بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كنتُ قد تحدثتُ سابقًا، ومرارًا، عن اليابان كمجتمع وعائلة، وكيف كان المجتمع الياباني، قبل عقود مضت، وهو أقرب المجتمعات العالميَّة من حيث طباع وعادة العائلة بالمجتمع العربي، يتحلى بقيمٍ عالية وتقاليد راقية فيما يتعلق بمكان الأسرة والمرأة والطفل.
لكنَّ المهتم بالتاريخ الحديث لليابان من الناحية الاجتماعية والأسرية والأخلاقية، يرى تغيرًا ملحوظًا وواضحًا في تلك الجوانب الثلاثة. فاليابان عُرِفَ بتقاليده المجتمعية المؤسسية المترابطة، وتماسكه الأسري، ومحورية العائلة فيه ورسوخ أخلاقياتها. هذه المبادئ والسلوكيات حصل فيها تغيرات نوعية حادة!
فقد حصل تبدل كبير في مكانة الأسرة ومن ثم مكان ة المرأة، وأفرز ذلك ظواهر سلبيَّة عديدة، من أبرزها: شيوع ظاهرة الاعتداء والتحرش الجنسي الصارخ على الفتيات في العمل الأماكن والمواصلات العامة، وأمام الناس! وأصبحت مدينة مثل طوكيو تعاني من هذه المشكلة الكبيرة خصوصًا في وسائل النقل العام، إلى درجة أنَّ الشرطة دعن النساء إلى الدفاع عن أنفسهم!
ونَشَرَتْ عدة برامج توثيقية العديد من اللقطات، التي صورتها الكاميرات العامة أو الخاصة، التي تُظهر نوعية وطريقة التحرش التي يتعرض لها النساء اليابانيات، بل والفتيات الصغيرات القاصرات، في الأماكن العامة ووسائل النقل، والتي أقل ما يقال عنها أنها غاية في البشاعة والبربرية.
كانت تلك الصور والمقاطع صادمة بشكلٍ صارخ جدًا، ويصعب على الإنسان السوي رؤيتها كلها لحجم البشاعة والقذارة فيها، وحجم الاسفاف والانحدار اللاأخلاقي من قبل المتحرشين، الذين ظهروا بصورة وحوش قبيحة، وظهرت النساء في صورة العاجز المستسلم أو المستغيث الصارخ الذي يطلب الغوث والنجدة!
فقد ذكرت صحيفة (اليابانيون تايمز) أنَّ منظمة عالمية لحقوق الطفل في تقرير صدر عنها قالت إن الفتيات في جميع أنحاء العالم يأملن في أن يصبحن قائدات، لكنهن يتوقعن مواجهة التحيز الجنسي والتحرش.
ووفقًا لمسح أجرته (بلان إنترناشيونال) على قرابة 10000 فتاة، في 19 دولة، أنَّ أكثر من 9 فتيات من كل 10 فتيات قُلنَ إنهن يتوقعن من رؤسائهن في العمل تحرشًا جنسيًا واتصالاً جسديًا لا يرغبن به، ومعاملة غير عادلة.
وذكرت آن بيرجيت ألبكتسين، الرئيسة التنفيذية للمنظمة أنَّ النتائج التي تظهرها المضايقات التي تتعرض لها الفتيات سيكون لها تأثير على مجالات المجتمع والعمل والسياسة والمجتمع والحياة الأسرية.
وقد قام باحثون بدراسة مسحيَّة على فتيات تتراوح أعمارهن بين 15 و 24 عامًا في عدة دول غربية وغير غربية منها: اليابان. من أجل الدراسة، وأجروا مئات المقابلات المتعمقة. قال أكثر من ثلاثة أرباع الذين شملهم الاستطلاع أنهنَّ يعتقدن أن كونهن نساءً سيجعل من الصعب عليهن في العمل تحقيق النجاح وكسب الاحترام.
ووفقًا للتقرير الذي صدر في مؤتمر: Women Deliver 2019م، في فانكوفر، فإنَّ الشابات اللائي لديهن خبرة في القيام بدور قيادي كان أكثر توقعًا لتعرضهن إلى التمييز الجنسي-الطبقي أكثر من النساء اللائي ليس لديهن مثل هذه الخبرة.
وذكرت صحيفة (اليابانيون تايمز) أنَّ اليابان تحاول قانونيًا تعزيز مكافحة التحرش ضد النساء في مكان العمل، لكن القوانين تفتقر إلى التدابير العقابية. وفي نهاية الشهر الماضي مايو 2019م راجع البرلمان اليابني عدة تشريعات في محاولة لتعزيز الإجراءات ضد التحرش في مكان العمل، مما يلزم الشركات مكافحة هذه الظاهرة المنتشرة والمتزايدة.
وبموجب تنقيح خمسة قوانين متعلقة بذلك، تم تعريف جوانب المضايقة في مكان العمل على وجه التحديد، وجعلتها غير مقبولة للمرة الأولى. ولكن لا ينص أي من التشريعات هذه على تدابير عقابية يمكن اتخاذها ضد المخالفين. واليابان بلد ترك فيه أشكال مختلفة ومتعددة من المضايقات في مكان العمل دون مساس لسنوات.
وقد تلقت الحكومة اليابانية ردود فعل من الشركات، التي بينت إنه من الصعب رسم خط فاصل بين المضايقة وبين التعامل الصارم العادل.
وقد طلب الحكومة من الشركات، فيما يخص قضية التحرش الجنسي، التي يستهدف موظفوها شخصًا ما في مكان عمل، التعاون مع الضحايا أثناء التحقيقات في الأمر. وسوف تدرس الحكومة اليابانية وضع مبادئ توجيهية لمكافحة التحرش من قبل الزبائن أو العملاء، وكذلك المضايقة الجنسية التي تحصل للطالبات الباحثات عن عمل.
وقد بلغ في اليابان عدد حالات المضايقات وإساءة استخدام السلطة في أماكن العمل، التي أبلغت بها مكاتب العمل، حوالي 72000 حالة في السنة المالية 2017م، مسجلاً رقماً قياسياً للعام السادس على التوالي.
وقالت (شينو نايتو)، نائبة كبير الباحثين في المعهد الياباني لسياسة العمل والتدريب: "بسبب أن المضايقات قد تكون لها آثار خطيرة على الضحايا، مما يدفعهم إلى المعاناة من مشاكل الصحة العقلية أو الانخراط في إيذاء النفس، فإنه يتعين على اليابان اتخاذ تدابير عقابية في أسرع وقت ممكن".
وفي طوكيو بتاريخ 28 أبريل 2018م خرجت متظاهرات يحملن لافتات (MeToo) خلال مسيرة ضد المضايقات في أماكن التسوق والتسلية.
وخرجت على القناة الفرنسية (24) الفتاة والصحفية اليابانية شيوري آتو، ومؤلفة كتاب الصندوق الأسود، لتحكي عن تجربتها في اليابان، وكيف تم اغتصابها عام 2015م في اليابان من قبل رئيس عملها، وتحدثت عن حجم التحرش الجنسي والاغتصاب والتهديد والعنف الذي تتعرض له المرأة العاملة في اليابان. وقالت إنه لمدة عامين ونصف كان رئيسها يتحرش بها، وصلت إلى نقطة فكرت فيها في قتل نفسها.
وقالت شيوري آتو: "الشركة التي اعتدت أن أعمل بها لم تفعل شيئًا لي، ولم يكن هناك نظام في اليابان يساعدني، أو يغطي راتبي أو المصاريف الطبية".
وذكرت هَنَا (Hana) اليابانية، وهي سكرتيرة تستخدم اسمًا مستعارًا، أنها تعرضت لمضايقات من رئيسها، تقول إن رئيسها قام بأشياء فظيعة لها، وأنها قدمت شكوى إلى رئيس مجلس إدارة الشركة،. ولم يصدقها، وأظهرت له الرسائل النصية غير اللائقة التي أرسلها لها رئيسها. لكن سلوكه العدواني استمر، لذلك، بعد شهرين، استقلت.
يقول الباحث الأكاديمي يوكي هوين: "يعتبر الكثير من اليابانيين أن التحرش الجنسي في مكان العمل مشكلة اجتماعية جديدة. وحتى أواخر الثمانينات، كان هذا المفهوم غريبًا جدًا على اليابان".
قلتُ: ليس بالقوانين وحدها تعيش المجتمعات بطريقة صحية وسليمة ومتماسكة، وإنما تعيش وتنعم بالحياة الطيبة والآمنة والمستقرة والمتحابة بتمسكها بالأخلاق الدينية، التي تُعزز التماسك الأسري، والتراحم المجتمعي، والرقابة الواعية، وتُحفز حياة الضمير، وتُعزز في الرجال المسؤولية الرجولة، وفي النساء العفاف والحشمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد