التعامل مع المصائب


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

عباد الله، مِن الحقائق التي يتفق عليها البشرُ أن هذه الدنيا مظنةُ الكَدَر، تتنوع فيها المصائب، وتتقلب الأحوال على ألوانُ ؛ قال تعالى :{وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ...}، لا فرق في ذلك بين مسلمٍ وكافر، ومؤمن وفاسق، وهذا الواقع الكوني القدري لا ينفك عنه أحد:{لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ}؛ إلا أن المسلمَ المؤمن يتعامل مع المصائب بمنظارٍ آخر؛ يخفِّف عليه وقعَ المصاب، بل وربما انتقل معه إلى درجةِ الرضى، وتلك منزلةٌ عليّة، يمنّ اللهُ بها على مَن يشاء مِن عباده.

ولِما سَبَقَ في عِلْمِ الله مِن مضيّ سُنة الابتلاء في الخلق؛ صار الإيمانُ بالقدَر أحدَ أركان الإيمان التي لا يتم إيمانُ عبدٍ إلا بها.

لكن مع تكرُّر الشكوى من المصائب، وتجدد الهمومِ والمنغّصات؛ كان لابد من معرفة كيفية تلقّي هذه الأقدار المؤلمة، والتعامل معها في ضوء نصوص الوحيين.

إن البلاء لا ينفك عنه أحدٌ غالبا؛ ولو سلِم منه أحدٌ لسلِم الأنبياءُ والمرسلون، ولكن الله تعالى ـ لحكمةٍ بالغة ـ ينوّع على عباده البلاء؛ فمنهم من يُبْتلى بالسراء، ومنهم من يُبتلى بالضراء..

فلستَ وحدَك - أيها المبتلى - في هذا الطريق، وهذا مما يَسْلو به الإنسانُ، على حدّ قول الخنساء رضي الله عنها قبل الإسلام:

ولولا كثرةُ الباكين حولي *** على إخوانهم؛ لقتلتُ نفسي

وَما يَبكونَ مِثلَ أَخي وَلَكِن***أُعَزّي النَفسَ عَنهُ بِالتَأَسّي

 

والله تعالى لا يُقدِّر شيئاً إلا لحكمةٍ بالغة، وعاها مَن وعاها، وجهِلها مَن جهِلها، وكم في المحن من مِنَح، وكم في المصائب مِن ألطاف وأسرار تعجز عقولُ البشر عن إدراكها، فكم مِن شاردٍ عن ربه، يبتليه مولاه ببلاء، فيكون سبباً في توبته ورجوعه لمولاه! وكم مِن ابتلاء أنجى مِن ابتلاء أكبرَ منه، ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون!

تيقّن أن جالبَ النفع هو الله، ودافع الضر هو الله، وأن ما يقع لا يخفى عليه، بل كله تحتَ عينه، وأن رحمتَه سبقت غضبَه، وأن الله أرحم بعباده من أمهاتهم اللائي ولدنهم، بل من أنفسهم التي يحملونها، وهذا كلُّه يدعوك لأن تُعلّق قلبَك بالله وحده، ترجوه، وتُخبت له، وتنطرح بين يديه. (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ(.

ولنتذكّر وصيةَ النبي صلى الله عليه وسلم لابن عباس رضي الله عنهما وهي وصيةٌ للأمة كلها: "ما أصابك لم يكنْ لِيخطِئك، وما أخطأك لمْ يكنْ ليصيبك " رواه أحمد، فلِمَ الجزع ولمَ القلق، ولنتأمل ماذا جلب الجزعُ والقلقُ على أهله هل صلحتْ وتغيرت أحوالهم! الجزع لا يُحيي ميتاً، ولا يَشفي مريضاً.. أبداً، بل خابوا وخسروا!

ومن عرف حقيقةَ الدنيا استراح.

طُبِعَت عَلى كدرٍ وَأَنتَ تُريدُها *** صَفواً مِنَ الأَقذاءِ وَالأَكدارِ

وَمُكَلِّف الأَيامِ ضِدَّ طِباعِها *** مُتَطَّلِب في الماءِ جَذوة نارِ

 

والفرج بعد الكربِ سنَّةٌ ماضيةٌ، وقضيةٌ مُسلَّمةٌ، كالنهار بعد الليلِ، لا شكَّ فيها ولا ريب، فلابد من فرج إما حسي، أو معنوي.

ابتلي يعقوبُ عليه السلام عشرات السنين، ثم جاءه الفرج، ومرض أيوب عليه السلام سنوات طويلة، حتى استنكره أقربُ الناس له ثم جاءه الفرج...

وكل الحادثات إذا تناهت *** فموصول بها الفرج القريب

 

أحسِن الظن بربك؛ فإنه عبادة عظيمة، قال الله تعالى في الحديث القدسي: " أنا عند ظنِّ عبدي بي"، رواه مسلم. يعني: أن الله عند ظن عبده به، إن ظن به خيرا فله، وإن ظن به سوى لك فله.

واختيار الله خيرٌ من اختيار العبد لنفسه، فلا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له، فإن أصابته سراء فشكر كان خيرا له، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيرا له. قال شيخ الإسلام ابن تيمية: " كل ما يقضيه الله تعالى فيه الخير والرحمة والحكمة "

والرضى عن الله عبادةٌ جليلة، مَنْ فقدها فَقَدَ خيراً كثيراً. قال الأعمش: كنا عند علقمة فقُرئ عنده هذه الآية :{وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ} فسُئل عن ذلك؛ فقال: هو الرجل تصيبه المصيبة، فيعلم أنها مِن عند الله؛ فيرضى ويُسلّم.

وكلما اشتدت المحنةُ، فاعلم أنها علامةٌ على قرب الفرج، هذه سنةٌ كونية، قال صلى الله عليه وسلم: " وأن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرًا " رواه أحمد، وفرج الله لا يخطر ببال فإذا أراد شيئاً يسّر أسبابَه، وقد تكون هذه الأسباب لا تتصور عند البشر.

وسبحان الله الذي بيده مفاتيح الفرج:" فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا * إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا" قال ابن عباس وغيره: " لنْ يغلبَ عُسْرٌ يُسْرَيْن".

تجمّل بالصبر، وتحلَّ بالرضا، واحتسب الأجر، وتذكّر ما أعده اللهُ لأهل البلاء: {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}، وتأمل في أمر الله لنبيه بقوله: {وَبَشِّرِ}، فسبحانك ربي ما أرحمك وألطفك!

وعليك بالدعاء؛ فسِهامُه صائبة، وعواقبه مجابة، ولن يخسر الداعي شيئا قطّ؛ فإنه إمّا أن تنكشف كربتُه عاجلاً، أو يَدفع اللهُ به كربًا أشدّ -لا يعلمه-، أو يجدها مدخرةً له يوم القيامة.

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم...

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى، وبعد، فاتقوا الله عباد الله حق التقوى، وإذا ضاقت نفسُك بهمّ المصيبة، وثَقُل كاهلك بحملها؛ فانطلق واسجد واقترب، وضع أثقالَ الأحزان بسجدةٍ بين يدي مولاك، وأَكثِر من تسبيحه وذِكره، فلنعم الربُّ الذي قال: {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِين}، وأبشر بقُرب الفرَج.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply