تزكية النفوس في شهر الصوم والصبر


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

فالإنسان من طبيعته الظلم والجهل, قال الله جل جلاله: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً } [الأحزاب:73] فمن مظاهر جهل الإنسان أنه لا يرى عيوب نفسه ومساوئها, بل قد يشتد به حُبّه لنفسه حتى يرى مساوئها محاسن كما قال الله تعالى: {أفمن زُيّن له سُوء عمله فراه حسناً } [سورة فاطر/8] ولو رفع حجب الجهل عن نفسه, لعلم أن النفس البشرية فيها شرور,

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم لحصين بن المنذر: (قل: اللهم ألهمني رُشدي, وقني شرِّ نفسي) [أخرجه أحمد والترمذي] وكان عليه الصلاة والسلام يقول في خطبة الحاجة: (الحمد لله, نستعينه ونستغفره, ونعوذ بالله من شرور أنفسنا, وسيئات أعمالنا) [أخرجه أحمد, وأصحاب السنن] فالنفس فيها شرور, وشرور لا تخطر على بال الكثيرين,

 قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سبحان الله في النفس: كبرُ إبليس, وحسد قابيل, وعُتُوُ عاد, وطغيانُ ثمود, وجرأة نمرود, واستطالة فرعون, وبغي قارون, وقحة هامان, وحيل أصحاب السبت, وتمرُّدُ الوليد, وجهل أبي جهل...وقال: سبحان الله في النفس...من أخلاق البهائم : شره الكلب, ورعونة الطاووس, ودناءة الجُعل, وعقوق الضب, وحقد الجمل, وفسقُ الفارة, وخُبثُ الحية, وعبث القرد, ومكر الثعلب, وخفَّةُ الفراش.

وقال الإمام ابن الجوزي رحمه الله: أكثر الخلائق على طبع رديء...إذا أصبحوا سعوا في تحصيل شهواتهم, بحرص خنزير, وتبصيص كلب, وافتراس أسد, وغارة ذئب, وروغان ثعلب.

ومن رحمة الله عز وجل بعباده أن أرسل لهم رسول يزكي نفوسهم ويهذبها من تلك الشرور والأخلاق الرديئة, قال الله عز وجل: {كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ما لم تكونوا تعلمون} [البقرة:151].

قال العلامة السعدي رحمه الله: {يزكيكم} أي: يطهر أخلاقكم ونفوسكم, بتربيتها على الأخلاق الجميلة, وتنزيها عن الأخلاق الرذيلة.

والناس بما جاءت به الرسل من تزكية النفوس على قسمين:

القسم الأول: قسم ظفروا بأنفسهم, فقهروها فصارت طوعاً لهم مُنقادةً لأوامرهم.

فهؤلاء عليهم أن يشكروا الله على نعمته, فتزكية النفوس من فضل الله ورحمته, يُزكي من شاء من عباده, قال الله سبحانه وتعالى: {ولولا فضل الله عليكم ورحمته ما زكى منكم من أحداً أبداً ولكن الله يُزكي من يشاء والله سميع عليم} [النور:21] وينبغي لهم أن لا يظهروا ذلك أمام الناس, فذلك غير نافع لههم, فالله هو المطلع على ما في النفوس, وهو الذي سيجازي من تزكى, وليس الناس, قال عز وجل: {فلا تزكوا أنفسكم هو أعلمُ بمن اتقى} [النجم:32]

القسم الثاني: من ظفرت به نفسه, فملكته وأهلكته, وصار طوعاً لها تحت أوامرها.

فهؤلاء بحاجة ماسة لتزكية نفوسهم حتى لا يهلكوا, لأن نفوسهم  إذا لم تتطهر من عيوبها وآفاتها مرضت, وأمراض النفوس أشدُّ من أمراض الأجساد, وما يعيشه كثير من الناس من الآم نفسية, وأحزان وهموم, وقلق, وخوف, واضطراب, من أسباب ذلك الغفلة عن تزكية النفوس, فالمسلم يحتاج لتزكية نفسه, حتى يرضى عنه خالقه, ويسعد في نفسه, ويرتاح مع الآخرين.

وأكبر معين على تزكية النفس بعد توفيق الله عز وجل: طاعة الله, وترك الذنوب, وهذا يحتاج إلى مجاهدة وصبر, وشهر رمضان شهر الصبر, فالصيام من الصبر, قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصبر ثلاثة أنواع: صبر على طاعة الله عز وجل, وصبر عن محارم الله, وصبر على أقدار الله المؤلمة, وتجتمع الثلاثة كلها في الصوم فإن فيه صبراً على طاعة الله وصبراً عمَّا حرم الله على الصائم من الشهوات وصبراً على ما يحصل للصائم فيه من ألم الجوع والعطش وضعف النفس والبدن.

فشهر رمضان فرصة سانحة لمن أراد أن يزكي نفسه, فصبره طوال ساعات النهار عن شهوات نفسه الحسية, يعطيه دافع لتزكيتها, فالصيام أكبر معين بعد توفيق الله على تزكية النفوس, قال سبحانه وتعالى:{ يا أيها الذين آمنوا كُتب عليكم الصيام كما كُتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون } [البقرة:183]

قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: يقول الله تعالى مخاطباً للمؤمنين من هذه الأمة وآمراً لهم بالصيام...لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة.

ومما يُعين على تزكية النفس: قراءة كتب العلماء الذين كان لهم إسهام في الكتابة في موضوع تزكية النفوس, وعلى رأس أولئك: العلامة ابن القيم الجوزية رحمه الله, فقد حرَّرا فيه تحريراً بالغاً, حتى لم يخل مؤلف له على الوجه الأغلب من بسطه, والحديث عنه, حسبما جاء عن الله ورسوله والصحابة والتابعين والسلف الصالح فعليه من الله الرحمة والرضوان, فيحسن بالمسلم ألا تخلو مكتبته من كتبه, وأن يكثر من القراءة فيها, فسوف يستفيد فائدة كبيرة.

ومن وفق لتزكية نفسه فإن نفع ذلك يعود عليه في الدنيا والآخرة, قال الله سبحانه وتعالى: {جناتُ عدنٍ تجري من تحتها الأنهار وذلك جزاءُ من تزكى} [طه: 76] وقال الله عز وجل: { ومن تزكى فإنما يتزكى لنفسه } [فاطر:18]

ومن وفقه الله لتزكية نفسه فقد أفلح وفاز, قال عز وجل: {ونفس وما سواها * فألهما فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها} [الشمس:7-9] قال الإمام البغوي رحمه الله: أي فازت وسعدت نفس زكاها الله, أي أصلحها وطهرها من الذنوب ووفقها للطاعة.

اللهم آتِ نفوسنا تقواها, وزكها أنت خير من زكاها, أنت وليها ومولاها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply