ليس من البرِّ أن يَخْلُوَ لكم وجه أبيكم بظُلم أخيكم!!


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

عندما حاول إخوة يوسف الوصول إلى برِّ أبيهم والحظوة عنده لم يُمكنهم ذلك إلاَّ بظُلم أخيهم؛ سلوكٌ ذكره الله وخلَّده في كتابه الكريم عنهم؛ ليعلم أولئك الذين تضيق نظرتهم وتقصُر عقولهم وتتعطَّل أحاسيسهم أنَّ برَّ الوالدين لا يُمكن أن يكون بحالٍ من الأحوال على حساب ظُلم أخيهم!!

وهنا لفتةٌ عظيمة ومقصَدٌ مهم مِنْ مقاصد البر؛ وهو أنَّه لا يُشترَطُ في برِّك بأبيك أن يكون وجهه خالصًا لك وحدك دون غيرك من أبنائه؛ بل إنَّ أعظم البرِّ ما كان يُقابَل بنقيضه، فللبارِّ شأنٌ لا يدري به مَنْ حوله..

 

قد يكون مِنْ البلاء في البرِّ: أن لا يكون لك حظوةٌ عند أبيك رغم قيامك بما لا يقوم به غيرك ممَّن حاز مكانةً عنده ومنزلةً عالية، كما أنه ليس من البر أن يكون لك حظوةٌ عند أبيك على حساب ظُلمك وكيدك ومكرك بأخيك!!

وما عسى أن ينفع البرُّ إذا لم يكن لله؟!!

بل ما عساه أن ينفع وقد مضت سنوات طويلة على الظلم والبغي على أخٍ لك ضاعت فيها زهرة شبابه وعانى فيها مرارة البرِّ المُفتَعَل الكاذب!!

 

قد يُخيَّل لمن نصبوا جسر برِّهم بأبيهم على حساب ظُلمهم لأخيهم أنَّهم يُحسِنُون صُنعًا؛ وقد يزداد بهم الوهْم فيظنُّون أنَّ ما يفعلونه عين البرِّ بأبيهم؛ فيتمادون في الظلم إلى حدِّ الكذب والبُهتان والزُّور، ويُبالغون في البغي إلى حدِّ تشويه مواقف أخيهم وتضخيم أخطائه!!

والآباء تجاه هذا السلوك المشين من بعض الأبناء تجاه أخيهم مُتفاوتون؛ فبعضهم تغلبه عاطفة الكثْرة أو الجمال أو الدهاء في بعض بنيه..

وبعض الآباء يستسلم لهذا الظلم من أبنائه تجاه أخيهم لأنه قد سبقهم في الوقوع فيه مع إخوته هو وأشقائه..

وبعضهم لا يستطيع الإمساك بزمام العدل وضبط انفعالاته تجاه بعض أبنائه لعدم وجود موافقة روحية بينهما؛ فيميل إلى بقيَّة الأبناء فيُرخي لهم سمعه فيما يقولونه من كذب وبُهتان في أخيهم؛ وما هي إلاَّ كلمات تلو كلمات يتشبَّع بها فؤاد الأب الحنون حتى ينقلب هذا الحنان إلى بُغضٍ وتعنيفٍ وزجرٍ وتحقيرٍ وغمزٍ بالاتهامات الكاذبة التي سعى فيه أبناءه تجاه أخيهم!!

وبعض الآباء كنبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام؛ إذ لم يكن نبي الله يعقوب عليه الصلاة والسلام ظالمًا، ولم تكن محبته ليوسف تمنعه من العدل بين بقيَّة أبنائه؛ لذا لم يُمكن لإخوة يوسف الذين امتلأت قلوبهم بالحسد لأخيهم أن يُوغِروا صدر أبيهم عليه؛ فعَمَدوا إلى طريقة ثانية تشفي ما في صدورهم من أخيهم، ويتظاهرون في سبيل تحقيقها البرَّ بأبيهم؛ اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضًا..

 

ومِنْ أعجب التعازي والتنبيهات في قصة ظُلم إخوة يوسف ليوسف:

أنَّ الله ذكر أعظم شيءٍ يُمكن أن يكيد فيه الإخوة لأخيهم وهو القتل وتغييبه عن نظر أبيه؛ ليُنبِّه سُبحانه على ما هو أقل من ذلك ممَّا يعتري النفوس المريضة؛ فقد يمكر الأخ بأخيه، أو يكذب عليه، أو يجتهد بالوشاية به، أو يسعى بالنميمة فيه، أو يخدعه ويتحايل عليه، أو يُوغِر صدر أبيه على أخيه؛ وغير ذلك ممَّا يُنفِّسُ به الحاسد عن نفسه ويُلبِسَه لبوس البرِّ حتى يخلو له وجه أبيه!!

اقتلوا يوسف

يخلُ لكم وجه أبيكم

وتكونوا من بعده قومًا صالحين

هكذا حاول إخوة يوسف اختصار مشهد الحسد في قلوبهم..

فأسرع طريقة في نظرهم لشفاء ما في صدورهم: هو القضاء على يوسف..

وأسهل عُذرٍ وتبريرٍ لنفوسهم: هو خلوِّ وجه أبيهم لهم دون غيرهم..

وأكبر وهْمٍ عاشوه وأرادوا أن يكون واقعًا لهم في حياتهم بعد جريمتهم: هو صلاح حالهم في برِّهم وتعاملهم مع أبيهم..

 

ولو لم يقُصَّ الله علينا ما حصل من إخوة يوسف مِنْ ظُلمٍ لأخيهم لَـمَا صدَّقنا مَنْ يذكر ذلك لنا في قصَصَ الغابرين والحاضرين..

لكنَّها تعزيةٌ وتسليةٌ لكل مظلوم حاول النيل منه إخوته الذين يتظاهرون ببرِّ أبيهم..

وموعظةٌ لكل من اضطرب ميزان العدل عنده وغلَبتْ عليه أطماع نفسه قائلةٌ له:

ليس من البرِّ: أن يَخلوَ لكم وجه أبيكم بظُلم أخيكم!!

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply