المسيحية في أوروبا


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

كان الإيمان بالمسيحيَّة قبل بضعة قرون في أوروبا يسير بخطواتٍ مترنحة تحت وطأة ضربات الملحدين والعقلانيين، مُستهدفين تصويب أسهمهم نحو أصوله وقلبه، وكانت ضربات الإلحاد قوية وفي صميم أعماق الإيمان.

وفي هذه الأثناء ظهرت مجموعة من المفكرين والفلاسفة الدينيين حاولت إعادة بناء الإيمان من خلال عقلنته، لحمايته من التزلزل والانهيار ولو على حساب بعض التعديلات والحذف والإضافة في الدين.

كان من بين الذين حاولوا تبرير الإيمان، الفيلسوف والرياضي بليز باسكال، الذي حاول أن يجد مستمسكًا تبريريًا يُنقذُ به إيمان الإنسان الغربي، فأتى بما عُرِفَ لاحقًا بـِرهان باسكال أو بـِرهان المقامرة.

وتتلخص فكرة هذا الرهان فيما يلي: إذا كان الصراع المحتدم بين الإيمان والإلحاد قد تمخض عنه شك عقلاني، تساوت فيه أدلة وجود الله مع عدمه، فإننا حينئذٍ في موضعٍ يشبه موقف الشخص المقامر، الذي يريد أن يشترك في سباق قد يربح فيه ويقد يخسر.

وبناء على حسابات المنطق العقلي فإن عليه أن يختار الفرصة الأكثر احتمالاً للربح، لأنه ليس بوسعه إلا أن يختار بينهما، لا يوجد خيار ثالث. ولذلك فإن فرصته الوحيدة هي أن يزيد من فرص الفوز ويقلل من احتمالات الخسارة.

ولذا –ففي مسألتنا هذه- عليه أن يؤمن بوجود الله، لأنه إن اكتشف بعد الموت أن ثمة وجود إله وجنة ونار فقد فاز فوزًا عظيمًا، ونجا من النار، وإن لم يوجد هناك شيءٌ ألبتة؛ فهو لم يخسر شيئًا!

هكذا ظن باسكال أنه نجح في الحفاظ على الإيمان، ولم يعرف أنه زاد الطين بله، وأن الملحدين لم يتكلفوا كثيرًا في نقض رهانه المزعوم، حيث إن الإيمان ليس موقفًا يُقامر عليه، وفق معادلة الاحتمالات، فحقيقة الإيمان صواب وحق، يقطع المؤمن إيمانه بذلك دون شكٍ أو ريب.

كما أن رهان بسكال يقوم على البرجماتية والمصلحة الذاتية، كما وصفه ويليم جيمس، لا على الثقة والتصديق والتسليم الذي هو أخص صفات الإيمان. وهذه الحسابات الاحتمالية تنقض مبدأ الإيمان، وهي في ذاتها متهالكة.

وقد أشار لهذا المبدأ قبل باسكال الشاعر الساخر أبو العلاء المعري، حين قال:

زعم المنجم والطبيب كلاهما

لا تبعث الأموات قلت: إليكما

إن صح قولكما فلست بخاسر

أو صح قولي فالخسار عليكما

إن قصة علاقة العقل بالدين في الغرب مرتبطة أساسا بطبيعة المسيحية التي تقوم في أساسها على القبول القلبي وإخراج العقل عن تلك الدائرة، فالتسليم والخضوع القلبي الذي يلزم به المؤمن قبل التفكير في ماهية ما يؤمن به هو  من صميم الإيمان المسيحي لصعوبة قبول العقل لأصول.

ولما احتاجت للدفاع عن نفسها أمام ضربات فلسفة الملاحدة أو الوثنيين المتسلحين  بالفلسفة اليونانية ومنطقها؛ اضطرت لتعلم المنطق والفلسفة، فنشأ علم الكلام المسيحي لمواجهة الأعداء، وساهم في تطوره اعتناق فلاسفة وثنيين للمسيحية.

 تم استخدام ثقل هؤلاء العلمي والفلسفي في تطور علم الدفاع المسيحي. لكن بحكم عدم قابلية المسيحية للمنطق العقلي، وبسبب عمق الردود العقلية من خصوم المسيحية اضطر علماء المسيحية إلى البحث عن بدائل على انقاض الأدلة التقليدية، فجاء مثل باسكال برهانه، كمحاولة هي في الحقيقة يائسة، حاولت الحفاظ على الإيمان،  بصبغة عقلية قائمة على احتمال رياضي.

وحينما جاء إيمانويل كانط نقد أدلة وجود الله بالعقل وردها، مع أن ليس فيه رده جديد على البيئة الجدالية في الاسلام وغيره.

وأمام قناعة كانط بتهالك أدلة وجود الله العقلية، أقام حجته الخاصة ليحفظ القيم الأخلاقية التي تربط دائماً بقاء وعدمًا بوجود الله، وحجته في غاية الضعف، ولذلك استطال الملاحدة على انقاض نقد المتدينين المنفتحين للدين التقليدي.

لقد أتت ضربات التغيير في الدين من داخل الكنيسة والمنتمين إليها لا من خارجها، وكان قيام الإلحاد في كثيرًا من الأحيان على انقاض نقد الإصلاحيين للتقليديين وثورتهم على تراثهم، وتلك سنة جارية في معظم الأديان.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply