من الفقهِ الحي إغلاقُ المساجِدِ في زمنِ الوباءِ


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد: 

لَهَجَ بعضُ الدّعاةِ من المغربِ والمشرقِ بالإنكارِ على فتــــــوى إغلاقِ المساجدِ في زمنِ الوباءِ، وسُئِلتُ عن رأيي في ذلك، وإن كان مثلي لا رأيَ له في نازلةٍ عامــــةٍ انتصبتْ لها هيئاتٌ كبرى للإفتاء، لكنني خشيتُ من عاقبــــــــــــــةِ الإلجامِ بالنارِ، وقـــــد توعَّد بها الشَّارعُ كاتمَ العلمِ والمتهاونَ في نشرهِ، فبادرتُ إلى تحريرِ هذا الجوابِ لسائلهِ:

منْ استطالَ نظرُهُ في مواردِ الشريعةِ صدراً وورداً، وأصبحَ ذوقهُ من ذوقِها، يدرك على يُسْرٍ من غيرِ معاناةٍ أن الفتــوى بإغلاقِ المساجدِ عند انتشار الأوبئةِ صحيحةٌ واقعاً وفقهاً:

1. أما من حيث الواقع؛ فإنَّ أهل الفتوى تصوّروا النازلة على حقيقتها في الواقع الخارجيِّ، بعد تقرير أهل الخبرة أن (وباء الكورونا)، يجد مرتَعَهُ في أماكنِ التجمّعات، وأنه يسري بين الناس عن طريق المصافحةِ والتقاربِ الجسديِّ، ومعلـــــــــــــــومٌ أن الجماعات تقامُ في المساجدِ لتحصيلِ مصالح الاجتماع اليوميِّ من استجلابِ الألفــــــــــة واستدفاعِ ضدّها، ولا يتأتَّى ذلك إلا بسلامٍ ومصافحةٍ ومذاكرةٍ.. وأهلُ الفتوى تبعٌ لأهلِ الطبِّ في التصوّرِ، (ولا يحلُّ لفقـــــيه عاقلٍ أن يقول في ثمنِ درهم  ولا خبرةَ له بسوقه) كما قال الشافعي رحمه الله.

2 . أما من حيث الفقه؛ فمدارُ الكلامِ على شقين:

2 . 1 . شقّ نصيّ: يدور على نصوصٍ حديثيةٍ صحيحةٍ تأذن لأهل الأعذار في ترك الجماعات، أو تنهى عن غشيــــــــــــــــــــــــانِ المساجدِ حسماً لمادة إيذاء المصلين، أو ترغِّب في المكوث بالبيوت عند انتشار الأوبئة، ومن هذه البابةِ:

_ عن نافع (أن ابن عمر أذّن بالصلاة في ليلةٍ ذات بردٍ وريحٍ، ثم قال: ألا صلّوا في الرِّحال، ثم قال: إن رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ كان يأمر المؤذن إذا كانت ليلةٌ ذات برد ومطرٍ يقول: ألا صلّوا في الرحال) (رواه البخاري برقم: 666، ومسلم برقم: 697). وعن عبد الله بن الحارث ابن عم محمد بن سيرين قال: (قال ابن عباس لمؤذنــــــه في يومٍ مطيرٍ: إذا قلت أشهد أن محمداً رسول الله فلا تقل: حيّ على الصلاة، قل: صلّوا في بيوتكم، فكأنّ الناس استنكروا، قال: فعله مــــن هو خيرٌ مني، إن الجمعة عَزْمةٌ، وإني كرهتُ أن أُحْرِجَكُم فتمشون في الطين والدَّحْضِ) (رواه البخاري برقم: 901).

وإذا كان الظاهر من سياق الحديثِ أن الصلاة في الرحال معلَّلةٌ بدفع مشقة الخروج في الليلةِ المطيرة الباردة، أو مشقة المشي في الطينِّ والدَّحْضِ، فإن علَّة الخوف على النفس في زمن انتفاشِ الوباء أقوى وأظهر، فيكون هذا من قياس الأولى، وهو قياسٌ فطريٌّ قرآنيٌّ لا مجال للمشاحَّةِ فيه.

_ حديث: (من أكل البصل والثُّوم والكُراث فلا يقربنَّ مسجدنا؛ فإن الملائكةَ تتأذّى مما يتأذّى منه بنو آدم) (رواه مسلم برقم: 564)، وخطب عمر بن الخطاب يوم الجمعة فقال: ( .. ثم إنكم أيها الناس تأكلون شجرتين لا أراهما إلا خبيثتيـــــــن: هذا البصل والثوم، لقد رأيت رسول الله _ صلى الله عليه وسلم _ إذا وجد ريحهما من الرجل في المسجد أمر به فأخرج إلى البقيع، فمن أكلهما فليُمِتْهما طبخاً) ( أخرجه مسلم برقم: 567 ).

وإذا كان النهي وارداً عن الإيذاء بالرائحة الكريهة، فما ظنّك بوباء فاتكٍ قطع الطب بسريانه الواسع عن طريق الالتئـــــــــــام المكانيِّ القريبِ، فالإيذاء الأشدُّ، إذاً، أولى بالدَّرء من الإيذاء الأخفِّ، على ما يقضي به قاضي الشرع والعقل معاً. وقد وسّع بعضُ الفقهاء الوعاءَ البيانيَّ لهذا النصِّ، فألحقَ بالرائحةِ الكريهةِ البَخَر والصُّنان، وهما أخفُّ حالاً من (الفيروســـــــــــــــــــــــــــــــات) المعدية! يقول الخطيب الشربيني: (ويُؤخذ مما ذُكر أنه يُعذر _ أي من تخلَّف عن صلاة الجماعــــــــــــــــــــــــــة _ بالبَخَر والصُّنانِ المستحكمِ بطريق الأولى، قاله في "المهمات" ، وتُوقِّف في الجذام والبرص، والمتَّجه كما قال الزركشيُّ أنه يُعذر بهما؛ لأن التأذي بهما أشدّ منه بأكلِ الثوم ونحوه. قال: وقد نقل القاضي عياض عن العلماء أن المجــــــــــــذوم والأبرص يُمنعان مـــــــــــــــــــن المسجد، ومن صلاة الجماعةِ، ومن اختلاطهما بالناس) ( مغني المحتاج: 1 / 476 ).

_ حديث عائشة _ رضي الله عنها _  قالت: ( كان الناس يأتون الجمعة من منازلهم ومن العوالي، فيأتون في العَباء، ويصيبهم الغبارُ، فيخرج منهم الريح، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم إنسانٌ منهم _ وهو عندي _ فقـــــــــال النبي _ صلى الله عليه وسلم : لو أنكم تطهرتم ليومكم هذا) ( رواه البخاري برقم : 902، ومسلم برقم: 847 باختلاف يسير ).

قال ابن دقيق العيد: (وقد تبيّن من بعض الأحاديث أن الغسل لإزالة الروائح القبيحة، ويُفهم منه : أن المقصــــــــــــــود عدم تأذّي الحاضرين) ( إحكام الأحكام: 1 / 332 ). وفهمُ ابن دقيق من الشُّفوفِ بمكان؛ ويؤنس لهُ أن الشارع _ في مجاريـــه ومباعثه _ يسدُّ كل ذريعةٍ إلى إيذاء المصلين في المساجد، ويقطع عنهم مادة الانشغالِ بالعوارض عن الخشوع. ودرءُ الهلاكِ عن النفس آكدُ من درءِ منغِّصات عارضةٍ. 

_ حديث عائشة _ رضي الله عنها _ قالت سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الطاعون ؟ فأخبرني: أنــــــــــــــه كان عذاباً يبعثه الله على من يشاء، فجعله رحمةً للمؤمنين، فليس من رجلٍ يقعُ الطاعون، فيمكُثُ في بيته صابراً محتسباً يعلم أنـــــه لا يصيبه إلا ما كتب الله له إلا كان له مثل أجر الشهيد ( رواه أحمد برقم: 26139 ).

وفي الحديث ترغيبٌ في مكوث الناس ببيوتهم عند انتشار الأوبئـــــــــة، ومقتضاه أن تُترك الجماعـــات والجُمع، وتُعطَّل المساجد خوفاً من الاجتماع المفضي إلى استحكام العدوى؛ بل إن هذا التعطيل أو ذاك الترك يأخذ حكم مقصوده، فإذا كان المقصود واجباً فهو واجب على ما يقتضيه التلازم بين الوسيلة ومقصودها في الغالب.

2 . 2 . شقٌّ تقعيديٌّ: يدور على انتجاعِ قواعدَ فقهيةٍ ذات أثرٍ محقَّق في شدّ نطاق الفتوى بإغلاق المساجد في زمن الوباء، نعدّ منها ولا نعدّدها:

_ قاعــدة: ( الغالب مساوٍ للمحقَّق: قواعد المقري،القاعدة 13)، وهي من قواعد التغليب والمقاربــــــــــــــــــــــة التي تُقيم الغالبَ المظـنــون وقوعـــــــــــــــــه ظنّاً غالباً مقــــــامَ المحقَّق الوقــوع؛والأصلُ العملُ بغلبـــــــة الظنِّ عند إعواز القواطع، وعَدُّ المفسدة المتوقَّعِ وقوعها على سبيل الرجحان واقعاً، حـــــــــــتى تُحســــــم مادتها على سبيل التـــــــــــوقي والاجتناب. وحضور الجماعات في المساجد مظنَّـــــــــــــــــــــةُ انتشار الوباء؛ إذ يتخلَّلــه اجتمـــاعٌ بالأبواب، وتراصٌّ في الصفوف، وتصافح بالأيدي عقب انتهاء الصلوات، وهلمّ جراً.. وهذه ذرائع يجب حسمها على رأي الأطباء، ولا نُدْحةَ للفقيهِ عن الأخذ برأيهم كما يُؤخذ بآراء الخبراء في كلِّ مضمارٍ.

_ قاعدة: ( الدفع أسهل من الرفع: الأشباه والنظائر لتاج الدين السبكي، 1 / 127 )، وهذه قاعدة وقائيةٌ تقطع مادة الضررِ قبل نزولــــــــه، لما يُعلَم من الصعوبة وتفاقم الكلفــة عند النزول. وإغلاق المساجد في زمن الوباء من باب العلاجِ بالدفعِ الذي يصون طاقات الأمةِ عن الإهدارِ، أما العلاج برفع الوباء فربما يتعذَّر عند استفحاله وتضاؤل الإمكانات. 

_ قاعدة: ( تصرف الإمام على الرعية منوط بالمصلحة: المنثور في القواعد للزركشي، 1 / 309 )، ومجالُ تنزيلها رحبٌ في النوازل العامة؛ إذ يكون لولاة الأمـور من السلطةِ والحزمِ والمشورةِ الصالحةِ ما يسعفهم على إقامــــــــــــــــــــــةِ التدابيرِ المصلحيــّــــــةِ الصَّحيحــــــــــــــــــــــــةِ، وأمرهم بإغلاق المساجد عند انتشارِ الوباءِ معـــــروفٌ يُطاعون فيه؛ وتصرّفٌ مقاصديٌّ جالبٌ لحفظ النفوس والمُهج، ولا يحلُّ منابذتُهم بقولٍ أو فعلٍ على نحوٍ يشغِّب على مصالحِ الأمةِ، ويهدّد أمنَها العامَّ. 

وبعد:

فهذه معاقدُ نظرنا في تصحيحِ فتوى إغلاق المساجد في زمن ( الكورونا)، وهي فتوى مقاصديةٌ حيّةٌ تدور على الاحتيــــــاطِ لكليّة النفس، وإنما يشرفُ الاحتياط بشرفِ المحتاطِ له. ولذلك لم ألفِ للفتوى عنواناً يليــــقُ بحُسنِها إلا ( الفقــــــــــــــه الحيّ ) الذي تحدث عنه ابن القيم قائلاً: (وهذا هو الفقه الحيّ الذي يدخل على القلوب بغير استئذان) ( إعلام الموقعين: 3/ 63 )، ومـــــــــــــــــــــا أحوجنا إلى صيدليَّــــةِ هذا الفقه في زمنِ الوباءِ العقليِّ !

بالشارقة 28 رجب 1441 ه

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply