بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
تذخر بطون الكتب بالعديد من الأفكار الذهبية والعبارات المحورية الجديرة برصدها وتدوينها للوقوف على كنوز مفكرينا وكُتابنا العظام، وللانتفاع بالفائدة المرجوة منها، ولذلك حرصت خلال جولتي بين دفوف الكتب أن أرصد هذه الثروات الفكرية والتربوية والتحليلية، وأنقلها بنصها كما وردت فيها أو باختصار طفيف في بعض الأحيان، هذا كي يستفيد منها القاسي والداني، سائلا المولى عز وجل أن ينفع بها الكبير والصغير، وأن يكتب لكاتبها وجامعها وقارئها الأجر والمثوبة إنه نعم المولى ونعم النصير.
(الجهل)
عن زياد بن حدير قال: قال لي عمر: هل تعرف ما يهدم الإسلام ؟ قال: قلت: لا، قال: يهدمه زلة العالم، وجدال المنافق بالكتاب، وحكم الأئمة المضلين
وقد بين ابن الجوزي رحمه الله أن «الباب الأعظم الذي يدخل منه إبليس على الناس هو الجهل، فهو يدخل منه على الجهال بأمان، وأما العالم فلا يدخل إلا مسارقة». وقال القرافي المالكي: « .. أصل كل فساد في الدنيا والآخرة إنما هو الجهل ؛ فاجتهد في إزالته عنك ما استطعت، كما أن أصل كل خير في الدنيا والآخرة إنما هو العلم؛ فاجتهد في تحصيله ما استطعت والله تعالى هو المعين على الخير كله».
يقول ابن القيم رحمه الله: «قد غلب الشرك على أكثر النفوس لظهور الجهل، وخفاء العلم، فصار المعروف منكراً، والمنكر معروفاً، والسنة بدعة، والبدعة سنة، ونشأ في ذلك الصغير وهرم عليه الكبير، وطمست الأعلام، واشتدت غربة الإسلام، وقلّ العلماء، وغلب السفهاء، ولكن مع هذا لا تزال طائفة من العصابة المحمدية بالحق قائمين، ولأهل الشرك والبدع مجاهدين إلى أن يرث الله سبحانه الأرض ومن عليها وهو خير الوارثين» [زاد المعاد، ابن القيم (3/507)]
(عمر بن عبد العزيز رحمه الله تعالى)
تذكر كتب السير التي تناولت سيرة عمر بن عبد العزيز رحمه الله: " أنه لما دفن ولده عبد الملك وهو أبر أولاده، وأكثرهم دينا وعقلا مر بقوم يرمون، فلما رأوه أمسكوا، فقال: ارموا، ووقف، فرمى أحد الراميين فأخرج يعني أبعد عن الهدف ـ فقال له عمر: أخرجت فقصر، وقال للآخر: ارم، فرمى فقصر ـ أي لم يبلغ الهدف ـ فقال له عمر: قصرت فبلغ
فقال له مسلمة بن عبد الملك: يا أمير المؤمنين ! أتفرغ قلبك إلى ما تفرغت له، وإنما نفضت يدك الآن من تراب قبر ابنك، ولم تصل إلى منزلك ؟ فقال له عمر: يا مسلمة ! إنما الجزع قبل المصيبة، فإذا وقعت المصيبة فاله عما نزل بك" [الجامع لسيرة عمر بن عبد العزيز لعمر بن محمد الخضر، تحقيق د. محمد البورنو 2/236]
(هوة التكفير)
من مشكلات التعايش الوطني في المجتمعات العربية الإسلامية مشكلة السقوط في التكفير، وفي ذلك يقول أبو حامد الغزالي: «إن المبادرة إلى التكفير إنما تغلب على طباع من يغلب عليهم الجهل .. واعلم أن حقيقة الكفر والإيمان وحدهما، والحق والضلال وسرهما، لا ينجلي للقلوب المدنسة بطلب الجاه والمال وحبهما، بل إنما ينكشف ذلك لقلوب طهرت عن وسخ أوضار الدنيا أولا، ثم صقلت بالرياضة الكاملة ثانيا، ثم نورت بالذكر الصافي ثالثا، ثم غذيت بالفكر الصائب رابعا، ثم زينت بملازمة حدود الشرع خامسا، حتى فاض عليها النور من مشكاة النبوة، وصارت كأنها مشكاة مجلوة، وصار مصباح الإيمان في زجاجة قلبه مشرق الأنوار، يكاد زيته يضيء ولو لم تمسسه نار».
ثم يقول الغزالي في موضع آخر ما نصه: «ومن الناس من يبادر إلى التأويل بغلبات الظنون من غير برهان قاطع، ولا ينبغي أن يبادر أيضا إلى كفره في كل مقام، بل ينظر فيه، فإن كان تأويله في أمر لا يتعلق بأصول العقائد المهمة فيجب تكفير من يغير الظاهر من غير برهان قاطع .. وقانون ذلك أن تعلم أن النظريات قسمان: قسم يتعلق بأصول القواعد، وقسم يتعلق بالفروع. وأصول الإيمان ثلاثة: الإيمان بالله وبرسوله وباليوم الآخر وما عاداه فروع».
ثم يضيف قوله: «واعلم أنه لا تكفير في الفروع أصلا إلا في مسألة واحدة، وهي أن ينكر أصلا دينيا علم من الرسول صلى الله عليه وسلم بالتواتر، وحد التواتر: ما لا يمكن الشك فيه، كالعلم بوجود الأنبياء، ووجود البلاد المشهورة وغيرها، وأنه متواتر في الأعصار كلها عصرا بعد عصر إلى زمن النبوة.. لكن في بعض الفروع تخطئه.. كما في الفقهيات، وفي بعضها تبديع، كالخطأ المتعلق بالإمامة وأحوال الصحابة، واعلم أن الخطأ في أصل الإمامة وتعينها وشروطها وما يتعلق بها لا يوجب شيء منه تكفيرا.
ولو أنكر ما ثبت بأخبار الآحاد فلا يلزمه به الكفر. ولو أنكر ما ثبت بالإجماع فهذا فيه نظر، لأن معرفة كون الإجماع حجة قاطعة فيه غموض يعرفه المحصلون لعلم أصول الفقه، وأنكر النظام (231-845هـ) كون الإجماع حجة أصلا، فصار كون الإجماع حجة مختلفا فيه.
وأما الأصول الثلاثة، وكل ما لا يحتمل بالتأويل في نفسه، وتواتر نقله، ولم يتصور أن يقوم برهان على خلافه فمخالفته تكذيب محض»
وبعد هذا التحديد المنهجي لحد الإيمان وحد الكفر، وحد التصديق وحد التكذيب، وميادين التأويل والأصول والفروع، والخطوط الفاصلة بين الحق والباطل في هذه الأمور الشرعية.. أخذ الغزالي في التحذير من آفة تكفير كل فرقة لسواها من فرق الإسلام. فقال ما نصه:
«فيجب أن ترعوي من تكفير الفرق وتطويل اللسان في أهل الإسلام، وإن اختلفت طرقهم، ماداموا متمسكين بقول لا إله إلا الله، محمد رسول الله، صادقين بها، غير مناقضين لها» والمناقضة: تجويز الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم بعذر أو بغير عذر، فإن التكفير فيه خطر، والسكوت لا خطر فيه.
والذي ينبغي أن يميل المحصل إليه: الاحتراز من التكفير ما وجد إليه سبيلا، فإن استباحة الدماء والأموال من المصلين إلى القبلة، المصرحين بقول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله خطأ، والخطأ في ترك ألف كافر في الحياة أهون من الخطأ في سفك محجمة من دم مسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم: «أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإذا قالوها فقد عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها» [البخاري ومسلم]
وأكثر الخائضين في هذا إنما يحركهم التعصب واتباع الهوى دون النظر للدين .. ودليل المنع من تكفيرهم هذه الفرق أن الثابت عندنا بالنص تكفير المكذب للرسول صلى الله عليه وسلم وهؤلاء ليسوا مكذبين أصلا، ولم يثبت لنا أن الخطأ في التأويل موجب للتكفير، فلابد من دليل عليه، وثبت أن العصمة من سفك الدماء مستفادة من قول لا إله إلا الله قطعا، فلا يدفع ذلك إلا بقاطع.
وهكذا نجد ما قد تسببه تهمة التكفير والسقوط في مأزقه من مشكلة كبيرة في تهديد سلامة التعايش الوطني السلمي في المجتمعات والدول العربية والإسلامية على اختلاف مواقعها في هذا العالم المحيط بنا. [تعايش وطني بلا طائفية، سبيل للوحدة الإسلامية، السيد أحمد المخزنجي، مجلة الهداية البحرينية، العدد 330]
جمع وترتيب د/ خالد سعد النجار
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد