بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
فقد اختصت الصلاة من سائر الأعمال بخصائص ليست لغيرها, فقد افترضها الله عز وجل على رسوله صلى الله عليه وسلم في السماء ليلة المعراج, وهي أول ما يحاسب عليها العبد من أعماله يوم القيامة, وهي أول فروض الإسلام. وآخر ما يفقد من الدين, ولا حظ في الإسلام لمن تركها عمدًا, قال عبدالله بن شفيق: " كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئًا تركه كفر إلا الصلاة.
ولأهمية الصلاة فقد خصّها أئمة الإسلام بالتصنيف, فصنفوا في جميع الأمور والأحكام المتعلقة بها, وممن خصها بالتصنيف العلامة ابن القيم رحمه الله, فله في ذلك كتابان, الأول: "حكم رفع اليدين في الصلاة" خصصه لمناقشة هذه المسألة, والثاني: كتاب الصلاة, ناقش فيه عددًا من المسائل المتعلقة بالصلاة وأشبعها بحثًا كما هي عادته رحمه الله,
من تلك المسائل: هل ينفع قضاء الصلاة إذا تركها العبد عمدًا حتى خرج وقتها, وقد قال العلامة الألباني رحمه الله عن هذا البحث أثناء كلامه عن الحديث رقم (1257) من السلسة الضعيفة,"
ولابن القيم رحمه الله تعالى بحث هام ممتع في رسالة "الصلاة" فليراجعها من شاء, فإن فيها علمًا غزيرًا, وتحقيقًا بالغًا لا تجده في موضع آخر.
وحيث يوجد في كتابه: الصلاة, الكثير من الفوائد المتعلقة بالصلاة, فقد اخترتُ شيئًا منها, أسأل الله الكريم أن ينفع بها, ويبارك فيها, ومنها:
ترك الصلاة من أعظم الذنوب:
لا يختلف المسلمون أن ترك الصلاة المفروضة عمدًا من أعظم الذُّنُوب, وأكبر الكبائر, وأن إثمه عند الله أعظم من إثم قتل النفس, وأخذ الأموال, ومن إثم الزنا, والسرقة, وشرب الخمر, وأنه متعرض لعقوبة الله وسخطه وخزيه في الدنيا والآخرة
المصلون في الناس قليل:
المصلون في الناس قليل, ومقيمو الصلاة منهم أقل القليل, كما قال عمر رضي الله عنه: الحاج قليل, والرَّكب كثير.
من خلت قلوبهم من محبة الله فالصلاة كبيرة عليهم:
ليس من كانت الصلاة ربيعًا لقلبه, وحياةً له وراحةً, وقرَّةً لعينه, وجلاء لحزنه, وذهابًا لهمِّه وغمِّه, ومفزعًا له يلجأ إليه في نوائبه ونوازله كمن هي سحت لقلبه, وقيد لجوارحه, وتكليف له, وثقل عليه, فهي كبيرة على هذا, وقرة عين وراحة لذلك. قال تعالى: ]واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين * الذين يظنون أنهم مُلاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون[ [البقرة:45-46]
فإنما كبرت على غير هؤلاء لخلو قلوبهم من محبة الله تعالى وتكبيره وتعظيمه والخشوع له, وقلَّة رغبتهم فيه, فإن حضور العبد في الصلاة, وخشوعه فيها, وتكميله لها, واستفراغه وسعه في إقامتها وإتمامها على قدر رغبته في الله.
وليس حظ القلب العامر بمحبة الله وخشيته والرغبة فيه وإجلاله وتعظيمه من الصلاة كحظِّ القلب الخالي الخراب من ذلك.
فإذا وقف الاثنان بين يدي الله في الصلاة, وقف هذا بقلبٍ, مُخبتٍ له, خاشع له, قريب منه... قد امتلأت أرجاؤه بالهيبة... فاجتمع همه على الله وقرت عينه به وأحسه بقُربه من الله قربًا لا نظير له, ففرغ قلبه له, وأقبل عليه بكليته.
تفقه المصلى في معاني الأسماء والصفات:
* وههنا أمر عجيب يحصل لمن تفقه في معاني الأسماء والصفات, وخالطه بشاشة الإيمان بها قلبه, بحيث يرى لكل اسمٍ وصفةٍ موضعًا من صلاته, ومحلًا منها.
فإذا قال: "الله أكبر" شاهد كبرياءه.
فإذا قال "سبحانك اللهم وبحمدك, وتبارك اسمك, وتعالى جدُّك, ولا إله غيرك" شاهد بقلبه ربًا منزهًا عن كلِّ عيبٍ, سالمًا من كلِّ نقصٍ, محمودًا بكل حمدٍ.
فحمدُه يتضمنُ وصفه بكل كمال, وذلك يستلزم براءته من كلِّ نقصٍ
تبارك اسمه, فلا يذكر على قليلٍ إلا كثره, وعلى خيرٍ إلا أنماه وبارك, ولا على آفة إلا أذهبها, ولا على شيطانٍ إلا ردّه خاسئًا داحرًا.
وتعالى جدُّه, أي: ارتفعت عظمته, وجلَّت فوق كُلِّ عظمة, وعلا شأنه على كل شأن, وقهر سلطانه على كل سلطان, فتعالى جدُّه أن يكون معه شريك في ملكه وربوبيته, أو في إلهيته, أو في أفعاله, أو في صفاته.
فإذا قال: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم, فقد آوى إلى ركنه الشديد, واعتصم بحوله وقوته من عدوه, الذي يريد أن يقطعه عن ربه, ويباعده عن قُربه, ليكون أسوأ حالًا.
فإذا قال: ]الحمد لله رب العالمين[ وقف هنيئةً يسيرة ينتظر جواب ربه له, بقوله: "حمدني عبدي" فإذا قال: ]الرحمن الرحيم [ انتظر الجواب بقوله: "أثنى عليَّ عبدي" فإذا قال: ]مالك يوم الدين انتظر جوابه: " يمجدني عبدي"
فيا لذة قلبه, وقُرة عينه, وسرور نفسه بقوله ربه: (عبدي) ثلاث مرات, فوالله لولا ما على القلوب من دخان الشهوات, وغيم النفوس لاستُطيرت فرحًا بقول ربها وفاطرها ومعبودها: "حمدني عبدي" و"أثنى عليَّ عبدي" و"مجدني عبدي"
فإذا قال: ]إياك نعبدُ وإياك نستعين[ ففيهما سرُّ الخلق والأمر, والدنيا والآخرة, وهي متضمنة لأجلِّ الغايات, وأفضل الوسائل, فأجل الغايات عبوديته, وأفضل الوسائل إعانته, فلا معبود يستحق العبادة إلا هو, ولا معين على عبادته غيره, فعبادته أعلى الغايات, وإعانته أجلُّ الوسائل.
ثم يشهد الداعي بقوله: ]اهدنا الصراط المستقيم[ شدَّة فاقته وضرورته إلى هذه المسألة, التي ليس هو إلى شيءٍ أشدّ فاقة وحاجة منه إليها ألبته, فإنه محتاج إليه في كل نفس وطرفة عين.
ولما كان العبد مفتقرًا في كل حالٍ إلى هذه الهداية, في جميع ما يأتيه ويذره, من:
أمور قد أتاها على غير الهداية, فهو يحتاج إلى التوبة منها.
وأمورٍ قد هدي إلى أصلها دون تفصيلها, أو هدي إليها من وجه دون وجهٍ, فهو يحتاج إلى تمام الهداية فيها ليزداد هُدى.
وأمورٍ هو يحتاج إلى أن يحصل له من الهداية فيها بالمستقبل مثل ما حصل له في الماضي.
وأمورٍ هو خالٍ عن اعتقاد فيها, فهو يحتاج إلى الهداية فيها فهو يحتاج إلى الهداية فيها.
وأمورٍ لم يفعلها فهو يحتاج إلى فعلها على وجه الهداية.
وأمورٍ قد هُدي إلى الاعتقاد الحق والعمل الصواب فيها فهو محتاج إلى الثبات عليها
السجود سرُّ الصلاة وركنها الأعظم:
الُّسجود سرُّ الصلاة, وركنها الأعظم, وخاتمة الركعة, وما قبله من الأركان كالمقدمات له... ولهذا أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد, وأفضل أحواله حال يكون فيها أقرب إلى الله, ولهذا كان الدعاء في هذا المحل أقرب إلى الإجابة.
ومن كماله: أن يكون على هيئاتٍ, يأخذ كل عضو من البدن بحظه من الخضوع, فيقل البطن عن فخذيه, وفخذيه عن ساقيه, ويجافي عضديه عن جنبيه, ولا يفرشهما على الأرض ليستقل كلُّ عضو منه بالعبودية, ولذلك إذا رأى الشيطان ابن آدم ساجدًا لله اعتزل ناحية يبكي, ويقول: (يا ويله أُمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة, وأُمرت بالسجود فعصيت فلي النار)
ولما علمت السحرة صدق موسى وكذب فرعون خروا سُجدوا لربهم, فكانت تلك السجدة أول سعادتهم, وغفران ما أفنوا فيه أعمارهم من السِّحر.
إذا فرغ المصلى من صلاته جلس جلسة الراغب الراهب يستعطي ربه:
جعلت كلمات التحيات في آخر الصلاة بمنزلة خطبة الحاجة أمامها, فإن المصلى إذا فرغ من صلاته جلس جلسة الراغب الرَّاهب, يستعطى من ربه ما لا غنى به عنه, فشُرع له أمام استعطائه كلمات التحيات, مقدمةً بين يدي سؤاله, ثم يتبعها بالصلاة على من نالت أُمته هذه النعمة على يده وبسفارته.
فكأنَّ المصلي توسل إلى الله سبحانه بعبوديته, ثم الثناء عليه, والشهادة له بالوحدانية, ولرسوله بالرسالة, ثم بالصلاة على رسوله, ثم قيل له: تخير من الدعاء أحبه إليك. فذاك الحق الذي عليك, وهذا الحق الذي لك.
ست حيوانات نهي المصلي أن يتشبه بها في صلاته:
* في المسند والسنن من حديث عبدالرحمن بن شبل قال: (نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نقرة الغراب, وافتراش السبع, وأن يوطِّن الرجل المكان في المسجد كما يوطن البعير.) وفي حديث آخر: (نهي عن التفات كالتفات الثعلب, وإقعاء كإقعاء الكلب, ورفع الأيدي كأذناب الخيل.) أخرجه أحمد.
فهذه ستُّ حيوانات نهى عن التشبه بها.
فوائد متفرقة لا تتعلق بأداء الصلاة:
* قد اتخذ كثير من الناس دعوى النسخ والإجماع سُلمًا إلى إبطال كثير من السنن الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم, وهذا ليس بالهيِّن.
ولا تتركُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنة صحيحة أبدًا بدعوى إجماع ولا دعوى نسخ إلا أن يوجد ناسخ صحيح صريح متأخر, نقلته الأُمةُ وحفظته, إذ محال على الأمة أن تضيع الناسخ الذي يلزمها حفظه, وتحفظ المنسوخ الذي قد بطل العمل به ولم يبق من الدين, وكثير من المقلدة المتعصبين إذا رأوا حديثًا يخالف مذهبهم يتلقونه بالتأويل, وحمله على خلاف ظاهره ما وجدوا إليه سبيلًا, فإذا جاءهم من ذلك ما يغلبهم فزِعوا إلى دعوى الإجماع على خلافه, فإن رأوا من الخلاف ما لا يمكنهم معه دعوى الإجماع فزِعُوا إلى القول بأنه منسوخ.
وليست هذه طريق أئمة الإسلام, بل أئمة الإسلام كلُّهم على خلاف هذه الطريق, وأنهم إذا وجدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم سُنة صحيحة صريحة لم يبطلوها بتأويل, ولا دعوى إجماع, ولا نسخٍ.
* أخطأ على الشافعي من نسب إليه القول بأن صلاة الجمعة فرض على الكفاية, إذا قام بها قوم سقطت عن الباقين, فلم يقل الشافعي هذا قط, وإنما غلط عليه من نسب ذلك إليه بسبب قوله في صلاة العيدين: إنها تجب على من تجب عليه صلاة الجمعة. بل هذا نصّ من الشافعي أن صلاة العيد واجبة على الأعيان.
* لا يكون إمامًا في العلم من أخذ بالشاذِّ من العلم.
* ضرب العنق بالسيف أحسن القتلات, وأسرعها إزهاقًا للنفس.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد