سبيل الرشاد في مكافحة الفساد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

أَمَّا بَعْدُ: فاتقوا الله عباد الله )يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ(.

عباد الله، يقول ربنا تبارك وتعالى: )ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ([الروم:41].

يموج عالم اليوم بفتن وبلايا ومحن ورزايا، عمت بنيرانها أقاليم وأوطاناً ومجتمعات وأفراداً واستشرت في أوساطهم حمى الفساد بكل صوره وأشكاله وأصبحت قضية الفساد هاجساً مقلقاً يتنادى العقلاء والناصحون لدرئه ومكافحته، وهذا أمر مطلوب شرعاً، فمكافحة الفساد قضية شرعية، قال تعالى: (فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ * وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ * الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ( [الشعراء:150-152]. والفساد: هو كل عمل ضد الإصلاح، قال تعالى: )وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ ([البقرة:205]. قال الطبري: يعني بذلك جل ثناؤه: والله لا يحب المعاصيَ، وقطعَ السبيل، وإخافة الطريق. أ. هـ . وقال العباس بن الفضل: الفساد هو الخراب .. والآية بعمومها تعم كل فساد كان في أرض أو مال أو دين ، وهو الصحيح إن شاء الله تعالى. (تفسير القرطبي)

وفي القرآن العظيم حديث عن الفساد في أكثر من خمسين آية كلها تحذر من الفساد والإفساد بجميع صوره وشتى أشكاله، والتحذير من الفساد جاء عاماً، للتحذير من كل صور الفساد، ولم يخصص نوعاً من أنواع الفساد؛ حتى يبتعد المسلمون عن جميع الصور والأشكال، وفي مطلع سورة البقرة أول سورة في القرآن الكريم رد على أهل الفساد الذين يزعمون الإِصلاح فقال جلا وعلا عن المنافقين: )وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ( [البقرة:11]. فهم يرون عملهم وإفسادهم إِصلاحاً: )أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ( [البقرة:12]. وفرعون سمى دعوة موسى عليه السلام فساداً: )وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ( [غافر:26]. وهذا كما يقال في المثل: صار فرعون مذكراً يعني: واعظا، يشفق على الناس من موسى عليه السلام.!

وأعظم فساد هو فساد الدين والعقيدة بالإشراك بالله تعالى، قال تعالى: )وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ( [يونس: 40]. قال ابن القيم رحمه الله: "وَمَنْ تَدَبَّرَ أَحْوَالَ العَالَمِ وَجَدَ كُلَّ صَلَاحٍ فِي الأَرْضِ سَبَبُهُ تَوْحِيدُ اللهِ وَعِبَادَتُهُ وَطَاعَةُ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم، وَكُلَّ شَرٍّ فِي العَالَمِ وَفِتْنَةٍ وَبَلَاءٍ وَقَحْطٍ وَتَسْلِيطِ عَدُوٍّ وَغَيْرِ ذَلِكَ سَبَبُهُ مُخَالَفَةُ رَسُولِهِ، وَالدَّعْوَةُ إِلَى غَيْرِ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم".

قال شيخ المفسرين أبو جعفر الطبري: يعني تعالى ذكره بقوله: "ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها، لا تشركوا بالله في الأرض ولا تعصوه فيها، وذلك هو الفساد فيها. وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله في الآية: ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد، ثم وقع الإفساد بعد ذلك، كان أضر ما يكون على العباد. فنهى الله تعالى عن ذلك أ . هـ .

فالإفساد في الأرض يكون بعمل المعاصي: (بَعْدَ إِصْلَاحِهَا) بالطاعات، فإن المعاصي تفسد الأخلاق والأعمال والأرزاق، كما قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ)، كما أن الطاعات تصلح بها الأخلاق، والأعمال، والأرزاق، وأحوال الدنيا والآخرة.

ومن الفساد الذي فشا بين العباد الفساد الاجتماعي ومن صورة عقوق الوالدين وقطيعة الرحم وعدم وصلها قال تعالى: )فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ( [محمد: 22].

ومن الفساد الاجتماعي التكبر والتعالي على الناس، والافراط في الفرح والأشر والبطر، قال الله تعالى في قصة قارون: )إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ * وَابْتَغِ فِيمَا آَتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآَخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (.

وسفك الدم الحرام بغير حله من صور الفساد، ولذا قالت الملائكة: )أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ(، وقتل النفس بغير حق من كبائر الذنوب؛ قال صلى الله عليه وسلم«لَزَوَالُ الدُّنْيَا أَهْوَنُ عَلَى اللَّهِ مِنْ قَتْلِ رَجُلٍ مُسْلِمٍ» [أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيُّ]، بل وحتى الكافر المعاهد والمُسْتَأْمَنُ بين النبي صلى الله عليه وسلم حرمة قتله فقال: «مَنْ قَتَلَ نَفْسًا مُعَاهَدًا لَمْ يَرِحْ رَائِحَةَ الجَنَّةِ، وَإِنَّ رِيحَهَا لَيُوجَدُ مِنْ مَسِيرَةِ أَرْبَعِينَ عَامًا» [أَخْرَجَهُ البُخَارِيُّ].

والسحرُ إفساد فقد سمى الله عز وجل فاعله مفسدًا فقال تعالى: ﴿ فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ المُفْسِدِينَ ﴾، وسمى الله عمل السحرة والسحر بأنه عمل المفسدين، وذلك لما يترتب عليه من فساد الأسر والتفريق بين الزوجين وخراب البيوت.

ومن أسباب الفساد تأخير زواج الفتاة وعضلها ومنعها من كفئها وتغير معايير اختيار الخاطب بالنظر إلى وجاهته ومنصبه لا إلى تقواه وتدينه، قال صلى الله عليه وسلم: «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ» [أخرجه الترمذي].

ومن الفساد الغش في البيع ولما مر النبي صلى الله عليه وسلم على صُبْرَةِ طعام فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا، فَقَالَ: «مَا هَذَا يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ؟»، قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: «أَفَلَا جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ كَيْ يَرَاهُ النَّاسُ، مَنْ غَشَّ، فَلَيْسَ مِنِّي» [أخرجه مسلم].

ومن صور الفساد الاعتداء على الأموال والممتلكات العامة والخاصة والاختلاسات وقبول الرشوة وهدايا العمال واستغلال المناصب للمصلحة الذاتية، وهذا كله فساد وخيانة للأمانة، وقد وبخ النبي صلى الله عليه وسلم من يستغل منصبه وعمله في استجلاب منافعه الخاصة، فقال: «مَا بَالُ الْعَامِلِ نَبْعَثُهُ فَيَأْتِي، يَقُولُ: هَذَا لَكَ وَهَذَا لِي، فَهَلَّا جَلَسَ فِي بَيْتِ أَبِيهِ وَأُمِّهِ فَيَنْظُرُ أَيُهْدَى لَهُ أَمْ لَا؟ » [أخرجه البخاري].

وفي هذا الحديث بيان أن هدايا العمال حرام وغلول؛ لأنه خان في ولايته وأمانته، وقد بين صلى الله عليه وسلم السبب في تحريم الهدية عليه، وأنها بسبب الولاية بخلاف الهدية لغير العامل، فإنها مستحبة، وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي حميد الساعدي، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (هَدَايَا الْعُمَّالِ غُلُولٌ) فقد جعل صلى الله عليه وسلم أخذ هدايا العمال وأصحاب الولايات والوظائف من الغلول والخيانة، وفي هذا إبطال كل طريق يوصل إلى تضييع الأمانة بمحاباة المهدي، لأجل هديته كما ذكره أهل العلم.

وكم يفتك الفساد والخيانة بالمؤسسات العامة والخاصة ومظاهره أكثر من أن تحصر؛ ففي التعليم يكون باللامبالاة بالغش وتزوير الشهادات ، وانتحال الألقاب العلمية، فينتج جيل جاهل ألف الكسل والاتكالية ليس أهلا للقيادة وتصريف الشؤون، وفي الطب والدواء بالإهمال وسوء خدمة المرضى، وفي المقاولات والبناء بالغش والخداع في الأداء والعمل فتتعطل المصالح وتتضرر الأرواح ؛ وليعلم أن تزوير التقارير والشهادات الطبية والعلمية والهندسية داخل في شهادة الزور وتضييع الأمانة.

والإسراف ومجاوزة الحد في الغي والتمادي في المعاصي إفساد قال تعالى على لسان موسى عليه الصلاة والسلام ﴿ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ ﴾ ومن صور الفساد فساد الأخلاق في أوساط الشباب والفتيات بسلوك طرق الغواية ومسالك الردى والخمور والمخدرات والاختلاط والمعاكسات، واصلاح ذلك بإيلاء الشباب عناية فائقة بإحسان التربية والتعليم وشغل فراغهم بالمفيد والنافع وتنشئتهم على طاعة الله.

بَارَكَ اللهُ لِي وَلَكُمْ فِي القُرْآنِ وَالسُّنَّةِ، وَنَفَعَنِي وَإِيَّاكُمْ بِمَا فِيهِمَا مِنَ البَيَّنَاتِ وَالْحِكْمَةِ. أَقُولُ مَا تَسْمَعُونَ وَأَسْتَغْفِرُ اللهَ لِي وَلَكُمْ؛ فَاسْتَغْفِرُوهُ إِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً.

الخطبة الثانية

الحَمْدُ لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده وبعد عباد الله، فإن علاج الفساد يبدأ بإصلاح المرء نفسه واستقامته، فمتى ما صلح الفرد صلحت الأسرة وبالتالي صلحت المجتمعات، والخير كله بالبعد عن الفساد والإفساد بكل أشكاله وصورة؛ قال تعالى: )تِلْكَ الدَّارُ الْآَخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَايُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَافَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ(، والواجب بذل النصح والتواصي بالحق، وتذكير من ولي ولاية أو مسؤولية بالخوف من الله وخشيته ومراقبته، وخطورة التفريط في الأمانة، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإلا أُخِذَ العامة بذنب الخاصة ؛ قالت زينب رضي الله عنها: «يَا رَسُولَ اللهِ أَنَهْلِكُ وَفِينَا الصَّالِحُونَ؟ قَالَ: نَعَمْ إِذَا كَثُرَ الْخَبَثُ» [متفق عليه].

واعْلَمُوا أَنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيهِ بِنَفْسِهِ، وَثَنَّى بِمَلَائِكَتِهِ المُسَبِّحَةِ بِقُدْسِهِ، وَأَيّهَ بكم أيها المُؤْمِنُونَ مِنْ جِنِّهِ وَإِنْسِهِ، فَقَالَ قَوْلاً كَرِيمًا: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا(.

اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ وَرَسُولِكَ مُحَمَّدٍ، وَارْضَ اللَّهُمَّ عَنِ الخُلَفَاءِ الرَّاشِدِينَ الأَئِمَّةِ المَهْدِيِّينَ: أَبِي بَكْرٍ وَعُمَرَ وَعُثْمَانَ وَعَلِيٍّ، وَعَنْ سَائِرِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعِينَ، وَالتَّابِعِينَ لَهُمْ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ.

اللَّهُمَّ أَعِزَّ الإِسْلَامَ وَالمُسْلِمِينَ، وَأَذِلَّ الشِّرْكَ وَالمُشْرِكِينَ وَدَمِّرْ أَعْدَاءَ الدِّينِ، اللَّهُمَّ َاكْفِنَا بِحَلَالِكَ عَنْ حَرَامِكَ، وَبِفَضْلِكَ عَمَّنْ سِوَاكَ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ وألحقنا بالصالحين غير خزايا ولا مفتونين يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ. 

ألقيت يوم الجمعة 25 / 3/ 1441هـ من جامع موضي السديري بالرياض

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply