لعل ذاك يسوءك


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

روى البخاري عَنْ سَعْدِ بْنِ عُبَيْدَةَ، قَالَ: "جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ، قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ، ثُمَّ سَأَلَهُ عَنْ عَلِيٍّ فَذَكَرَ مَحَاسِنَ عَمَلِهِ، قَالَ: هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ، أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ -صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّ ذَاكَ يَسُوءُكَ؟ قَالَ: أَجَلْ، قَالَ: فَأَرْغَمَ اللَّهُ بِأَنْفِكَ انْطَلِقْ فَاجْهَدْ عَلَيَّ جَهْدَكَ"

 

قوله: (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى ابْنِ عُمَرَ) هو نافع بن الأزرق، وهو رأس الأزارقة وهي فرقة من الخوارج

وَالخوارج أَوَّلُ مَنْ كَفَّرَ أَهْلَ الْقِبْلَةِ بِالذُّنُوبِ، وَاسْتَحَلُّوا دِمَاءَ أَهْلِ الْقِبْلَةِ بِذَلِكَ، فَكَانُوا كَمَا نَعَتَهُمْ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (يَقْتُلُونَ أَهْلَ الْإِسْلَامِ وَيَدْعُونَ أَهْلَ الْأَوْثَانِ) وَكَفَّرُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ وَعُثْمَانَ بْنَ عفان وَمَنْ وَالَاهُمَا، وَقَتَلُوا عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ مُسْتَحِلِّينَ لِقَتْلِهِ، قَتَلَهُ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ مُلْجِمٍ المرادي مِنْهُمْ، وَكَانَ هُوَ وَغَيْرُهُ مِنْ الْخَوَارِجِ مُجْتَهِدِينَ فِي الْعِبَادَةِ لَكِنْ كَانُوا جُهَّالًا فَارَقُوا السُّنَّةَ وَالْجَمَاعَةَ؛ فَقَالَ هَؤُلَاءِ الخوارج: مَا النَّاسُ إلَّا مُؤْمِنٌ أَوْ كَافِرٌ؛ وَالْمُؤْمِنُ مَنْ فَعَلَ جَمِيعَ الْوَاجِبَاتِ وَتَرَكَ جَمِيعَ الْمُحَرَّمَاتِ؛ فَمَنْ لَمْ يَكُنْ كَذَلِكَ فَهُوَ كَافِرٌ؛ مُخَلَّدٌ فِي النَّارِ.

ثُمَّ جَعَلُوا كُلَّ مَنْ خَالَفَ قَوْلَهُمْ كَذَلِكَ، فَقَالُوا: إنَّ عُثْمَانَ وَعَلِيًّا وَنَحْوَهُمَا حَكَمُوا بِغَيْرِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَظَلَمُوا فَصَارُوا كُفَّارًا.

وَمَذْهَبُ هَؤُلَاءِ بَاطِلٌ بِدَلَائِلَ كَثِيرَةٍ مِنْ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ .. فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ أَمَرَ بِقَطْعِ يَدِ السَّارِقِ دُونَ قَتْلِهِ، وَلَوْ كَانَ كَافِرًا مُرْتَدًّا لَوَجَبَ قَتْلُهُ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (مَنْ بَدَّلَ دِينَهُ فَاقْتُلُوهُ).

وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ أَنْ يُجْلَدَ الزَّانِي وَالزَّانِيَةُ مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَوْ كَانَا كَافِرَيْنِ لَأَمَرَ بِقَتْلِهِمَا، وَأَمَرَ سُبْحَانَهُ بِأَنْ يُجْلَدَ قَاذِفُ الْمُحْصَنَةِ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَوْ كَانَ كَافِرًا لَأَمَرَ بِقَتْلِهِ

وَكَانَ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يَجْلِدُ شَارِبَ الْخَمْرِ وَلَمْ يَقْتُلْهُ، بَلْ قَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ: أَنَّ رَجُلًا كَانَ يَشْرَبُ الْخَمْرَ وَكَانَ اسْمُهُ عَبْدَ اللَّهِ حِمَارًا، وَكَانَ يُضْحِكُ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَ كُلَّمَا أُتِيَ بِهِ إلَيْهِ جَلَدَهُ، فَأُتِيَ بِهِ إلَيْهِ مَرَّةً فَلَعَنَهُ رَجُلٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (لَا تَلْعَنْهُ فَإِنَّهُ يُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)

فَنَهَى عَنْ لَعْنِهِ بِعَيْنِهِ، وَشَهِدَ لَهُ بِحُبِّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، مَعَ أَنَّهُ قَدْ لَعَنَ شَارِبَ الْخَمْرِ عُمُومًا.   

 

وقد أورد نافع بن الأزرق الخارجي المشهور على ابن عباس -رضي الله عنهما- كثيرا من الآيات المتشابهات التي ظاهرها التعارض، وأجاب عنها -رضي الله عنهما- في آيات متعددة ذكرها السيوطي في «الإتقان في علوم القرآن».

ولما أتى برؤوس الأزارقة من البصرة، نصبت على درج مسجد دمشق، فجاء أبو أمامة -رضي الله عنه- فلما رآهم دمعت عيناه، فقال: (كلاب النار) ثلاث مرات (هؤلاء شر قتلى قتلوا تحت أديم السماء، وخير قتلى قتلوا تحت أديم السماء الذين قتلهم هؤلاء) قيل: فما شأنك دمعت عيناك؟! قال رحمة لهم، إنهم كانوا من أهل الإسلام

(فَسَأَلَهُ عَنْ عُثْمَانَ، فَذَكَرَ عَنْ مَحَاسِنِ عَمَلِهِ) وكأنه ذكر للرجل إنفاق عثمان في جيش العسرة، وتسبيله بئر رومة .. وغير ذلك من محاسنه -رضي الله عنه- (لعل ذاك يسوءك؟) أي لعل ما ذكرت من محاسنه لا يطيب لك ويصعب عليك (قال: نعم) يسوءني (فأرغم الله بأنفك) الباء فيه زائدة، يقال أرغم الله أنفه أي ألصقه بالرغام [التراب] أي أذله وأهانه، فكأنه يقول «أسقطك الله على الأرض فيلصق وجهك بالرغام» (ثم سأله عن علي) رضي الله تعالى عنه، فذكر ابن عمر محاسن عمله من شهوده بدرا وفتح خيبر على يديه وقتله مرحبا اليهودي وغير ذلك (قال: هُوَ ذَاكَ بَيْتُهُ، أَوْسَطُ بُيُوتِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ) يشير بذلك إلى أن لعلي منزلة عند النبي من حيث أن بيته أوسط بيوت النبي، وقيل أحسنها بناء (ثم قال: انطلق) أي اذهب من عندي (فاجهد علي جهدك) أي ابلغ غايتك في هذا الأمر، واعمل في حقي ما تستطيع وتقدر، فإني قلت حقا، وقائل الحق لا يبالي بما يقال في حقه من الأباطيل.

وفي رواية عطاء بن السائب عن سعد بن عبيد: فقال الرجل «فإني أبغضه» قال ابن عمر: «أبغضك الله»

 

** السائل على ضربين سائل يسأل ليتعلم ويفصل القول في أمر اختلط عليه أو غاب عنه، وسائل يسأل إحراجا للمسئول أو حملا له على توجه معين أو محاولة للظفر منه بتأييد وموافقة بغيضة في نيته وتوجهه، وكلاهما يعرف من أول وهلة وجلسة ونظرة وأسلوب.

** المسئول اللبيب هو هذا الذي يفهم ما وراء السؤال والسائل، ويعرف أرضه ويفهم مقصده وغايته، وهذا يحصل بطول الاختلاط ومعرفة العباد مع فراسة صادقة يبلغها من عند الله بخشيته وخوفه، وعبادته وورعه

** قد يحمل لين المفتي وطيبة قلبه ودماثة أخلاقه بعض المغرضين وأصحاب النوايا السيئة من استضعافه أو الظفر منه بطعن أو تجريح فيطير بكلمته ويؤول جمله لأبعد ما يكون التأويل والتشهير

** هناك من يكره العظماء والكبار والربانين حقدا وحسدا (أعداء النجاح) فبدلا من السير على ضربهم وتلمس آثارهم وتمني أن يكون مثلهم إذا به يختار طريق الهدم للرموز ومحاولة التسفيه وتحطيم السيرة والمسيرة، فلا هو ظفر بما أراد فكسب دنياه، ولا عقل واقتدى فظفر بآخرته ودنياه

** من غرابة هذا الكاره للرمز أن خصومته ليست مع شخص بعينه إنما لمسيرة بعينها ومورد واحد، فلا هو ذكي في عداوته ولا هو منصف في خصومته.

** احذر الاسترسال في النقيصة أو السكوت عند النيل من الرمز فهذا يكفي صاحب السوء منك ويعتبره موافقة وتأييدا لفكرته ورأيه

وقد قَالَ عُمَرُ بْنُ عَبْدِ العَزِيزِ: "خَمْسٌ إِذَا أَخْطَأَ القَاضِي مِنْهُنَّ خَصْلَةً، كَانَتْ فِيهِ وَصْمَةٌ: أَنْ يَكُونَ فَهِمًا، حَلِيمًا، عَفِيفًا، صَلِيبًا، عَالِمًا، سَئُولًا عَنِ العِلْمِ ".

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply