المدارس الدينية في باكستان


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

يعود نظام المدارس الدينية في باكستان إلى عهد الإستعمار البريطاني، فما أن قُضِى على حركة السيد أحمد الشهيد في مدينة بالا كوت الباكستانية، وأعقب ذلك انتفاضة العلماء لطرد الاستعمار عام 1857م.... حتى أضطر  المسلمون الى تبنى نظام المدارس الدينية، للإبقاء على ما يمكن ابقاؤه من الحياة الإسلامية، التي أخذت تذوب بين المطرقة والزندان الإستعماريين.

ويسمى النظام القائم في هذه المدارس بـ (درس نظامي) نسبة إلى مؤسسها نظام الدين، وكان منهج الدرس النظامي ينحصر في البداية على تدريس المواد الدينية فحسب، ثم أخذ يتفتح على غيره من المواد المدنية والاحتياجية.

لا يوجد احصاء رسمي للمدارس الدينية في باكستان، ولعل أقرب عدد يمكنه أن يقدم الصحة التقريبية هو أنها تتجاوز خمسا وعشرين ألف مدرسة دينية، تتوزع بين أربع مذاهب إسلامية مختلفة: المذهب السلفي وتسمى مدارسها بمدارس أهل الحديث، المذهب الدِيُوبَنْدِي ومدارسها تكتسح باكستان كلها، فإن قلت ثلاثة أرباع المدارس تتبع هذا المذهب لم اتجاوز الحق والحقيقة، ومدرسة جامعة حفصة إحدى هذه المدارس الدينية، المذهب البريلوي عباد الاضرحة والمعتقدات الفاسدة، والمذهب الشعيي، كما أن لأهل التبليغ مدارسهم الدينية المستقلة، إلا أنها كالملح في الطعام عددا وطلابا، أضف إلى ذلك أن للمسيحين مدارسهم  الخاصة، التي تقل عددا من مدارس التبليغ ولكنها اقوى نفوذا من جميع المدارس الدينية.

ولكل هذه المدارس المسلمة تجمع رسمي مسجل لدي الدولة، يسمى باسماء مختلفة يعطى الخطوط العامة للمناهج التي ينبغي تدريسها، وتترك التفاصيل لكل مدرسة دينية، ولها الحق أن تضيف إلى مناهجها ما تراه من المواد المناسبة، ويتولى كل تجمع عقد امتحان موحد لكل المدارس المستظلة بظله. ويمنح شهادة يساوي شهادة الماجستير في العلوم الإسلامية.

هذه المنحة يعود فضلها إلى الرجل الصالح الجنرال ضياء الحق، وأما من كان قبله فقد كان يعد خريجي المدارس الدينية أميين، لذلك كان يُلزَم خريجوها أن يملأوا خانة التعليم في كل استمارة رسمية بأنهم أميون، رغم أن خريجي هذه المدارس يقودون المجتمع المسلم الباكستاني في كل مناحي الحياة الدينية.

فحين حاول الرجل الصالح تغيير بعض الأنظمة غير الشرعية في القضاء، اتجه إلى هذه المدارس، والزم القضاة والمحامين ورجال القانون بتقديم وثيقة تثبت أنهم طرقوا ابواب هذه المدارس، ولوبأخذ دورة لمدة ستة أشهر، وتبنت هذه المدارس إقامة هذه الدورات الشرعية ، لتهيئة  القضاة والمحامين للحكم بشريعة الله.

وتصور معاناة هذه الفئة وبُعْدَها عن شرع الله في الصورة التالية، أخبرني مدير ثالث مدرسة من حيث الجودة التدريسية في مدينةلاهور ،أن المدرسة أعلنت إقامة دورة للقضاة.....، فتقدم إليها ثلاثة آلاف قاض ومحام، وكانت المدرسة لا تستطيع إلا استيعاب ثلاث مائة طالب وطالبة فقط، فعقدنا لذلك اختباراً تحريريا بما يتلائم مع هذه الفئة المميزة، فرسبوا جميعا دون استثناء، فعقدنا مجلسا لحل هذه الأشكال، فاتفق الرأي على أن يختبر الطالب شفويا في مادة القرآن الكريم فحسب، ويكون ذلك تلاوة لا حفظا من مواضع متفرقة من الكتاب المجيد، فلم نحصل على المطلوب، فقررنا التخفيف، فاختبرناهم في سورة الفاتحة تلاوة نظرية دون حفظ أو تجويد، فوجدنا مطلوبنا بشق الأنفس.

لا تستغرب إن قلت لك إن المنظمات الخيرية الغربية في الظاهر، والتنصيرية في الباطن تتمنى قفل هذه المدارس اليوم قبل غدا، لأنها شوكة في حلوقهم لا يستطيعون عَلمَنَة الشعب الباكستاني مع وجودها، فقد استمعت إلى حلقة من قناة (جيو) قبل بضعة عشر يوما، وبالتحديد بعد احداث المسجد الأحمر، إلى رئيسة إحدى المنظمات الخيرية الغربية، وكان حنقها وبغضها يتركز في جملة (يجب اغلاق كل مدرسة دينية فتحت في مسجد دون إذن رسمي)

ومن الحقائق الموجودة على أرض الواقع، أن التعليم في باكستان يقدم إلى المتعلم بثلاث روافد مختلفة:

(1) الرافد الإنجليزي، الذي يفتتح فيه الطفل تعليمه ب ABCD  إلى آخر حروف الهجاء الإنجليزية، ولغة التعليم فيه هي الإنجليزية، ويهيئا الخريج منها لتولى مناصب الدولة، وقد عم شرها حتى صل إلى القرى والارياف، لأن الحصول على وظيفة الدولة مرتبط بإجازة الإنجليزية، بغض النظر عن المعلومات والمؤهلات التي يجب توفر في المتقدم، فكثر الشحاذون وقل العطاء وشحت الوظائف.

علما أن التعليم في هذا الرافد باهظ التكاليف، لا يدخله إلا أولاد الأثرياء، لاكتساب القيم الغربية، ويد عمه الغرب لكل السبل، منها إكمال الدراسة في الغرب، والتوظيف لدي الشركات الغربية، وتيسير الحصول على التأشيرة لدخول الدول الغربية.

(2) رافد الدولة، ولغة التعليم فيه هي لغة الشعب عامة، وهي اللغة الأردية، غيرت الدولة في هذا الرافد، كل موضوع في كل منهج له صلة بالولاء والبراء، بمفهومه الواسع الشامل، فحذفت شخصيات إسلامية متميزة،  وأحلت مكانها شخصيات غربية، فإن قلت إن الدارس في هذا الرافد يعرف عن الرئيس بوش، أكثر مما يعرفه عن مؤسس باكستان محمد علي جناح، لم اتجاوز الحق والحقيقة.

ويعرض مثل هذا الرافد قضايا الشرع بطريقه يحاول فيه جمع الشعب، بغض النظر عن انتمائه الديني، فيقول لك مثلا الصلاة واجبة وعددها خمس، دون أن يذكر أن لكل صلاة اذاناً بصيغة كذا، ليجمع بين السنة الشيعة، بالسكوت عن الصيغة، ودون أن يذكر أن كل صلاة لها وقت محدد، للجمع بين السنة والشيعة، الذين يجمعون بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء، ليتوحد الشعب ويرتفع الشقاق، ويعم الجهل بين الجميع في الاجيال القادمة، فإن كان هذا حال المنهج في الصلاة، تصور ضآلة معلوماته في بقية قضايا الإسلام.

رغم أن أهل السنة يمثلون أكثر من 80% من سكان باكستان، ولا تتجاوز نسبة الشيعة أكثر من 14% ، وبقية الطوائف من الهندوس والنصارى... تمثل 06%

علما أن التعليم في هذا الرافد مجاني إلى نهاية المرحلة المتوسطة، ثم تبدأ الرسوم المنخفضة، إلا أن باب التوظيف شبه مغلق، لذا يحاول الآباء تدريس ابنائهم إلى المرحلة الإبتدائية او المرحلة المتوسطة، ثم تعليمهم صنعة تجلب لهم لقمة العيش المتواضعة.

(3) رافد المدارس الدينية، وميزة هذا الرافد أن التعليم فيه مجاني، منذ أولى صفوفه إلى نهايتها، تتولى المدرسة إسكان الطالب وتغذيته بالوجبات الثلاث، وتعطيه مصروف جيب أسبوعي أو شهري، لذا يرسل كل أب غير قادر على تحمل نفقات التعليم في الرافدين السابقين ويريد تعليم ابنه  إلى هذه المدارس.

ولعلك تسأل من أين تسدد هذه المدارس نفقاتها؟ والإجابة على هذا التساؤل سهلة ميسرة، فإن هذه المدارس تجمع التبرعات من عامة الشعب طول السنة، لاسيما في رمضان، أضف الى ذلك أن نفقات المدارس غير باهظة، لأن مدرسيها يجلسون على الحصيروطلابها يستظلون بظل الأشجار، ويطبخون العدس والخضروات، لغلاء اللحوم والاسماك، لذلك تجد النذر اليسير يسد حاجتهم.

وأعظم ميزة يمتاز به هذا الرافد، أن خريجيها يتوظفون في تخصصاتهم دون عناء، فلا تجد خريج مدرسه دينية عاطلا عن العمل، لأنه يقتنع بالراتب الضئيل ويستغني به، رغم أنك تجد عاطلين عن العمل في الرافد الأول والثاني.

وإن 90% من هذه المدارس مقارها المساجد، فبعد أداء الصلوات يمسك كل طالب وطالبة كتابه المطلوب، دون أن يكلف المدرسة بمبنى مستقل ، وغرف للا دارة وأخرى للفنيين.....، كل هذه التكاليف المالية لا وجود لها في المدارس الدينية في الأعم الاغلب، واعتقد أن عدد هذه المدارس يفوق  العدد الذي ذكرته من قبل، بل إن عددها هو عدد المساجد  في باكستان، لأن كل مسجد يضم مدرسة دينية.

ولعلك تسأل هل الدولة قادرة على اغلاقها؟ أو تغيير مناهجها؟ أرى الإجابة بالنفي، وأن الدولة أعجز من أن تلبى المتطلبات الأميريكية تجاه هذه المدارس، لأنها قائمة على نفقة المحسنين، وتسد الطلب التعليمي مجاناً. وقد ضمن وجودها قول الحق تبارك وتعالى {إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون} ومقتضى الحفظ حفظ الوسائل التي بها يتحقق الحفظ والمدارس الدينية تدخل ضمن الوسائل المحقِقَة لحفظ القرآن الكريم.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply