رأسُ العلمِ خشيةُ الله


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فلكل شيءٍ رأس، ورأس الشيء: أعلاه وأساسه وقوامه، ورأس الأمر كله الإسلامُ؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل رضي الله عنه: (ألا أخبرُكَ بِرَأسِ الأَمرِ كلِّهِ وعمودِهِ وذِروةِ سَنامِهِ؟ قلتُ: بلى يا رسولَ اللَّهِ، قالَ: رأسُ الأمرِ الإسلامُ، وعمودُهُ الصَّلاةُ، وذروةُ سَنامِهِ الجِهادُ) [أخرجه الإمام الترمذي].

فلكلِّ شيء رأس، ورأس العلم: خشية الله جل جلاله؛ قال الله عز وجل: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]؛ قال الحافظ ابن كثير رحمه الله: أي إنما يخشاه حقَّ خشيته العلماءُ العارفون به؛ لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم، القدير، العليم، الموصوف بصفات الكمال المنعوت بالأسماء الحسنى، كلما كانت المعرفة به أتَم، والعلم به أكمل، كانت الخشية له أعظم وأكثر.

فالعلم ليس مبناه على الكثرة والقلة، ولكن على الخشية، فعن ابن مسعود رضي الله عنه قال: ليس العلم عن كثرة الحديث، ولكن العلم عن كثرة الخشية.

قيل للشعبي: أيها العالم، فقال: إنما العالم من يخشى الله.

قال الحسن البصري رحمه الله: الفقيه من يخشى الله عز وجل.

وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: أصل العلم خشية الله تعالى.

 

وقال العلامة محمد بن صالح العثيمين رحمه الله: أصل العلم خشية الله تعالى، والخشية هي: الخوف المبني على العلم والتعظيم، ولهذا قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ ﴾، فالإنسان إذا عَرف الله عز وجل حقَّ المعرفة، فلا  بُدَّ أن تقع في قلبه خشية الله؛ لأنه إذا علم ذلك عَلِمَ عن ربٍّ عظيم، قويٍّ، قاهرٍ، عالمٍ بما يُسرُّ ويُخفي الإنسان، فتجده يقوم بطاعة الله عز وجل، أتمَّ قيام.

فثمرة العلم: خشية الله عز وجل، ومن كان مستحضرًا لخشية الله في طلبه للعلم، ظهر ذلك عليه في أشياء؛ منها:

أن يعمل بعلمه: عقيدةً، وعبادةً، وأخلاقًا، وآدابًا، ومعاملةً، ومن عمل بما علم، فالناس يقتدون به، فعن الأعمش قال: كانوا يتعلمون من الفقيه كل شيءٍ حتى في لباسه ونعْليه, وقيل لابن المبارك: أين تريد؟ قال: إلى البصرة، فقيل له: من بقي؟ فقال: ابن عون آخذ من أخلاقه، آخذُ من آدابه.

أن يكون زاهدًا في الدنيا مقبلًا على الآخرة، قال المروذي: قيل لأبي عبدالله: قيل لابن المبارك: كيف تعرف العالم الصادق؟ قال: الذي يزهد في الدنيا، ويقبل على آخرته، فقال أبو عبدالله: نعم هكذا يريد أن يكون.

وقال عبدالله بن أحمد: حدثني أبي: سمعت سفيان يقول: ما ازداد رجل علمًا فازداد من الدنيا قربًا، إلا ازداد من الله بعدًا.

أن يكون صدره رحبًا في مواطن الخلاف، وأن يتجنب التنازع الذي يؤدي إلى النزاع والخصام وبث الفرقة وذَهاب القوة؛ قال الله سبحانه وتعالى: ﴿ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ ﴾ [الأنفال: 46].

أن يكون محترمًا للعلماء، عارفًا لهم فضلهم وشرفهم، ومكانتهم في الأمة، وأنهم غير معصومين من الخطأ، ولكن هذا الخطأ لا يبرر اغتيابهم، بل يعتذر لهم وينبِّههم إلى ما وقع منهم بأحسن طريقة وأفضل عبارة، وفي اغتياب المسلمين سوء ظن، فينبغي الحذر منه.

أن يكون داعيًا إلى الله عز وجل بحكمة في كل مناسبة تسنح له، فهو يدعو إلى الله بلسانه وقلمه وسَمته، ومعاملته وأخلاقه.

ألا يتَّبع أخطاء الآخرين، ولا يفرح بزلَّةٍ صدرتْ من إخوانه، فضلًا عن أن يستغل هذه الزلة ليقدح فيمن صدَرت منه.

أنه لا يضمر الحسد للناس، فضلًا أن يكون ذلك لإخوانه من طلاب العلم، وكما قيل: "ما خلا جسدٌ من حسد، لكن اللئيم يبديه والكريم يخفيه"، فطالب العلم الذي يخشى الله حقَّ خشيته يجاهد نفسه ويدعو ربه أن يصرِفه عنه.

أنه لا يفتي بغير علم، ويقاوم فتنة حب الظهور، ومن صدق أعانه الله.

أنه متواضع لا يحتقر أحدًا، ولا يتطاول بسوء الأدب على أيِّ أحد صغيرًا كان أو كبيرًا، ويقبل الحق ممن جاء به ولو كان أقل منه منزلةً، ولا يَحقِر مَن دونه في العلم، ولا يحسد مَن فوقه، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: آفة العلم: الكبر.

 • أنه متجنب للجدال والمراء؛ لأنهما يغلقان طريق الصواب، ويحملان الإنسان على الكلام انتصارًا لنفسه، إضافة إلى أنهما يجلبان العداوة والشحناء.

ومن خشي الله جل جلاله في طلبه في العلم، فليُبشر بكل خير، فسيُحبه الناس، ويكرمونه، ويعظمونه، وسيكون له هيبة عندهم، وسوف يرى أن لعلمه تأثيرًا نافعًا على الناس، فعن عمر بن ذرٍّ أنه قال لوالده: يا أبي، مالك إذا وعظت الناس أخذهم البكاءُ، وإذا وعظهم غيرك لا يبكون؟ فقال: يا بني، ليست النائحة الثكلى مثل النائحة المستأجرة، وفَّقك الله لرشدك آمين.

 

وإن مما يعين طالب العلم على أن يكون طلبه للعلم خشيةً لله جل جلاله أمورًا؛ منها:

أن يكون طلبه للعلم لله عز وجل، والأمر ليس يسيرًا، فيحتاج طالب العلم إلى مجاهدة نفسه؛ قال الإمام الثوري رحمه الله: ما عالجتُ شيئًا أشدَّ عليَّ من نيَّتي، فإنها تتقلبُ عليَّ.

أن يقرأ في سير السلف الصالح فمن نظر في سِيرهم، زاحَمهم وتأدَّب بأخلاقهم.

 • أن يقرأ في الكتب التي تحث على التحلي بمحاسن الآداب، ومكارم الأخلاق، والهدي الصالح، والسمت الحسن، ومن أفضل ما ينصح به في هذا كتاب "حلية طالب العلم"؛ للدكتور بكر بن عبدالله أبو زيد، مع الشرح القيم له للعلامة محمد بن صالح العثيمين، رحمهما الله.

 • أن يقرأ في الكتب التي توضِّح مداخل الشيطان على الإنسان، ومنها: كتاب الإمام ابن الجوزي رحمه الله "تلبيس إبليس"، فقد ذكر مداخل خفية للشيطان على مَن يطلبون العلم، ينبغي التنبه لها.

 نسأل الله الكريم أن يرزُقنا الهدى والسداد، ويقينا شرَّ أنفسنا وألا يزيغَ قلوبنا بعد إذ هدانا وأن يَهَبَ لنا من لدنه رحمه إنه هو الوهاب.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply