وصية الرسل لأقوامهم بالتقوى في ضوء سورة الشعراء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

إنّ التقوى مِن أهم القيم التي حرص الإسلام على تحلّي المسلم بها؛ لأنّها ملاك كلِّ أمر، وجماع كلِّ خير، وغاية الدِّين.

ولا يخفى على أحد أنّ الوعي الإسلامي في الزمن الحاضر في أمسّ الحاجة إلى تنمية الشعور بالرقابة الذاتية، فجاء هذا المقال لِيسلّط الضوء على وصية الرسل عليهم السلام بالتقوى، وذلك من خلال سورة الشعراء؛ لِيُسهم في إصلاح بعض جوانب الخلل التي اعترت الجسد الإسلامي عامة؛ جرّاء ضعف التقوى، وسأخصص الحديث في هذا المقال في العناصر الآتية:

* المقصود بمصطلح التقوى

التقوى لغة: اسم مأخوذ من الوقاية، وعرّفها الراغب بأنها "حِفظ الشيء مما يؤذيه ويضرّه" (2)

أمّا التَّقوى في الاصطلاح، فقد عُرِّفت بتعاريف عديدة؛ ومِن التعاريف الجامعة لها ما ذكره الجرجانيّ بأنّها يراد بها الإخلاص إذا وَردت في الطّاعة، ويراد بها التّرك والحذر إذا وَردت في المعصية. (3)

ويُلحظ أنّ مفهوم التقوى في الاصطلاح الشرعي يوافق مفهوم التقوى في المنظور القرآني، حيث تردّدت التقوى بمعناها القرآني في التنزيل العزيز على صورتين أساسيّتين؛ ففي الصورة الأولى: تُضاف إلى اسم الله ﷻ؛ باعتباره أهلًا لِأن نتّقيَه، فيكون المعنى: اتقاء غضب الله ﷻ وعقابه الدنيوي والأخروي، وفي الصورة الثانية: تُضاف إلى عقاب الله ﷻأو مكانه، أو زمانه، ومن ذلك قوله ﷻ: {وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللهِ}[البقرة:281]، وفي ظلال هذه المعاني جاءت كذلك وصايا الرسُل عليهم السلام جميعهم لأقوامهم بها.

* عناية القرآن الكريم بالوصية بالتقوى

للتقوى في القرآن الكريم أهمية بالغة، ومما يدل على ذلك ما يأتي:

* الورود المتكاثر لمادة التقوى في القرآن الكريم، إذ لمْ يتكرر موضوع في القرآن الكريم كلّه بعد موضوع الإيمان مِثل موضوع التقوى؛ وذلك اعتناءً بشأنها، حيث وردت التقوى في مئتين وثمانية وخمسين موضعًا بتصاريفها المتعددة،(4) وهذا دليل بيِّن على الأهمّية القصوى التي تَحظى بها هذه الخصلة.

* توارد الآيات الكريمة الآمِرة بتقوى الله ﷻ، حيث أَمَر المولى ﷻ بها عباده عامّة، مثلما أمَر بها المؤمنين خاصة، حيث حكى ﷻ: {يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله}. [التوبة: 119]، ويأمَر المولى ﷻ بها خاتم الأنبياء محمدًا ﷺ بهذا النداء الصارم: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}. [الأحزاب: 1]، وبمثله خاطب ﷻ  أمّهات المؤمنين، فقال ﷻ: {وَاتَّقِينَ اللَّهَ}. [الأحزاب: 53].

2 الأصفهاني: المفردات في غريب القرآن, (ص: 881).

3 انظر, الجرجاني: التعريفات, (ص: 65).

4 انظر, عبد الباقي: المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم بحاشية المعجم الشريف, مادة (وقى), (ص 757- 761).

* أنها صفة للرسل عليهم السلام، ومِن شواهد ذلك أنّ الله ﷻ وصف بها نبيّه يحيى عليه السلام، وذلك في قوله ﷻ: {وَكَانَ تَقِيًّا}[مريم: 13]، كما وصف ﷻ بها رسُله عليهم السلام عموما، حيث حكى عنهم قائلًا: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}[الزمر: 33] والصادقون هم مجموع الأنبياء.

* أنّ الله ﷻ جعَلها أعظم وصايا رسُله عليهم السلام إلى أقوامهم، وهذا ما سنتحدث عنه في العنصر التالي.

* وصية الرسل عليهم السلام لأقوامهم بالتقوى من خلال سورة الشعراء

الرسل عليهم السلام هم سادات المتقين، وقد قص الله ﷻ علينا في كتابه العزيز جانبًا من حرص العديد منهم عليهم السلام على تذكير أقوامهم بقضية التقوى، والمتأمل في سُور الذِّكر الحكيم، يجد أنّ سورة الشعراء هي أكثر السور تكرارًا لدعوة الرسل عليهم السلام لأقوامهم بالتمسك بهذه الوصية العظيمة الشأن.

فهذا نوح ﷻ يوصي قومه بالتقوى، وذلك في أكثر من موضع في سورة الشعراء، كما حكى ﷻ عنه:‏ {كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)} [الشعراء: 105 - 110].

وهذا هود ﷻ يوصي قومه بالتقوى، وذلك في أكثر من موضع في سورة الشعراء، كما قال الله ﷻ: {كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136)}[الشعراء: 123 - 136].

وهذا لوط ﷻ يوصي قومه بالتقوى، وذلك في أكثر من موضع في سورة الشعراء، كما قال ﷻ:‏ {كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163}[الشعراء: 160 - 163].

وهذا خطيب الأنبياء شعيب ﷻ يوصي قومه بالتقوى، وذلك في أكثر من موضع في سورة الشعراء، كما حكى ﷻ عنه:‏ {كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180) أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ}. [الشعراء: 176 – 185].

وهذا الكليم موسىﷻ يوصي قومه بالتقوى، وذلك في موضع واحد في سورة الشعراء، كما في‏ قوله ﷻ:‏ {وَإِذ نَادَى رَبٌّكَ مُوسَى أَن ائتِ القَومَ الظَّالِمِينَ (10) قَومَ فِرعَونَ أَلَا يَتَّقُونَ (11)}. [الشعراء: 10- 11].

* القيم التربوية المستنبطة مِن وصية الرسل عليهم السلام لأقوامهم بالتقوى

والمتأمل فيما سبق من وصايا الرسل عليهم السلام لأقوامهم بالتقوى، يلحظ ما يأتي:

1- التقوى فريضة وليست فضيلة فحسب، ومِن شواهد ذلك تعاقبُ الأوامر الصريحة التي تردّدت على ألسنة العديد من الرسل عليهم السلام، حيث رَدّدوا كثيرًا هذا الأمر الصارم بنصّه: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ}، وفي هذا  الأمر دلالة واضحة على أنّ التقوى صفة لازمة لكلّ مسلِم.

2- تنوَّع أساليب دعوة الرسل عليهم السلام أقوامَهم إلى التقوى، فتارةً تأتي بصيغة الأمر الصريح، كخطابهم لأقوامهم بلفظ {فاتقوا الله} ونحوه، وتارة تأتي بأسلوب الاستفهام التحضيضي أو الإنكاري، كخطابهم لأقوامهم بلفظ {ألَا تتقون}؟ ونحوه، وأخرى بأسلوب الترغيب، كتذكير أقوامهم بنِعم الله ﷻ عليهم، وتجلّى ذلك في وصية شعيب ﷻ لقومه بقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ}. [الشعراء: 184]، كما تجلّى في وصية هود  ﷻلعاد بقوله: {واتقوا الذي أَمدّكم بما تعلمون} [الشعراء: 132]، وبالتالي فحريٌّ بكلّ عاقل أن ينوِّع بين الأساليب التي تؤثّر في المدعوّين؛ ليرتقي بهم إلى منزلة المتقين.

3- ضرورة استمرار المربِّين في التذكير بقضية التّقوى؛ وذلك لأن المرء يحتاج إليها في كلّ حالاته؛ كي تقوِّيه في حالة ضعفه، ولِتثبّته عليها في حالة ابتلائه، ولِتزيده منها في حالة مراقبته لله ﷻ، ومن هنا تكرّر الأمر بتقوى الله ﷻ على ألسنة كثير من الرسل عليهم السلام، فكم تردّدت عبارة: {فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ} في خطابهم؟ إننا نجدها تتكرر على لسان كلٍّ من نوح وهود وصالح ولوط وشعيب عليهم السلام؛ وذلك بعد استعمالهم لأسلوب الاستفهام: {أَلَا تَتَّقُونَ}، وما فتئ الرسل عليهم السلام عن الحث على التمسك بها مرارًا وتكرارا، فهذا نوح ﷻ يوصي قومه بها ثلاث مرات متتالية، ونجد شعيبًا  عليه السلام يعود لِيُذكّر بها ثالثة بقوله: {وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ} [الشعراء: 184]، ونجد هودًا عليه السلام يوصي قومه بها أربع مرات متتالية، وعليه ينبغي أن يوقن المربُّون والمصلحون أنّ التقوى ليست مقامًا لا يرقَى إليه إلا الخواصّ من الناس فقط، كما أنها ليست مفهومًا نظريا، وإنما في جوهرها حالة روحانية ينبغي أن تتجسد في سلوك فئات المجتمع جميعها، وإلا لمَا كان لوصايا الرسل عليهم السلام أقوامهم بها وتردادهم لها أيّ معنى.

4- رسالة الرسل عليهم السلام جميعًا واحدة، وأنّ المرسلين عليهم السلام قاطبة يَنتسِبون إلى أصلٍ واحد، هو عقيدة الإسلام، ويُلحظ هذا المعنى من تعاقبُ ثلّة مباركة من الرسل عليهم السلام على تكرار التذكير بقضية التقوى حتى بالصيغ والأساليب ذاتها، وفي ذلك إيماء إلى أنّ الوصية بتقوى الله ﷻ مما اتفقت فيه شرائع الأنبياء عليهم السلام.

5- التقوى وصية الله ﷻ الكبرى لرسُله الكرام عليهم السلام كافة إلى أقوامهم، فما مِن نبيّ إلا وأوصى أمّته بها، بل بلغت العناية الربانية بهذه القضية مبلغًا عظيما، حيث جعلتها وصيّته لكلَّ البريَّة إلى يوم الدين، فقال ﷻ: {وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ}[النساء:131]، قال القرطبي رحمه الله: "الأمر بالتقوى كان عامًّا لجميع الأُمم" (5)

وبالتالي فحريٌّ بكلّ المسلمين حكّامًا ومحكومين أن يعظِّموا هذه الوصية الجليلة التي عظّمها اللهُ ﷻ ورسلُه عليهم السلام، وأن يَتحلّوا بتقوى الله ﷻ في أحوالهم جميعها في أنفسهم أولا، ثم يذكِّرون بها غيرَهم، ويجتهدون في إصلاح قضايا المسلمين سواء السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية بها.

5 القرطبي: الجامع لأحكام القرآن, (5/ 408).

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply