بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
هذه وقفات مع السؤال الأشد راهنية في أيامنا، نقاط يلفها خيط الصناعة الفقهية:
أولًا: من تبصّر في هذه النازلة وجد أن ترداد الناس للسؤال عن مناطق الحل والحرمة أمر حسن في أصله، فالنفس البشرية مجبولة على الحديث عن همومها، وما نراه من اهتمام واشتغال يطمئن المصلح على مقام الصلاة في النفوس، ولو أصبح الناس دون تساؤل وتقاول ورأوا أمر إغلاق المساجد حدثًا عابرًا لكان الأمر مخيفًا، إنما يتجه النكير لمن يفتي بلا علم، أما مطلق القول وترداده فحسنٌ مبشر، والفقيه الحق يسعده وجوده هذه الفاعلية لمسائل الفقه في المجتمع.
ثانيًا: هذه مسألة بها مكون فقهي أصيل، ومكون فكري ثانوي؛ ومن مباحث الفكر المثارة: سؤال الشر، وهم تعارض “لاعدوى” بوقوعها، وعلاقة الڤيروس بنظرية التطور، وثنائية العقوبة والبلاء، والتفوق المادي للغرب، والعلموية مقابل علوم الشريعة في الأزمات، وتأثير الدولة الحديثة في تصرفات الفرد، والاقتصار على التفسير المادي للحوادث، وعلاقة الرأسمالية بتغذية فكرة الملل؛ وغيرها من المباحث.
ثالثًا: لكل مسألة ذوقها [1]؛ ومسألة منع الاجتماع في المساجد تتنازعها مؤثرات “تقدير الضرر” و “معنى المصلحة”و “حدود الترخص”؛ أما الدخول للمسألة من بوابة ترتيب الضرورات الخمس فذوق أجنبي عن المسألة، فالترخص لحفظ النفس بالجلوس في المنزل ليس تقديمًا للنفس على حفظ الدين المتمثل بالحضور البدني للمسجد، ولا أظن فقيهًا يقول أن سقوط الجماعة عن من يخاف سرقة ماله [2] هي من باب تقديم حفظ المال على حفظ الدين، ولا أن الصلاة في الرحال [3] حال البرد والمطر هو تقديم لحفظ النفس على حفظ الدين؛ فترتيب الضرورات قاعدة منظومية وصفية، ولا تُقدم حاكمة على أفراد المسائل؛ هذا قيد مهم.
رابعًا: القياس الصحيح لأحكام الجماعة في ظل كورونا يكون مركبًا بين الوباء الهوائي كالطواعين، والوباء المادي كالجذام؛ فمن قاسه على الطواعين وحدها ففي قياسه وهن، فكورونا أيضًا وباء جسدي ينتقل بالعدوى والاجتماع، فقياسه على الجذام يجعل القول بتعليق حضور الصلاة في المسجد متوجهًا في أصله؛ قال الشيخ منصور:
“فصل ولا يجوز للجذماء مخالطة الأصحاء عموما ولا مخالطة أحد معين صحيح إلا بإذنه، وعلى ولاة الأمور منعهم من مخالطة الأصحاء بأن يسكنوا في مكان مفرد لهم ونحو ذلك وإذا امتنع ولي الأمر من ذلك أو المجذوم أثم وإذا أصر على ترك الواجب مع علمه به فسق”[4]
خامسًا: من مثارات الغلط في معمار بعض الفتاوي توهم التعارض بين نص “لا عدوى” و ” لا يورد ممرض على مصح” و عموم نصوص التوكل، ومجمل القول في هذا معلوم في مظانه، وأن المؤثر الأول هو الله “فمن أعدى الأول” وأن سريان العدوى نتيجة.
سادسًا: وقع في كلام بعض المتفقهة قصر الرخص على الأفراد دون العموم، والتفريق بين الفردية والجماعية مؤثر موجود، لكن ذلك لا ينفي وجود رخص عامة؛ وإن شريعةً ترخص بالصلاة في البيت عند نزول أذى محتمل مثل المطر الشديد لا يمكن أن توجب الحضور فيما هو فوق الأذى كالمرض المخوف كورونا.
سابعًا: من الفروق المعتبرة أن العزلة في كورونا ليست إجراءً وقائيًا للفرد فحسب، بل هو إجراء وقائي وعلاجي؛ فهو يعالج انتشار الحالة، ويحد من آثارها، فالوقاية مصلحة فردية، والعلاج مصلحة جماعية؛ وهذا يقلل من مساحة تصرف الفرد مقابل مصلحة الجماعة.
ثامنًا: انتشرت صورة لمصلين تباعدوا عن بعضهم، وهذه صورة اجتهادية تطبق قاعدة “الميسور لا يسقط بالمعسور”، وتكون حسنة في أحوال:
– إمكان ضبط المصلين على هذه الصورة؛ وهذا يختلف من بلد لآخر.
– فائدتها في تجنب أسباب الوباء؛ وهذا أمر طبي [5] .
– اقتصارها على مسجد واحد في البلد؛ تحقيقًا للكفاية.
فإن انتقض شرط مما سبق، فيصار إلى المنع التام وإغلاق المساجد.
تاسعًا: المكث في البيت واحتساب الأجر في هذا الظرف عبادة عظيمة، لما فيها من حفظ النفس، ومخالفة الهوى، وتفويت بعض المصالح رجاء مصالح أعظم؛ فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :” … فليس من رجل يقع الطاعون فيمكث في بيته صابرًا محتسبًا يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر شهيد” [6]
عاشرًا: لهذه النازلة آثارٌ على كثير من أبواب الفقه وليس فقط الصلاة؛ من جهة أنه عيب مجيز للفسخ، ومن جهة أنه مؤثر في معنى الأجل في العقود، ومؤثر في بعض ما تدخله يد الضمان، والذي أحب التذكير به أنه يحسن بالفقيه إفتاء التجار بجواز تقديم الزكاة في مثل هذا الظرف خصوصًا؛ مع استحضار الضرر الحاصل على بعض المحتاجين من أصحاب الكسب اليومي [7]
الحادي عشر: يحسن بمن تصدر أن يعلم الناس أحكام صلاة الجماعة في المنزل، وصفة ترتيب الصفوف رجالًا ونساء، والأحكام المتعلقة بهذه المباحث، ومن المبشرات هنا قول الموفق ابن قدامة:
“ولو أَم الرجل زوجتَه أدرك فضيلة الجماعة” [8] .
ولصلاة الجماعة المنزلية فوائد تربوية لا تخفى على الناظر.
الثاني عشر: الصلاة في المسجد عبادة وشعيرة، والحزن المتزن على فواتها شعيرة أخرى؛ فلا يحسن أن نعترض على من تحدث بحزن على إغلاق المساجد بأمرين:
– تقصيره السابق: فالصلاة شعيرة، وحزنه من تعظيم الشعيرة، والمعلوم من فقه النفوس أن مثل هذه الحوادث قد تكون سببًا في عودة بعض الناس بعد انقشاغ الغمة.
– الإعذار: فكون الشخص معذورًا بصلاته في المنزل لا يمنع ذلك من الحزن، فقد عُذر قوم عن الجهاد ومع ذا “تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنًا” .
الثالث عشر: هذا أوان خطاب الفقه الكلي؛ الذي يجمع الحث على التوكل والعمل، المذكر بالأسباب الإيمانية والطبية لرفعه، الواعظ بابتلاء المؤمن وعقوبة العاصي، ولا معنى لافتعال التعارض بينها.
الرابع عشر: من تمام عقل الفقيه أن يصير إلى تأليف النفوس، وقلة الاعتراض فيما يسوغ فيه الخلاف، وأن يغذي أسباب الاجتماع ولو على مرجوح عنده، ويبتعد عن تهويل مآلات مظنونة لهذا الإغلاق؛ فما كان في منطقة “استشراف المآل” أقرب للتفاوت والظنيةمن بعض اللغات الحاسمة.
أسأل الله أن يرفع البأساء، ويرحم عباده المؤمنين، ويعين من ضاقت به معيشته، ويشفي المرضى، ويعين الكوادر الطبية والخدمية ويكتب أجورهم، ويرزقنا الفقه في الدين، وشرف معرفة مراد الله من أحكامه.
[1] انظر في هذا التعبير : المستصفى للغزالي ص202 و ص314 و ص 322، التحقيق والبيان للأبياري (4/ 489)، ثم توارد الأصوليون على هذا الملمح المنهجي في مواجهة التقعيد المصمت .
[2] هذه مسألة مشتهرة؛ انظر مثلًا : الروض المربع ص140 .
[3] انظر مثلًا: كشاف القناع (1/ 497) وأصل الأمر بالصلاة في الرحال في الصحيحين (البخاري 616 ومسلم699)
[4] كشاف القناع (6/ 126)
[5] ينظر في مسألة تفعيل الخبير في التقدير والتوصيف والعلاج : بحث “وظيفة الخبير في النوازل الفقهية” للدكتور أحمد الضويحي
[6] مسند أحمد 26139 ولفظ البخاري: (في بلده) 3474 .
[7] الجمهور على جواز تعجيل الزكاة بعد تحقق النصاب بشروط؛ انظرها بتفصيل وترتيب في (الموسوعة الفقهية 12/ 225) وما بعدها.
[8] المغني (2/ 131)
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد