علي بن داود القحفازي


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

1- هذه سلسلة تغريدات أقدمُ فيها أنموذجًا رائعًا لأحد علماء الأمة الإسلامية في تاريخنا العريق، ولأحد أجلاء المشايخ والفقهاء الكرام، الذين أتقنوا تحصيل العلم وطلبه، وبرعوا في أساليب التدريس وتحبيب العلم لطلاب العلم، مع ما اشتملت عليه كريم أخلاقهم من التواضع والطيبة والدماثة وغيرها.

2- هذا العَلَم هو الفقيه الحنفي المُتَفًنِّن الإمام المشارك في العلوم علي بن داود بن يحيى بن كامل القَحْفَازِيُّ رحمه الله، ولقبه نجم الدين، ينـتهي نسبه إلى الصحابي المعروف الزبير بن العوام رضي الله عنه. وُلِدَ في الثالث عشر من جمادى الأولى، سنة (668هـ).

3- كان أبوه داود بن يحيى القَحْفازيّ من كبار علماء وقضاة عصره، لكنه ما لبث أن مات سنة (684هـ) وابنه علي لا يزال صغيرًا. فنهض الابن بنفسه، وأخذ على عاتقه تعليم نفسه، فذهب لحلقات العلم، ودَرَسَ على يد كبار علماء عصره، فأصبح موسوعةً في العلوم.

4- فكان عالمًا بالقراءات السبع، وبحرًا في الفقه، ومُتقنًا لأصول الفقه، وكان مُتمكنًا في علم الكلام، وعلامة في اللغة العربية وعلم البلاغة والصرف، وعالمًا بالمنطق وعلم الجدل، وعارفًا بعلم المواقيت، ويُحسن استخدام آلة "الإسطرلاب" العدَدِّيَة والفلكيَّة، ومُلمًا بالحديث النبوي.

5- وفوق هذا كله كان خطه جميلاً وأنيقًا. وقد ذَكَرَ بعض العلماء الذين عاصروه أنه قلَّ أن تجتمع تلك العلوم والمزايا في شخصِ أحدٍ غيره، مع أنَّه رحمه الله فَقَدَ والده مُبكرًا، لكنَّ ألطاف الرب، وثقة الإنسان بربه ثم ثقته بنفسه تجعل الحطام المُتبعثر تحت الرماد ينهض من جديد بقوة!

6- وكان مع علمه الغزير مُتفننًا وبارعًا في مهنة التدريس، فقد كانت له طريقته الخاصة في تدريس طلابه بحيث لا يُحسون معها بالسأم أو الملل، فقد كان يُدخل في منهج التدريس القصص المختصرة التي تسلي الطلاب وتُفيدهم، أو يطرح عليهم الألغاز العلمية لشحذ هممهم وتحريك تفكيرهم.

7- وكان يُسليهم رحمه الله ببعض الطرائف والمُزاح والنوادر المضحكة التي لم تخل عن الفائدة العلمية. ولذا كَثُرَ طلابه وانتفعوا به غاية الانتفاع، ولم يجعل من الغلظة والشدة المُتَصنعة سمة (برستيج)  الأستاذ صاحب الهيبة في نُفوس طلابه، بل كان قريبًا رحمه الله من قلوبهم ودودًا معهم.

8- وقد تتلمذ عليه كبار العلماء والأئمة، من أمثال: البرزالي (739هـ)، والذهبي (748هـ)، والصفدي (764هـ)، وابن كثير (774هـ).

9- وقد بلغ القَحْفَازِيُّ مرتبة عالية في العلم، حتى اعتبر علماء عصره مكانته في مذهب الحنفية كمكانة الإمام كمال الدين الزَّمْلكانِي (727هـ) في الشافعية.

10- وأصبح خطيـبًا في جامع تَنْكِز سنة (718هـ)، وكان أسلوبه في الخطابه يُؤثر في الناس حتى يُـبكيهم. ثم عُيّنَ مُدرسًا في المدرسة الرٌّكْنيَّة سنة (719هـ)، ثم دَرَّسَ بالمدرسة الظاهِرَّية سنة (722هـ)، وفق المذهب الحنفي.

11- رفض القَحْفَازِيُّ رحمه الله التأليف لما طُلب منه ذلك، وعلل السبب بأنه يخشى أن يأتي من بعده وينـتقد كُتبه كما كان هو ينـتقد كتب العلماء الذين من قبله، قلتُ: فخسرنا -بسبب هذا الشعور الحساس والرقيق من أن تُجرح نفسه- علمًا عظيمًا وفوائد نادرة ونكت هي الدرر والجوهر، الله المستعان!

12- عُيّن القحفازي رحمه الله للقضاء فلم يُوافق، ورفض ذلك. مات سنة (745هـ)، في يوم الأربعاء الرابع والعشرين من شعبان، وصُلَّي عليه بجامع تَنْكِز، وحَضَرَ جنازته أعيان العلماء والقضاة، ودُفِنَ بجوارِ قبر والده. فارقه صغيرًا، وكان مُشتاقًا له، فجاوره في القبر، جمعهما الله في الجنة!

13- قال فيه تلميذه الذهبي: "هو من أذكياء أهل وقته... مع الديانة والورع والمحاسن الكثيرة". وقال فيه تلميذه الصفدي: "شيخ أهل دمشق في عصره". وقال فيه تلميذه ابن كثير: "كان نِهايَةً في النَّحوِ والتَّصْريفِ". وقال فيه تقي الدين ابن قاضي شهبَة: "آخر من بَقي من أعيان شُيُوخ الحَنَفية".

14- رحمه الله وغفر له وأسكنه فسيح جناته. انتهى مُختصرًا.

تنبيه: هذه الترجمة مُستقاة من كتاب لكاتب هذه الأسطر في تراجم جملة من أئمة السادة الحنفيَّة رضي الله عنهم وجمعنا بهم في مستقر رحمته.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply