الاتجاهات الاستشراقيَّة الجديدة إلى أين


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

 

أبعد الباحث المعاصر النُّجْعَة حين يظن أنَّ المشكلة الحقيقية التي تكمن وراء غرائب النتائج الشاطحة التي تزعم الاتجاهات الاستشراقيَّة الجديدة، كـ(اتجاه المدرسة التنقيحيَّة/مدرسة المتشككين الجد/مدرسة المراجعين الجدد)، وإن شئتَ قلتَ: مدرسة المشاغبين الجدد، أو (اتجاه المدرسة التلفيقيَّة) -التي تبلور في مؤتمر نوتردام سنة 2005م، تحت ضغط الصراع المرير والتسفيه المتبادل الفضائحي بين (اتجاه المدرسة الاستشراقيَّة التقليديَّة/الكلاسيكيَّة) و(اتجاه المدرسة التنقيحيَّة)، ورغبة في رأب الصدع وتوحيد الهدف تجاه الدراسات الموجَّه تجاه الإسلام- أنَّها توصل إليها نتيجة الدراسة الأكاديميَّة أو الموضوعيَّة، مثل: أسطوريَّة وجود شخصيَّة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووجود الخلفاء الأربعة، وأن مكة ليست في الحجاز بل في الأردن، وأنَّ الفتوحات الإسلاميَّة خرافة ولم تحصل بتاتًا، وأنَّ أول مسلم بالعرف اللاحق هو معاوية بن أبي سفيان، وأنَّ هرقل والروم لم ينهزموا إطلاقًا، وإنما بطيب قلب سليم سلموا المنطقة إلى الدولة الأمويَّة كوكيل حصري لهم، وأن القرآن الكريم موجود قبل الإسلام وكان باللغة السُّريانيَّة في حلقات دراسية بين المؤمنين المسيحين، وأن العرب لا يعرفون أصلهم القبلي... إلخ، كان بسبب قصورهم الذهني أو اختلالهم العقلي.

إنَّ القصور الذهني أو الاختلال العقلي ليس هو -في الحقيقة- ما تكمن فيه المشكلة بالدرجة الأولى، وإنما تمكن المشكلة في الواقع في استمرار عجز الاستشراق وعدم قدرته على تجاوز موقفه الأول في اللحظات الأولى لتبلور الموقف الثقافي الذي اتخذته (الأنا) تجاه (الآخر) الجديد، فظل أسيرًا عاجزًا أن يتحرر من ذلك.

إنَّها ليست علة في العقل بسبب قصور أو خلل بالدرجة الأولى، بل علة في القلب تحمل صاحبها على أن يستخدم جميع الوسائل المشروعة وغير المشروعة من أجل الوصول إلى هدفه المقرر مسبقًا تجاه الإسلام، سواء كان مدفوعًا أو غير مدفوع، ولن تختلف النتائج الغريبة تحت أي زمان أو مكان.

فتلك الغرائب والشطحات المضحكة، التي تخرج من تحت عباءة أستاذة أعرق الأكاديميات الغربية، لا تختلف كثيرًا عما كان يخرج من تحت عباءة الرهبان في أديرة الجبال المهجورة، أو من قصائد الوعاظ المتجولين في غابات بلاد الغال، أو من كتابات أشد القساوسة تعصبًا وحميَّة وكراهيَّة تجاه الإسلام.

فالعناصر البنيوية التي شكلت القوالب النمطية القديمة عن دين الإسلام، لا تزال فاعلة حتى الآن، والأساطير والحكايات الخرافية والقصائد الشعبية التي استبدلت بدراسات "أكاديميَّة" "نقديَّة"، لم تغير في الروح والجوهر شيئًا، فلا تزال تؤدي النتائج نفسها، ولا تزال الدعاوى تتوالى بلا أدلة أو فحص حقيقي.

فالصورة عن الإسلام في الغرب القديم التي كان يروج لها، هي الزعم بأن المسلمين يعبدون ثلاثة آلة من الذهب، وهي: ماهوميد [محمد]، وآبلين، وترفاجان، وأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم كان يدعو الناس إلى عبادته في صورة وثن من ذهب، وأنَّ المساجد مليئة بتماثيل وأصنام مصنوعة من ذهب وفضة!

وكان من القصص الشهيرة التي راجت في أوروبا في القرون الوسطى عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه كان كاردينالًا إيطاليًا في الكنيسة الرومانية الكاثوليكية، وكان اسمه (ماهومت)، وبعد أن فشل في الجلوس على كرسي البابوية، هرب للجزيرة العربية، وأسس دينه الجديد نكاية في البابا وكنيسة روما .

ومن القصص واسعة الانتشار في أوروبا في العصور الوسطى تلك الأسطورة القائلة: إن (ماهوم) درب حمامة لتنقر حبوب القمح من أذنه، وبذلك أقنع العرب أن تلك الحمامة هي ملاك الرب الذي كان يبلغه الوحي الإلهي، وهكذا استطاع أن يقنع الآلاف بأنه نبي! هذه الخرافة اقتنع بها أمثال الأديب شكسبير!

كل ذلك كان منبعه الشعور بالحاجة إلى إطلاق العنان للخيال والأوهام ما دام الأمر يتعلق بالإسلام، دون الحاجة إلى تدقيق أو تمحيص، فأن تقول في العصور القديمة إن المسلمين يعبدون صنمًا من ذهب، لا يختلف عن أن تقول إن محمدًا والخلفاء بعده ومكة خرافات لا وجود لها، فالعقل الذي ينتج ذلك واحد.

يقول هنري دي كاستري: *لستُ أدري ما الذي يقوله المسلمون لو علموا أقاصيص القرون الوسطى، وفهموا ما كان يأتي في أغاني المنشدين المسيحيين. فجميع أغانينا، حتى التي ظهرت قبل القرن الثاني عشر، صادرة عن فكر واحد، كان السبب في الحروب والصليبية، وكلها محشوة بالحقد على المسلمين.*

ولهذا، يجدر بالدراسات الاستشراقية الحديثة في الأكاديمية الغربية أن تتحرر من رواسب عقليات القرون الوسطى، لتحاول أن تتجاوز عجزها وعدم قدرتها على الخلاص من العواطف النفسيَّة التي تكبلها وتقيدها وتمنعها من تحرير دراسات رصينة وذات قيمة حقيقية، تتسم بالموضوعية والحياد، والأهم بالعقلانية.

يقول المستشرق أليكسي جورافسكي: *كان موقف المسيحيين من الإسلام انفعاليًا وغير متسامح روحيًا، لأن الإسلام كان في تصورهم تحديًا تطلب ردًا ومقاومة واهتمامًا دائمًا به، وإنه من أجل إدارة الصراع بنجاح مع عقيدة هذا المنافس الخصم، القوي الخطير، لابد من دراسته.*

‏لا مشكلة في دراسة الإسلام، المشكلة في هذه النفسيات والعقول التي تستبق النتائج قبل بداية الدراسة. يقول المستشرق البريطاني ن. دانيال: *سكان أوروبا المعاصرة ورثوا عن أسلافهم من القرون الوسطى مجموعة عريضة وراسخة من الأفكار حول الإسلام، التي كانت تتغير تدريجيًا مظاهرها الخاريجية فقط.*

‏إنَّ أحزن شعور يُمكن أن يصل إليه الباحث الذي يقدر الحقيقة ويثمن المعرفة، هو أن يدرك أنَّ الدراسات الاستشراقية أسيرة حلقة مغلقة من منظومة صعبة التطور، أو كما تقول الباحثة كارين أرمسترونغ: *علينا أن نتذكر أن الاتجاه العدائي ضد الإسلام في الغرب هو جزء من منظومة القيم الغربية.*

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply