بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قال تعالى: }وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ{ [غافر:18ُ]
قوله: {وَأَنْذِرْهُمْ} الإنذار الإعلام المقترن بتهديد خاصة، فكل إنذار إعلام، وليس كل إعلام إنذارًا.
{الْآزِفَةِ} القيامة. وإنما عبر عنها بالآزفة لأجل أزوفها أي قربها.
وما تضمنته هذه الآية الكريمة، من اقتراب قيام الساعة، جاء موضحًا في آيات أخر كقوله تعالى: {أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ}. وقوله تعالى: {اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ}. وقوله تعالى: {اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ}. وقوله تعالى في الأحزاب: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا}. وقوله تعالى في الشورى: {وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ}.
والمعنى: أنذرهم يوم القيامة، بمعنى خوفهم إياه وهددهم بما فيه من الأهوال العظام ليستعدوا لذلك في الدنيا بالإيمان والطاعة.
قوله: {إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ}
ومعنى كون القلوب لدى الحناجر، في ذلك الوقت، فيه لعلماء التفسير وجهان معروفان:
1/ أحدهما: ما قاله قتادة وغيره، من أن "قلوبهم يومئذ، ترتفع من أماكنها في الصدور، حتى تلتصق بالحلوق، فتكون لدى الحناجر، فلا هي تخرج من أفواههم فيموتوا، ولا هي ترجع إلى أماكنها في الصدور فيتنفسوا". وهذا القول هو ظاهر القرآن.
2/ الوجه الثاني: هو أن المراد بكون القلوب، لدى الجناجر، بيان شدة الهول، وفظاعة الأمر، وعليه فالآية كقوله تعالى: {وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا * هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا} وهو زلزال خوف وفزع لا زلزال حركة الأرض.
وقوله: {كَاظِمِينَ} مكروبين ممتلئين خوفًا وحزنًا
والكاظم الساكت حال امتلائه غمًا وغيضًا، والمعنى أنهم لا يمكنهم أن ينطقوا وأن يبوحوا بما عندهم من الخوف والحزن، فهم قد أطبقوا أفواههم على ما في قلوبهم من شدة الخوف، وذلك يوجب مزيد الشدة والمعاناة.
قوله: {ما للظالمين من حميمٍ} قريب مشفق {ولا شفيعٍ يُطاع} ولا شفيع تُقبل شفاعته.
عن الْحَسَنُ بْنُ حَسَّانَ، قَالَ: كُنَّا يَوْمًا عِنْدَ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ وَهُوَ يَتَكَلَّمُ وَيَعِظُ، فَقَالَ لِرَجُلٍ حَدَثٍ بَيْنَ يَدَيْهِ: اقْرَأْ يَا بُنَيَّ فَقَرَأَ الرَّجُلُ: {وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ}
فَقَطَعَ عَلَيْهِ صَالِحٌ الْقِرَاءَةَ فَقَالَ: وَكَيْفَ يَكُونُ لِلظَّالِمِينَ حَمِيمٌ أَوْ شَفِيعٌ وَالطَّالِبُ لَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، إِنَّكَ وَاللهِ لَوْ رَأَيْتَ الظَّالِمِينَ وَأَهْلَ الْمَعَاصِي يُسَاقُونَ فِي السَّلَاسِلِ وَالْأَغْلَالِ إِلَى الْجَحِيمِ حُفَاةً عُرَاةً مُسْوَدَّةً وُجُوهُهُمْ مُزْرَقَّةً عُيُونُهُمْ ذَائِبَةً أَجْسَامُهُمْ يُنَادُونَ يَا وَيْلَاهُ يَا ثُبُورَاهُ مَاذَا نَزَلَ بِنَا؟ مَاذَا حَلَّ بِنَا؟ أَيْنَ يُذْهَبُ بِنَا؟ مَاذَا يُرَادُ مِنَّا؟
وَالْمَلَائِكَةُ تَسُوقُهُمْ بِمَقَامِعِ النِّيرَانِ، فَمَرَّةً يُجَرُّونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ وَيُسْحَبُونَ عَلَيْهَا مُتَّكِئِينَ، وَمَرَّةً يُقَادُونَ إِلَيْهَا عُنُتًا مُقَرَّنِينَ، مِنْ بَيْنِ بَاكٍ دَمًا بَعْدَ انْقِطَاعِ الدُّمُوعِ وَمِنْ بَيْنِ صَارِخٍ طَائِرِ الْقَلْبِ مَبْهُوتٍ،
إِنَّكَ وَاللهِ لَوْ رَأَيْتَهُمْ عَلَى ذَلِكَ لَرَأَيْتَ مَنْظَرًا لَا يَقُومُ لَهُ بَصَرُكَ وَلَا يَثْبُتُ لَهُ قَلْبُكَ وَلَا يَسْتَقِرُّ لِفَظَاعَةِ هَوْلِهِ عَلَى قَرَارٍ قَدَمُكَ.
ثُمَّ نَحَبَ وَصَاحَ يَا سُوءَ مَنْظَرَاهُ وَيَا سُوءُ مُنْقَلَبَاهُ وَبَكَى وَبَكَى النَّاسُ، فَقَامَ شَابٌّ بِهِ تَأْنِيثٌ فَقَالَ: أَكُلُّ هَذَا فِي الْقِيَامَةِ يَا أَبَا بِشْرٍ قَالَ: نَعَمْ وَاللهِ يَا ابْنَ أَخِي، وَمَا هُوَ أَكْبَرُ مِنْ ذَلِكَ لَقَدْ بَلَغَنِي أَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ فِي النَّارِ حَتَّى تَنْقَطِعَ أَصْوَاتُهُمْ فَلَا يَبْقَى مِنْهَا إِلَّا كَهَيْئَةِ الْأَنِينِ مِنَ الْمُدْنِفِ، فَصَاحَ الْفَتَى إِنَّا لِلَّهِ وَاغْفَلَتَاهُ عَنْ نَفْسِي أَيَّامَ الْحَيَاةِ، وَيَا أَسَفَى عَلَى تَفْرِيطِي فِي طَاعَتِكَ يَا سَيِّدَاهُ وَاأَسَفَاهُ عَلَى تَضْيِيعِ عُمْرِي فِي دَارِ الدُّنْيَا ثُمَّ بَكَى وَاسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ، ثُمَّ قَالَ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْتَقْبِلُكَ فِي يَوْمِي هَذَا بِتَوْبَةٍ لَكَ لَا يُخَالِطُهَا رِيَاءٌ لِغَيْرِكَ، اللهُمَّ فَاقْبَلْنِي عَلَى مَا كَانَ مِنِّي وَاعْفُ عَمَّا تَقَدَّمَ مِنْ عَمَلِي، وَأَقِلْنِي عَثْرَتِي، وَارْحَمْنِي وَمَنْ حَضَرَنِي، وَتَفَضَّلْ عَلَيْنَا بِجُودِكَ أَجْمَعِينَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ، لَكَ أَلْقَيْتُ مَعَاقِدَ الْآثَامِ مِنْ عُنُقِي، وَإِلَيْكَ أَنْبَتُّ بِجَمِيعِ جَوَارِحِي صَادِقًا بِذَلِكَ قَلْبِي، فَالْوَيْلُ لِي إِنْ أَنْتَ لَمْ تَقْبَلْنِي، ثُمَّ غُلِبَ فَسَقَطَ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ فَحُمِلَ مِنْ بَيْنِ الْقَوْمِ صَرِيعًا يَبْكُونَ عَلَيْهِ وَيَدْعُونَ لَهُ.
وَكَانَ صَالِحٌ كَثِيرًا مَا يَذْكُرُهُ فِي مَجْلِسِهِ يَدْعُو اللهَ لَهُ وَيَقُولُ: بِأَبِي قَتِيلُ الْقُرْآنِ بِأَبِي قَتِيلُ الْمَوَاعِظِ وَالْأَحْزَانِ فَرَآهُ رَجُلٌ فِي مَنَامِهِ فَقَالَ: مَا صَنَعْتَ، قَالَ: عَمَّتْنِي بَرَكَةُ مَجْلِسِ صَالِحٍ فَدَخَلْتُ فِي سَعَةِ رَحْمَةِ اللهِ الَّتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.
قَالَ: وَكُنَّا فِي مَجْلِسِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ فَأَخَذَ فِي الدُّعَاءِ فَمَرَّ رَجُلٌ مُخَنَّثٌ فَوَقَفَ يَسْمَعُ الدُّعَاءَ وَوَافَقَ صَالِحًا يَقُولُ: «اللهُمَّ اغْفِرْ لَأَقْسَانَا قَلْبًا، وَأَجْمَدِنَا عَيْنًا، وَأَحْدَثِنَا بِالذُّنُوبِ عَهْدًا»، فَسَمِعَ الْمُخَنَّثُ فَمَاتَ فَرُئِيَ فِي الْمَنَامِ فَقِيلَ لَهُ: مَا فَعَلَ اللهُ بِكَ. قَالَ: غَفَرَ اللهُ لِي، قِيلَ بِمَاذَا؟ قَالَ: بِدُعَاءِ صَالِحٍ الْمُرِّيِّ، لَمْ يَكُنْ فِي الْقَوْمِ أَحَدٌ أَحْدَثُ عَهْدًا بِالْمَعْصِيَةِ مِنِّي فَوَافَقَتْ دَعْوَتُهُ الْإِجَابَةَ فَغُفِرَ لِي
أخي الحبيب
الزم ثغرك، واعلم أنكَ لن تجدَ واقعًا أشدَّ فسادًا من الواقع الذي نُبِّئ فيه الأنبياءُ وأُرسِلَ فيه الرُّسُل؛ ولولا شِدَّةُ فسادِه ما أُرسِلُوا، ولستَ أكرمَ على الله من رُسُلِه ليُصلِحَ لك-دون سَعيٍ منك- واقعًا لم يُصلِحْهُ لهم، وقد أكرمكَ اللهُ بإيجادك في واقعٍ شبيهٍ بواقعهم لتصلحهُ كما أصلحوه؛ فإن لم تكن منهم فَسِرْ على آثارهم تكن معهم، ولا تنتظر في حياتك ثمرةَ سيرك؛ فموسى مات في التيه، وعيسى رُفع في الفتنة، ومحمدٌ- عليه وعلى أنبياء الله ورسله الصلاة والسلام- ارتدَّ أعرابُ جزيرته بعد موته، ولو وضعَ أبو بكر رضي الله عنه يَده على خَدِّهِ ويئس- حين انتقض عليه أعرابُ الجزيرة- ما وصلكَ مما وصلكَ من الدين شيء..
حسبك أن تؤذِّنَ كما أذَّنَ إبراهيم، ومَا عَسى يبلغُ صوتُ إبراهيم!!
إنما عليكَ الأذانُ وعلى الله البلاغ، ولكلِ ثغرٍ أذانُه، وكُلُّ الثغورِ شاغرة؛ فإن وجدتَ ثغركَ فالزمه- وذلكَ عبادتُك- وإن لم تجده فابحث عنه- وذلك أيضًا عبادتُك
حَسْبُكَ ألا يراكَ اللهُ إلا على ثَغرٍ، أو باحثًا عن ثغر.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد