بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
أؤمن أن الفقه منجم أفكار لمن تبصّر وملك أدوات التحليل المناسبة، وأن الفقيه الحقّ قادر على الإشراف على آفاق فكرية لا يصل لها القادم من بوابات علمية أخرى؛ وفي كل خير .
تعال معي ندخل كواليس التفكير الغزالي -رحمه الله ورضي عنه-، وكيف طرح المسألة على سبورة التحليل، وسبر وقسّم، وأعمل أدوات استقصائية لطيفة، فالفقه ليس عملية رياضية جامدة، ولا إنشائيات خطابية؛ هو عملية تركيبية بين مكونات مختلفة؛ وليس كل من مزج الروائح عطّار .
في مسائل الحج من "تحصين المآخذ" عرض الإمام الغزالي المسألة التالية :
"إذا تحصنت المرأة بنسوة ثقات، وكانت الطرق آمنة، والخوف مرتفعًا، لزمها الخروج للحج، وإن لم يساعدها محرم"[١]
ثم فكر بصوت مرتفع، وقال "المرأة ممنوعة من الخروج منفردة، والرجل غير ممنوع، فيعلم ضرورة أن المفارقة معللة بتوقع أمر محذور من انفرادها" أضاف صفة أخرى لهذا المحذور "والمحرم مطلوب ليحميها عن ذلك المحذور"
هذه الخطوة الأولى، تجريد وتحديد لموطن النظر، ما الأمر الذي جعل الانفراد مشكلًا؟
ثم دخل في الخطوة الثانية في التفكير بصوت مرتفع لتحرير المسألة وتوجيه البوصلة:
"فلا بدّ من تعيين ذلك المحذور؛ حتى يتبين أنه هل يؤمن منه بالنسوة؟ أم يتعين المحرم؟"
ثم بدأ التقسيم :
الاحتمال الأول:
قال "إما أن يكون المحذور اتفاق خلوة الأجانب بها في الطرقات والمنازل، وهي محرمة لا يرتفع التحريم إلا بمحرم، ولا يرتفع بالنسوة"
الاحتمال الثاني :
قال "وإما أن يقال: المحذور وقوع الزنا باستمالتها وتغريرها، فإنها سريعة الاغترار، وإذا وجد الخادع فرصة خالية، ولم يكن محرم وازع سهل عليه خداعها، وحملها على التمكين"
الاحتمال الثالث:
قال : "وإما أن يقال المحذور هجوم الفساق عليها من غير رغبتها قهرًا"
هذه ثلاث احتمالات لسبب منع السفر للحج بلا محرم طرحها على طاولة البحث:
الاحتمال الأول: مجرد الاجتماع بالرجال في الطريق.
الاحتمال الثاني: أن المرأة كائن متهم، ووجود المحرم رقابي.
الاحتمال الثالث: أن السبب اختلاف البنى الجسدية بين الذكر والأنثى، وأن رقة المرأة قد تمنعها من مواجهة المعتدي الأقوى جسدًا .
بدأت التصفية عند الغزالي ليصل لباعث هذا المحذور، فقال :
"باطلٌ أن يقال: المحذور اتفاق الخلوة، فإنا لا نسلم أن التجاري في الطرق، والتماشي في الأسفار، أو الاجتماع في المنازل من الخلوة المحرمة، فإن هذه زحمةٌ وليست بخلوة"
أزال الاحتمال الأول، نأتي للثاني؛ يقول :
"وباطلٌ أن يقال: المحذور استمالتها ومطاوعتها بالزنا، فإنها مؤتمنة من جهة الشرع في فرجها، ومخاطبة بالمنع، ومعاقبة بالرجم أو الجلد على الفعل، ولو كان ذلك محذورًا لما جاز لها أن تنفرد بالإقامة في سكون البيت والتردد في البلد"
وبذا زال الثاني أيضًا، بقي الثالث، قال:
"فيتعين أن يقال: الشهوات غالبة، وفي الفساق وذوي المجون كثرة، والطرق بهم طافحة، والمرأة ضعيفة ليس لها مُنّة -أي طاقة- المقاومة إذا قُصدت"
فرجّح أن الداعي ليس مجرد الفصل في مواطن مأمونة، ولا اتهام المرأة بضعف ديانتها وإرادتها؛ بل السبب تفاوت البنى الجسدية، وما عُلم يقينًا أن انفراد المرأة في سفر الحج يعرضها لتطاول الفسقة والمُجّان .
ثم أتى بالنتيجة التي يراها بعد هذه العملية التركيبية :
"وهذا المحذور يندفع بالنسوة الثقات، فلا يتجاسر واحدٌ على قصد امرأة محفوفة بنسوة عدول، وإنما يستتب له ذلك إذا استظهر بعدد وشوكة يضاهي قطاع الطريق، وذلك إنما يُفرض إذا كانت الطرق مخوفة غير آهلة، وعند ذلك لا يجوز الخروج"
فأنت ترى في هذه المسألة كيف يكون الخطاب الفقهي الرشيد في قضايا المرأة-بصرف النظر عن النتيجة الفقهية في حكم سفرها منفردة للحج-؛ تعاطاها دون مصادمة لمرجعية الشرعية وتحفيز طفولي للمرأة كما اعتادت النسوية، ولا اتهام ومصادمة لذات الجنس الأنثوي كما تصنع الذكورية، وبين هذا وذاك طليعة حديث طويل عن المعالجة المتزنة لقضايا المرأة الفقهية، بلا انتقاء ونفخ تمردي وتوهم تجديد عبر فروع من هنا وهناك، ولا حمل للشريعة الكريمة على التشوهات الاجتماعية التي نعيشها وننزه ديننا عن قبح مظالمها؛ وللحديث بقية لعل الله ييسرها يومًا ما .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
[١] المسألة بطولها موجودة في تحصين المآخذ (٢/ ١٣٣- ١٣٧)
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد