بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قناعتان يقينيتان عشتُ بهما زمنًا رغدًا؛ ألا أمدح نفسي علانية، ولا أرمي أحزاني على رصيف وسائل التواصل لأتسول بها نظرات الشفقة .
لكنّي سأستثني هذا اليوم من العام دائمًا من تطبيق هذين المبدئين، وسأمدح نفسي، وأبثّ أشجاني على الملأ. أما المديح فلن يكون لصنيع اقترفته، ولا خلق ألِفته، والله وحده يعلم فضله عليّ بستر القبيح، ونشر الجميل .
سأذكر سيدي الوالد -رحمه الله- بما هو أهل له من المكارم، وهذا طريق خفيٌ لما كنت أحاذر؛ فمن شاء أن يمدح نفسي دون أن تطاله مغبة اللوم فليثنِ على أبيه أو أمه، والسامع دون أن يشعر سيعتقد أنك وارث لهذه الفضائل .
كان -رحمه الله- كريمًا بصورة استثنائية؛ حتى أذكر أنه فتح حسابًا عند صاحب المندي يسدده آخر كل شهر لما اعتاده من ولائم الضيوف، وفي يوم من الأيام زارني أصدقائي زيارة سريعة لأني غبت عن المدرسة، فسلم عليهم، وأثنى علي أمامهم، غاب خلسة حتى مني، عاد ليقول بعدها: تفضلوا على واجبكم، وكنت أعتب عليه هذا الصنيع عتب المشفق قائلًا: إنهم أصدقاء مقربون وليسو ضيوفًا، قال: أنا بهذا أكرمك أنت لا أكرمهم فقط؛ ألست الآن تفخر بنفسك وترفع رأسك ! هذه أولى خصاله الشريفة التي أحببتها.
والثانية أنه على مهابته ومكانته بين الناس لم يكن قاسيًا معنا، فما مد يده على أحد منا، وكان يعتمد مبدأ أن الثقة قد تخسرك موقفًا عابرًا؛ لكنها تكسبك ابنك طول العمر، ولكم أن تتخيلوا فتى في الخامسة عشر يتركه ليسافر 1400 كيلو متر ويوصيه فقط بقوله :" الرجال يغدي رجال" أي: الرجل يصير رجلًا في كل مكان .
في هذه الساعة من هذا اليوم قبل أربعة عشر عامًا؛ رحل سيدي الوالد إلى ربه، كان أمامي حين أسلم الروح، فظمئتُ يوم التروية، وكُسر ظهري في سنٍ صعبة؛ فلا أنا صغير فأنسى، ولا كبير متزن العاطفة فأسلو سريعًا .
رحمه الله وأحسن إليه كفاء ما أحسن إليّ، وصبر عليّ، وإني إلى قبلة على كفه لمشتاق؛ ذلك الكف الذي أذكر حتى الآن اصبعه المطوقة بخاتم من شعر، ويذكر الناس بسطها بالندى والرجولة الحقيقية .
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد