فتنة النساء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:  

كان عابد في بني إسرائيل من أعبد أهل زمانه وكان في زمانه ثلاثة أخوة لهم أخت وكانت بكرًا ليس لهم أخت غيرها فخرج الثلاثة للجهاد في سبيل الله فلم يدروا عند من يتركون أختهم ولا من يأمنون عليها ولا عند من يضعونها فأجمعوا رأيهم على أن يخلفوها عند عابد بني إسرائيل وكان ثقة في أنفسهم فأتوه فسألوه أن يخلفوها عنده فتكون في جواره إلى أن يرجعوا من سفرهم فرفض العابد ذلك وتعوذ بالله عز وجل منهم ومن أختهم فلم يزالوا يلحون عليه حتى أطاعهم وقبل وقال لهم: أنزلوها في بيت بجوار صومعتي فأنزلوها في ذلك البيت ثم انطلقوا وتركوها. فمكثت في جوار ذلك العابد زمانًا ينزل إليها بالطعام من صومعته ثم يأمرها فتخرج من بيتها فتأخذ ما وضع لها من الطعام فتلطف له الشيطان فلم يزل به يرغبه في الخير ويعظم عليه خروج الجارية من بيتها نهارًا ويخوفه أن يراها أحد فيعلقها فلو مشيت بطعامها حتى تضعه على باب بيتها كان أعظم لأجرك فلم يزل به حتى مشى إليها بطعامها ووضعه على باب بيتها ولم يكلمها فلبث على هذه الحالة زمانًا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والأجر وحضه عليه فقال: لو كنت تكلمها وتحدثها فتأنس بحديثك فإنها قد استوحشت وحشة شديدة فلم يزل به حتى حدثها زمانًا يطلع إليها من فوق صومعته. ثم أتاه إبليس بعد ذلك فقال: لو كنت تنزل إليها فتقعد على باب صومعتك وتحدثها وتقعد على باب بيتها فتحدثك كان أحسن لها وآنس لها فلم يزل به حتى أنزله وأجلسه على باب صومعته يحدثها وتحدثه وتخرج الجارية من بيتها حتى تقعد على باب بيتها فلبثا على ذلك زمانًا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير والثواب فيما يصنع معها وقال له: لو خرجت من باب صومعتك ثم جلست قريبًا من باب بيتها فحدثتها كان آنس وأحسن لها فلم يزل به حتى فعل قال: فلبث زمانًا ثم جاءه إبليس فرغبه في الخير قائلًا: بو دنوت منها وجلست عند باب بيتها فحدثتها ولم تخرج من بيتها ففعل ، فكان ينزل من صومعته فيقف على باب بيتها فيحدثها فلبثا على ذلك حينًا. ثم جاءه إبليس فقال له: لو دخلت معها فحدثتها ولم تتركها تبرز وجهها لأحد كان أحسن بك فلم يزل به حتى دخل البيت فجعل يحدثها نهارها كله فإذا مضى النهار صعد إلى صومعته. ثم أتاه إبليس بعد ذلك فلم يزل يزينها له حتى ضرب العابد على فخذها وقبلها. فلم يزل إبليس يحسنها في عينيه ويسول له حتى وقع عليها فأحبلها فولدت له غلامًا فجاء إبليس فقال: أرأيت إن جاء أخوة الجارية وقد ولدت منك كيف تصنع؟ لا آمن أن تفتضح أو يفضحوك فاذهب إلى ابنها فاذبحه وادفنه فإنها ستكتم ذلك عليك مخافة أخوتها أن يطلعوا على ما صنعت بها ففعل وقتل ابنها فقال له إبليس: أتراها تكتم أخوتها ما صنعت بها وقتلت ابنها خذها واذبحها وادفنها مع ابنها. فلم يزل به حتى ذبحها وألقاها في الحفرة مع ابنها وأطبق عليهما صخرة عظيمة وسوى عليهما وصعد إلى صومعته يتعبد فيها فمكث بذلك ما شاء الله به أن يمكث حتى أقبل أخوتها من الغزو فجاءوا فسألوه عن أختهم فنعاها لهم وترحم عليها وبكاها وقال: كانت خير امرأة وهذا قبرها فانظروا إليه فأتى اخوتها القبر فبكوا أختهم وترحموا عليها وأقاموا على قبرها أيامًا ثم انصرفوا إلى أهاليهم. فلما جن الليل وأخذوا مضاجعهم جاءهم الشيطان في النوم على صورة رجل مسافر فبدأ بأكبرهم فسأله عن أختهم فأخبره بقول العابد وموتها وترحمه عليها وكيف أراهم موضع قبرها فكذبه الشيطان وقال: لم يصدقكم أمر أختكم إنه قد أحبل أختكم وولدت منه غلامًا فذبحها وذبح الغلام خوفًا منكم وألقاهما في حفرة حفرها خلف باب البيت الذي كانت فيه عن يمين من دخله فانطلقوا فادخلوا البيت الذي كانت فيه فإنكم ستجدونهما كما أخبرتكم هناك جميعًا. وأتى الأوسط في منامه فقال له: مثل ذلك ثم أتى أصغرهم فقال له مثل ذلك. فلما استيقظ القوم أصبحوا متعجبين مما رأى كل واحد منهم فأقبل بعضهم على بعض يقول لأخيه: لقد رأيت الليلة عجبًا فأخبر بعضهم بعضًا بما رأى فقال كبيرهم: هذا حلم ليس بشيء فامضوا بنا ودعوا هذا عنكم. فقال أصغرهم والله لا أمض حتى آتي إلى هذا المكان فأنظر فيه. قال: فانطلقوا جميعًا حتى أتوا البيت الذي كانت فيه أختهم ففتحوا الباب وبحثوا الموضع الذي وصف لهم في منامه فوجدوا أختهم وابنها مذبوحين في الحفرة كما قبل لهم فسألوا عنها العابد ، فصدق قول إبليس فيما صنع بهما ، فرفعوا أمره إلى ملكهم فأنزلوه من صومعته وقدم للصلب فلما أوثقوه على الخشبة ليقتل أتاه الشيطان. فقال له: أنا صاحبك الذي فتنك بالمرأة التي أحبلتها وذبحتها وابنها فإن أنت أطعتني اليوم وكفرت بالله الذي خلقك وصورك خلصتك مما أنت فيه فكفر العابد بالله فلما كفر بالله تعالى خلى الشيطان بينه وبين أصحابه فصلبوه ثم قتل ففيه نزلت هذه الآية: (كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ - فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَٰلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ).

من كتاب الجامع لأحكام القرآن الكريم – الجزء الثامن عشر لمؤلفه أبو عبدالله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي.

 

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply