بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
لما كان الوقت سريع الانقضاء، وكان ما مضى منه لا يرجع ولا يعوض بشيء، كان الوقت أنفس وأثمن ما يملك الإنسان، وترجع نفاسته إلى أنه وعاء لكل عمل وكل إنتاج، فهو في الواقع رأس المال الحقيقي للإنسان فردا أو مجتمعا، فلله در قوم بادروا بالأوقات، واستدركوا الهفوات، فالعين مشغولة بالدمع عن المحرمات، واللسان محبوس في سجن الصمت عن المهلكات، والكف قد كفت بالخوف عن الشهوات، والقدم قد قيدت بقيد المحاسبات، والليل لديهم يجأرون فيه بالأصوات، فإذا جاء النهار قطعوه بمقاطعة اللذات، فكم من شهوة ما بلغوها حتى الممات.
فتيقظ للحاقهم من هذه الرقدات، ولا تطمعن في الخلاص مع عدم الإخلاص في الطاعات، ولا تؤملن النجاة وأنت مقيم على الموبقات، قال تعالى: {أًمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أّن نَّجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاء مَّحْيَاهُم وَمَمَاتُهُمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الجاثية:21] وقال: {أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ} [القلم:35]
قال الغزالي في الإحياء: "الناس في هذا العالم سفر، وأول منازلهم المهد، وآخرها اللحد، والوطن هو الجنة أو النار، والعمر مسافة السفر، فسنوه مراحله، وشهوره فراسخه، وأيامه أمياله، وأنفاسه خطواته، وطاعته بضاعته، وأوقاته رؤوس أمواله، وشهواته وأغراضه قطاع طريقه، وربحه الفوز بلقاء الله تعالى في دار السلام مع الملك الكبير والنعيم المقيم، وخسرانه البعد عن الله مع الأنكال والأغلال، والعذاب الأليم في دركات الجحيم، فالغافل في نَفس من أنفاسه حتى ينقضي في غير طاعة تقربه إلى الله زلفى، متعرض في يوم التغابن لغبينة وحسرة ما لها منتهى، ولهذا الخطر العظيم والخطب الهائل، شمر الموفقون عن ساق الجد، وودعوا بالكلية ملاذ النفس، واغتنموا بقايا العمر".
قال رجل لداود الطائي: أوصني. فدمعت عيناه، وقال: يا أخي إنما الليل والنهار مراحل، ينزلها الناس مرحلة بعد مرحلة، حتى ينتهي ذلك إلى آخر سفرهم، فإن استطعت أن تقدم كل يوم زادا لما بين يديك فافعل، فإن انقطاع السفر عن قريب، والأمر أعجل من ذلك، فتزود لنفسك، واقض ما أنت قاض، فكأنك بالأمر قد بغتك، إني لأقول لك هذا وما أعلم أحدا أشد تقصيرا مني ثم قام وتركه.
وقف قوم على عالم، فقالوا له: إنا سائلوك أفمجيبنا أنت؟ قال: سلوا ولا تكثروا، فإن النهار لن يرجع، والعمر لن يعود، والطالب حثيث في طلبه، قالوا: فأوصنا، قال: تزودوا على قدر سفركم، فإن خير الزاد ما أبلغ البغية، ثم قال: الأيام صحائف الأعمال، فخلدوها أحسن الأعمال، فإن الفرص تمر مر السحاب، والتواني من أخلاق الكسالى، ومن استوطن مركب العجز عثر به، وتزوج التواني بالكسل فولد بينهما الخسران.
وقال بعضهم يوبخ نفسه ويعظها: يا نفس بادري بالأوقات قبل انصرامها، واجتهدي في حراسة ليالي الحياة وأيامها، فكأنك بالقبور قد تشققت، وبالأمور وقد تحققت، وبوجوه المتقين وقد أشرقت، وبرؤوس العصاة وقد أطرقت: قال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُوا رُؤُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ} [السجدة:12] يا نفس أما الورعون فقد جدوا، وأما الواعظون فقد نصحوا.
قال قتادة: اعلموا أن طول العمر حجة، فنعوذ بالله أن نعير بطول العمر، قال تعالى: {أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُم مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَاءكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ} [فاطر:37]
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ما ندمت على شيء ندمي على يوم غربت شمسه، نقص فيه أجلي، ولم يزد فيه عملي.
وقال عمر بن عبد العزيز: إن الليل والنهار يعملان فيك فاعمل فيهما.
وقال الحسن البصري: يا ابن آدم، إنما أنت أيام، فإذا ذهب يوم ذهب بعضك، وقال: أدركت أقواما كانوا على أوقاتهم أشد منكم حرصا على دراهمكم ودنانيركم.
وقال أيضا: ليس يوم يأتي من أيام الدنيا إلا يتكلم يقول: يا أيها الناس، إني يوم جديد، وإني على ما يُعمل في شهيد، وإني لو غربت الشمس لم أرجع إليكم إلى يوم القيامة.
وعنه أنه كان يقول: يا ابن آدم، اليوم ضيفك، والضيف مرتحل يحمدك أو يذمك، وكذلك ليلتك.
وعن مالك بن دينار قال: كان عيسى عليه السلام يقول: إن هذا الليل والنهار خزانتان، فانظروا ما تضعون فيهما.
وكان يقول: اعملوا الليل لما خلق له، واعملوا النهار لما خلق له.
قال الإمام أبي الوفاء ابن عقيل: إني لا يحل لي أن أضيع ساعة من عمري، حتى إذا تعطل لساني عن مذاكرة أو مناظرة، وبصري عن مطالعة، أعملت فكري في حال راحتي وأنا منطرح، فلا أنهض إلا وقد خطر لي ما أسطره، وإني لأجد من حرصي على العلم وأنا في عشر الثمانين أشد مما كنت أجده وأنا ابن عشرين سنة، وأنا أقصر بغاية جهدي أوقات أكلي، حتى أختار سف الكعك وتحسيه بالماء على الخبز، لأجل ما بينهما من تفاوت المضغ، توفرا على مطالعة، أو تسطير فائدة لم أدركها فيه، وإن أجل تحصيل عند العقلاء -بإجماع العلماء- هو الوقت، فهو غنيمة تنتهز فيها الفرص، فالتكاليف كثيرة والأوقات خاطفة.
يقول ابن الجوزي: والله إني لأتخايل دخول الجنة، ودوام الإقامة فيها من غير مرض ولا بصاق ولا نوم ولا آفة تطرأ، بل صحة دائمة وأغراض متصلة لا يعتريها منغص، في نعيم متجدد في كل لحظة إلى زيادة لا تتناهى فأطيش، ويكاد الطبع يضيق عن تصديق ذلك لولا أن الشرع قد ضمنه. ومعلوم أن تلك المنازل إنما تكون على قدر الاجتهاد هاهنا، فواعجبا من مضيع لحظة يقع فيها !! فتسبيحة تغرس له في الجنة نخلة أكلها دائم وظلها، فكل الآفات والمخافات في نهار الأجل، وقد اصفرت شمس العمر، فالبدار البدار قبل الغروب، ولا معين يرافق على تلك الطريق إلا الفكر إذا جلس مع العقل فتذاكرا العواقب، فإذا فرغ المجلس فالنظر في سير المجدين، فإنه يعود مستجلبا للفكر منها شتى الفضائل، والتوفيق من وراء ذلك، ومتى أرادك لشيء هيأك له. فأما مخالطة الذين ليس عندهم خبر إلا العاجلة فهو من أكبر أسباب مرض الفهم وعلل العقل، والعزلة عن الشر حمية، والحمية سبب العافية
المصادر
· إحياء علو الدين للغزالي 1/391
· الوقت في حياة المسلم د. يوسف القرضاوي مكتبة وهبة القاهرة
· صلاح الأمة في علو الهمة د. سيد العفاني ج4 مؤسسة الرسالة
· موارد الظمآن لدروس الزمان عبد العزيز السلمان ج1 ط 26
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد