمة الطيبة أو الحسنة" رواه أبو داود والترمذي، وقال: حسن صحيح.
فالمرض والشفاء بيد الله عز وجل: (وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ) [الشعراء:80]، والتداوي والعلاج ما هو إلا أخذ بالأسباب التي أودعها الله تعالى في الكون، وهو أمر مشروع، لا يتعارض مع قضاء الله وقدره.
الوقفة الثانية: الإسلام دينُ الكمالِ والجمالِ والنظافةِ؛ لذلك أمر الإسلام بالغسل والتطهر من الأوساخ والأدران التي هي مرتع للأمراض وسبب في نقلها وانتشارها, فقال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ وَإِن كُنتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُواْ) [المائدة:6]، وقال تعالى: (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ) [البقرة:222].
وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "حقٌّ على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام يوماً يغسل فيه رأسه وجسده".
وفي صحيح مسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "الطّهور شطر الإيمان"، حيث جعل النظافة والتطهر نصف الإيمان.
وكذلك فإن الإسلام قد أمر بنظافة الفم والأسنان، حيث شرع لنا النبي صلى الله عليه وسلم سنة السواك، فقال عليه الصلاة والسلام: "لولا أن أشقّ على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل وضوء".
والشريعة أمرت بحفظ الأطعمة ونظافتها، ففي صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "غطوا الإناء, وأوكئوا السقاء, فإن في السنة ليلةً ينزل فيها وباء لا يمر بإناء ليس عليه غطاء، أو سقاء ليس عليه وِكاء، إلا ونزل فيه من ذلك الوباء".
والأدلة من الآيات والأحاديث الدالة على مشروعية النظافة والتطهر كثيرة جداً, وفيها وقاية بإذن الله من كثير من الأمراض والأوبئة المنتشرة.
الوقفة الثالثة: إن التصور الصحيح وسلامة الاعتقاد حول الأمراض المعدية أنها لا تتعدى بذاتها, إنما تتعدى بمشيئة الله عز وجل, فإن شاء الله عز وجل أن يتعدى المرض من واحد إلى آخر انتقل إليه المرض, وإن لم يشأ الله عز وجل أن لا ينتقل المرض إليه لم ينتقل، وفي هذا يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: "لا عَدْوَى، وَلا طِيَرَةَ، وَلا هَامَةَ، وَلا صَفَرَ" رواه البخاري.
وقوله: "لا عدوى" نفي أن تفعل العدوى فعلها من دون أمر الله عز وجل, ومن دون إرادته, بل يجب أن تأخذ بكل الأسباب, وألا تعزوَ المرض إلا إلى قضاء الله وقدره.
ولقد أحدث هذا القول إشكالاً عند بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخاصة أنهم يلمسون في حياتهم اليومية انتقال المرض بالعدوى من واحد إلى آخر، فما كان من أحدهم إلأ أن عقَّب على قول الرسول صلى الله عليه وسلم متسائلاً، ومتناولاً مثالاً من الواقع اليومي والملموس عن انتقال المرض بالعدوى
فقد روى الإمام أحمد والترمذي من حديث ابن مسعود رضي الله عنه قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: "لا يعدي شيء شيئا"، فقام أعرابي فقال: يا رسول الله، النُّقْبَة من الْجَرَب تكون بِمِشْفَرِ البعير أو بِذَنَبِه في الإبل العظيمة فَتَجْرَبُ كلُّها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "فما أجْرَبَ الأول؟ لا عدوى، ولا هامة، ولا صفر، خلق الله كل نفس فكتب حياتها ومصيبتها ورزقها".
قوله: "فما أجرب الأول"، يريد أن أول بعير جرُب منها، كان جربُه بقضاء الله وقدره لا بالعدوى، فكذلك ما ظهر بسائر الإبل من بعد.
ومجموع النصوص الشرعية تشير إلى وجوب اجتناب الأسباب المؤدية إلى انتقال العدوى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بشأن الطاعون، وهو مرضٌ مُعْدٍ: "إذا سمعتم به بأرض فلا تقدمُوا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تَخْرُجوا فِرارا منه" رواه البخاري ومسلم.
وقد فهم هذا المعنى أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما أراد دخول الشام ومعه كبار الصحابة وقد استشرى الطاعون فيها ومات الآلاف، فأخذ بالأسباب والحذرِ والحيطةِ ورجع ومن معه إلى المدينة, وهذا هو الحَجرُ الصحي بعينه بلغة اليوم.
وقال صلى الله عليه وسلم: "لا يُورِد مُمْرِضٌ على مُصِحّ" رواه البخاري ومسلم, فنهى صاحب الإبل المراض أن يوردها على صاحب الإبل الصحاح.
وقال صلى الله عليه وسلم: "فِرّ من المجذوم فرارك من الأسد", وهذه دعوة إلى التنفير من الاقتراب من صاحب المرض المعدي؛ وذلك تجنباً لسببه بعدم التعرض لأسباب العدوى.
وقد سلك الرسول صلى الله عليه وسلم الأسباب المؤدية لعدم انتقال العدوى نتيجة الأمراض المعدية، فقد أخرج مسلم في صحيحه من حديث عمرو بن الشريد عن أبيه قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم: "إنا قد بايعناك فارجع".
وكانت البيعة تتم بطريق اللمس، وذلك بوضع اليد في اليد، ولا يوجدُ أوضح وأصرح من هذا النص في تجنب التعامل مع المريض المصاب بمرض معدٍ.
إن في هذه الخطوات الشرعية محاصرة للمرض، ومنعا لانتقاله إلى الأصحاء، ومنعا لخطره بإذن الله.
وليعلم كل مسلم أنه ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة, والله سبحانه يبتلي عباده في هذه الحياة الدنيا.
يقول العلامة ابن القيم رحمه الله: "لولا محن الدنيا ومصائبها لأصاب العبد من أدواء الكبر والعجب والفرعنة وقسوة القلب ما هو سبب هلاكه عاجلا وآجلا، فمن رحمة أرحم الراحمين أن يتفقده في الأحيان بأنواع من أدوية المصائب تكون حمية له من هذه الأدواء، وكما قيل:
قد ينعم الله بالبلوى وإن عظمت *** ويبتلى الله بعض القوم بالنعم.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ) [الشورى:30].
نفعني الله وإياكم بما سمعنا. أقول هذا القول وأستغفر الله.
الخطبة الثانية:
أيها المسلمون: ولنا وقفة أخيرة مع من ابتلي بأمراض معدية أو لا يرجى برؤها: إنه ينبغي على المسلم المريض المبتلى بمرض معدٍ أو مرض لا يرجى برؤه أن يصبر ويحتسب الأجرَ عند الله تعالى، ولا ييأس من الشفاء، فالشفاء بيد الله تعالى وحده, فَلْيَتَضَرَّعْ وليلتجئ ولينكسر بين يدي الله تعالى, فإن الله سبحانه قريب لا يرد سائلاً، وما الطبيب ولا الدواء إلا وسائل لوقوع قضاء الله وقدره.
فهذا أيوب عليه الصلاة والسلام يخبرنا الله تعالى عن خبره وما ابتلاه به من الضر في جسده، وماله، وولده، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليم سوى قلبه، ولم يبق له من حال الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه، ونفر عنه الخلق، غير أن زوجته حفظت ودَّه؛ لإيمانها بالله ورسوله، فاستجاب الله له (وكتب له الشفاء).
قال الله تعالى عنه في كتابه: (وأيُّوبَ إذْ نادَى ربَّه أنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وأَنْتَ أَرْحَمُ الرّاحِمينَ * فاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وآَتَيْنَاهُ أَهْلَهُ ومِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدَنَا وذِكْرَى لِلعَابِدِينَ) [الأنبياء:83-84].
ولا يتمنى المسلم الموت لضرٍ نزل به؛ لما ورد في الصحيح من النهي عن القنوط من رحمة الله عز وجل, وليعلم أن ابتلاء الله له بهذا المرض علامة على حب الله لعبده, لتمحيصه من ذنوبه في دار الدنيا الفانية, ليرتفع درجات في دار الآخرة الباقية, فما يصيب المسلم شيء إلا كفر الله به من خطاياه, وما عند الله خير وأبقى.
فعن أنس بن مالك رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "عظم الجزاء مع عظم البلاء, وإن الله إذا أحب قوما ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" أخرجه ابن ماجة والترمذي وحسنه.
وقد ابتلي بالأمراض القاتلة الأنبياء والمرسلون والصحابة وسلف الأمة رضوان الله عليهم, فصبروا وصابروا؛ لما يعلمون من عظيم أجر الله تعالى.
والله يبتلي عباده بالسراء والضراء، فعن صهيب رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عجباً لأمر المؤمن! إن أمره كله خير، وليس ذاك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له".
اللهم احم بلادنا وبلاد المسلمين شر الأمراض والأوبئة، ما ظهر منها وما بطن, اللهم ارفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد