معوقات وصول الدعوة الإسلامية للعالم رغم سهولة وسرعة أساليبها ووسائلها الحديثة 2


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

تكلمنا  في المقال السابق عن التحزب ، والصراع على الهوية ، وظهور تيار العنف المسلح ؛ على أنها من أهم المعوقات الداخلية التي أثرت سلبا على مسيرة الدعوة إلى الله تعالى، وفي هذا المقال نكمل الحديث حول أهم هذه الأسباب فأقول وبالله التوفيق:

4- تخلي بعض العلماء عن دورهم:

مما لا ريب فيه أن العلماءَ الرَّبانيينَ هم (النجوم المضيئةُ) في سماء هذا العالمِ؛ فبهم يهتدي النَّاسُ في مساربِ هذه الحياةِ؛ فإذا غابوا أو غُيِّبوا سادَ الظلام الدَّامسُ أرجاء الأرض، وتخبَّطَ الخلقُ في دياجيرِ الظلمةِ؛ فلا يعرفونَ طريقا ، ولا يهتدونَ سبيلا، وكُلَّما عصفت بالأُمَّةِ رياحُ الفتنِ العاتيةِ، وضَربت بها أعاصيرُ المحنِ القاسيةِ؛ عَظُمت الضَّرورة إلى هذا الطراز الفريدِ من أهل العلمِ، وصار ت الأُمَّةُ في مسيس الحاجة إليهِ .

 

فمن تأمَّلَ نصوصَ الكتابِ والسنةِ، وجالَ ببصرهِ في سيرةِ العلماءِ الرَّبانيينَ من سلفِ هذه الأُمَّة، لاح له أنَّ دورَ العلماءِ الرَّبانيينَ يُعد بحق أعظمَ رسالة تُوجَّهُ للمجتمعاتِ البشريةِ، فبقدر أهمية العلماء الربانيين وحاجة الأمة إليهم يتبين خطر غياب دورهم أو تغييبه، فإن الثغرة التي هم عليها لا يسدها غيرهم، فالواجب على العلماء أن يتقدموا لسدِّ الثغرة، وأن يتولوا زمام المبادرة بأنفسهم، وأن يكونوا قريبين من الناس قبل الفتن وفي أثنائها، وأن لا ينتظروا أن تأتيهم الفرص وهم قاعدون.

 

فإنهم متى ما تأخروا تقدم غيرهم ممن ليس أهلا لسدِّ مكانهم، ولا بدَّ للناس من قاد ة يرشدونهم ويوجِّهونهم “حتى إذا لم يجد الناس عالما اتخذوا رؤوسا جهالا فسألوهم فأفتوهم بغير علم فضلوا وأضلوا. (جزء من حديث صحيح أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم ، باب ، كيف يقبض العلم، رقم 100).

 

فحينما ينسحب بعض العلماء من الساحة الدعوية، فإنهم بذلك الصنيع يكونوا قد فتحوا الباب على مصراعيه، أمام المغمورين والطامحين ممن لا يمتلكون أهلية التصدر الفقهي، لشغل الأمكنة الفارغة وسد العجز الواقع في حياة الناس، وفي ذلك خطورة، تتمثل في إضلال الناس وإغوائهم وتوريطهم في برائن الشذوذ والانحراف الفكري، فمن الملاحظ أن كثيرا من غير المتخصصين في الدراسات الشرعية، برزوا قادة وأساتذة لجماعات إسلامية ، وهم ليسوا من العلماء الراسخين، وبعضهم عبارة عن مفكرين وكتاب عنوا بالكتابة وبالدفاع عن الإسلام ورد كثير من شبه المستشرقين والعلمانيين ، أهلهم لقيادة تلك الجماعات ، قبولهم للإسلام كنظام للحياة ورضاهم به ، هذا بجانب العاطفة الإسلامية، جزاهم الله خيرا، وتقبل منهم جهادهم، وقليل من قادة الحركات الإسلامية ، من له قدم راسخ في العلم الشرعي، وبعض قادة الجماعات الإسلامية ، أهلتهم بعض الظروف والملابسات لتولي المناصب القيادية.

 

فتنحي بعض العلماء عن ريادة جماعات الدعوة، ساق الصحوة الإسلامية بمعزل عن التأصيل الشرعي والتنظير الفقهي، وأخذت أبعادا إنشائية وعاطفية، أودت بدور العلماء خارج دائرة العمل الدعوي المعاصر، مما جعل أثرهم هامشيا، ولم يقف الأمر عند هذا الحد، بل شُنت عليهم الغارة تلو الغارة، ووصموا بمختلف الألقاب المنفرة، حملت بعض الشباب المتحمس على نزع الثقة من بعض أهل العلم، والتوجه إلى الشيوخ الجدد ممن لم يأخذوا العلم عن أهله ويدرجوا في مهاده ويشبوا عن الطوق في رياضه، إن هذا التحول الفكري لدى بعض الشباب ، كان حصاد إهمال الشباب طلب العلم وتفريط من جانب بعض العلماء، أفرز كما هائلا من التراكمات، ليس بالهين إزالتها. ( انظر: الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري ،ص 210: 215) .

 

5-فوضوية الإفتاء:

 

إن من الملاحظ في واقعنا المعاصر أن للمسلمين غراما بالاستفتاء فما من شخص يتبوأ مكانة في الجرأة وشيء قليل من العلم والمعرفة إلا وتجد الناس يتسارعون إلى استفتائه في كثير من المسائل التي ربما سبق أن استفتوا فيها عددا غير قليل من أهل العلم، ولا يستغرب مع هذه الحال أن يوجد خلاف شديد وتناحر بين من يستفتون كل من هب ودب.

 

وإن مما يستغرب حقا أن الجمعيات والمؤسسات الإسلامية التي ظهرت مع طلوع شمس الصحوة الإسلامية لا يوجد في هياكلها التنظيمية في الغالب أي بند يخص رعاية شؤون الإفتاء، أو إعداد المفتين، ومعنى هذا أن كل فرد من أفراد المجموعة عالما كان أو نصفه أو أقل من ذلك من حقه أن يمارس الإفتاء على الانفراد دون مشورة الآخرين، وهذا يعني أن الارتجال في الإفتاء بات سمة أساسية لتلك الجمعيات التي أسست لتسعى إلى تصحيح ما اعوج من تصورات الناس لحقائق الدين وقضاياه.

 

وهذا مرتع خطير لا بد من وضع حد له، فإذا كان التطبيب من غير طبيب جريمة يعاقب عليها القانون الوضعي بأقسى العقوبات، فإن الإفتاء بغير علم ينبغي أن يعاقب عليه القانون عقوبة لا تقل عن العقوبة المرتبة على التطبب بغير علم تنزل بأولئك الذين يتصدون للإفتاء قبل تمكنهم من أدواته وعلومه الضرورية.

 

ويشهد الواقع المعاصر فوضوية عارمة تظهر على صفحات الجرائد والمجلات وعبر الفضائيات ومن فوق المنابر وعلى الشبكة العنكبوتية ) الأنترنت( ساقت إلى تعدد الرؤى الفقهية وتناقضها، مما خلق جوا مفعما بكثرة ألوان الطيف الفكري، الذي تنساب من بين يديه ومن خلفه تصورات واجتهادات ، تستميل إلى الخصوصية والتمحور والانشقاق القابل للامتداد والتوسع ، بصورة جدلية غاية في الخطورة والدمار، وقد أصاب الدعوة الإسلامية المعاصرة من جراء تعدد المرجعيات اختلافات منهجية خطيرة، مؤطرة بآراء وفتاوى مقننة، وهذا يعد من وجهة نظري أكبر معوقات الدعوة في الواقع المعاصر، حيث كثر المفتون الحركيون.

 

فلابد من إصلاح الجذور لمعالجة فلتات الفتوى وفوضويتها ، والتأكد على المنهجية العلمية في الطلب، كالعناية بعلوم الآلة وأخذ العلم عن الشيوخ ، ومنع المتسللين إلى حمى الفتوى مهما كانت الذرائع. (انظر: الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري، ص 219 بتصرف يسير).

 

ثانيا: المعوقات الخارجية:

مما لا ريب فيه أن الدعوة في الواقع المعاصر لاقت صنوفا من الأذى وألوانا من الحقد والكراهية على أيدي أعدائها ومعارضيها منها على سبيل الذكر لا الحصر:

 

1-التنصير:

يتعرَّض العالَمُ الإسلامي لموجة جديدة من الهجمات الصليبية، تتخذ أشكالا وصورا حديثة، لا تتوقف عند حدِّ الغزو العسكري؛ بل تتعدَّاه إلى الغزو الفكري والاقتصادي والسياسي والاجتماعي للعقل والمجتمعات المسلمة.

ومع الحملة الصليبية التي تتزعمها أمريكا، ظهرت هجمة من نَو ع جديد تستهدف العملَ الخيريَّ الإسلامي، بما فيه من منظمات وهيئات ومُؤسسات وأفراد، وذلك تحت زعم “تجفيف منابع الإرهاب”، ووقف تمويله، والملاحظ أنَّ هذه الحملة رافقها نشاط ملحوظ لمنظمات التنصير، التي تعمل تحت ستار الإغاثة.

 

الهدفُ الأَوَّل لما يقوم به المنصِّرون هو خلع المسلمين عن عقيدتهم، وتَحوليهم إلى النصرانية، فالهدف الرئيس والمشترك لرجال الكنائس ورجال الاستعمار: هو القضاء على مصدر القوة الأساسيَّة التي يعتمد عليها المسلمون، ألا وهي العقيدة؛ فالعقيدة هي التي تقف عائقا أمام انتشار التنصير، بل تتعدَّى الدور الدفاعي إلى الهجوم بنشر الإسلام في قلب معاقل النصرانية.

 

فحتى يتمكن الاستعمار الحديث من تحقيق هدفه المنشود، فإنه يركز على زعزعة العقيدة في نُفُوس المسلمين، بحيث يصبح الإسلام مجرد شعارات جوفاء، وطقوسا كهنوتية صماء، ومن ثم ينعزل عن ميدان الحياة عزلا تامّا، وبهذه العملية – التفريغ العقدي-  يصبح المسلمون فريسة طبيعية للاحتواء الاستعماري الخبيث.

 

وهذا ما صرَّح به أحد مؤسسي الإرسالية الأمريكية العربية، وهو المنصِّر الأمريكي الشهير “صموئيل زويمر”، في مؤتمر القدس التنصيري 1935 م، حيثُ قال:  ” مهمتكم هي أن تخرجوا المسلم من الإسلام ليصبحَ مخلوقا لا صلة له بالله، ومن ثَمَّ لا صلة له بالأخلاق التي تعتمد عليها الأمم في حياتها، وبذلك تكونوا أنتم بعملكم هذا طليعة الفتح الاستعماري في الممالك الإسلامية، لقد أعددتم في ديار الإسلام شبابا لا يعرف الصلة بالله، ولا يريد أن يعرفها، وأخرجتم المسلم من الإسلام، ولم تدخلوه في المسيحية، ومن ثَمَّ جاء النشء طبقا لما أراده الاستعمار، لا يهتم بالعظائم، ويحب الراحة والكسل، ولا يصرف همَّه في دنياه إلا الشهوات، فإذا تعلَّم فللشهوات، وإذا جمع المال فللشهوات، وإذا تبوَّأ أسمى المراكز فللشهوات، وفي سبيل الشهوات يجود بكل شيء، باركتكم المسيحية. (مقال بعنوان : التنصير واستراتيجية الانتشار في الفراغ، عمرو توفيق ؛ شبكة الألوكة الشرعية على الشبكة العنكبوتية).

 

كما تسعى حركة التنصير العالمية إلى بسط هيمنة الكنيسة النَّصرانية سياسيّا وثقافيّا وعلميّا ودينيّا على العالم كله، وهو ما أشار إليه “روبرت ماكس” أحد أشهر المنصرين في أمريكا الشمالية بقوله: “لن تتوقف جهودُنا وسعينا في تنصير المسلمين حتى يرتفع الصليب في سماء مكة، ويقام قداس الأحد في المدينة.

 

من أجل ذلك ركزت حركة التنصير العالمية جهودَها على مناطق وفئات “الفراغ العقدي”؛ لأنَّهم أسهل في الإقناع، فعن طريق مدِّ يد العون والأعمال الخيرية تحت شعار الصليب يتحقق ما يريدون؛ لهذا لم يكن التنصير هو المحركَ الأساس لغزو تلك المناطق، وإن كان التنصير استفاد بشدَّة من احتلالها عسكر يّا بهدف السَّيطرة وبسط الهيمنة، ونهب الثَّروات والخيرات.

 

يضاف إلى كل ما سبق أن الدول النصرانية تسعى إلى إجهاض كل قوة إسلامية واعدة بمختلف العقوبات، ولو أدت إلى الدخول في حرب عوان، باسم شعارات زائفة وتمحلات متكلفة، لكن لا ينبغي أن تقعد المسلمين عن امتلاك القوة ولو بعد حين.

 

فضعف المسلمين ينعكس سلبا على الدعوة الإسلامية، بينما تكون القوة حكرا على الدعوة النصرانية، عندها تختل موازين العدل وتصبح الساحة مفتوحة للدعوات الضالة، ويروج الشرك وتستفحل البدع ويظهر الفساد في الأرض. (الدعوة في الواقع المعاصر، د. غازي المطيري ، ص 223 ، 224 بتصرف).

 

2-الغزو الفكري:

منذ أشرقت شمس الإسلام وأعداؤه يكيدون له المؤامرة تلو المؤامرة، فاستخدموا كثيرا من الوسائل ونوعوا العديد من الخطط، فتارة بالقوة، وتارة بالحيلة، نجحوا أحيانا وفشلوا أحيانا أخرى، وهكذا الصراع بين الحق والباطل.

وعصرنا الحاضر ما هو إلا حلقة في سلسلة التداول بين الإسلام وأعدائه؛ إلا أن الأعداء هذه المرة ابتكروا أسلوبا جديدا؛ حيث ابتعدوا عن الاعتماد على القوة وحدها ولجأوا إلى محاربة الإسلام بالفكر فكان ما يسمى بالغزو الفكري.

 

والغزو الفكري هو: الوسائل غير العسكرية التي اتخذها الغزو الصليبي لإزالة مظاهر الحياة الإسلامية وصرف المسلمين عن التمسك بالإسلام مما يتعلق بالعقيدة، وما يتصل بها من أفكار وتقاليد وأنماط سلوك.

فالغزو الفكري إذا مجموعة من المعتقدات والأفكار التي تدخل على الفكر الإسلامي هدفها السيطرة على هذا الفكر أو على الأقل حرفه عن وجهته الصحيحة.

فبعد فشل الحروب الصليبية وعدم استطاعة الصليبين السيطرة على المسلمين بالوسائل العسكرية تنادى مفكروهم وقوادهم إلى ضرورة استحداث أسلوب آخر يكفل لهم تحقيق أهدافهم، فكان هذا الأسلوب المطلوب هو الغزو الفكري.

يقول لويس التاسع ملك فرنسا بعد أن وقع في الأسر وبقي سجينا في المنصورة: “إذا أردتم أن تهزموا المسلمين فلا تقاتلوهم بالسلاح وحده، فقد هزمتم أمامهم في معركة السلاح ولكن حاربوهم في عقيدتهم فهي مكمن القوة فيهم.

وبالفعل بدأت الحملات الصليبية ولكن هذا المرة عن طريق الفكر وبالفكر، واستخدمت الوسائل المتعددة والأساليب الكثيرة لتحقيق ما يريدون، سواء كان ذلك عن طريق الوسائل التعليمية أو عن طريق الوسائل الاقتصادية أو عن طريق الوسائل الاجتماعية أو عن طريق الوسائل السياسية، وغيرها من الوسائل.

 

وهدفهم من ذلك إبعاد المسلمين عن مصدر قوتهم وعزتهم، فقد أدرك أعداء الإسلام من الغزاة أن المسلمين وإن كانوا في ضعف وهوان وتشتت وانقسام إلا أنهم يملكون سلاحا قويا يستطيعون به الانتصار على عدوهم متى ما استخدموه لذا حرصوا أشد الحرص على إبعادهم عن هذا السلاح وعن مصدر قوتهم، فبدأوا بمحاربة العقيدة الإسلامية ومحاولة إبعادها عن حياة المسلمين، لا عن طريق ذمها في البداية وبشكل مباشر فهذا يثير المسلمين عليهم ويرجع المسلمين إلى عقيدهم، ولكن عن طريق دس السم في العسل كما يقال، وبطرق ملتوية غير مباشرة، فحاولوا التشكيك في العقيدة أو في جوانب منها فإن لم ينجحوا في ذلك فعلى الأقل عملوا على زعزعة ثقة بعض المسلمين بعقيدتهم.

 

وقد لجأوا في ذلك إلى أساليب كثيرة أحيانا تحت مسمى التدرج وعدم التعصب وأحيانا تحت مسمى البحث العلمي وأحيانا تحت مسمى التقارب العقدي للأديان وهكذا،

 

وتكمن خطورة الغزو الفكري الصليبي للأمة الإسلامية أنه يحاول أن يضرب الإسلام من الداخل عن طريق إضعاف فاعليته بالتشكيك في أسسه ومبانيه، وعزله عن التأثير في حياة المسلمين وذلك باسم التقدم، والحضارة والرقي، ومحاربة الرجعية، ومن ثم وقف المد الإسلامي، وحصر الإسلام داخل حدود لا يتجاوزها، وإلى تجزئة المسلمين أرضا وأمة وفكرا، وتشويه صورتهم التاريخية الغابرة والحالية، والحيلولة دون مستقبل مشرق للإسلام والمسلمين

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply