ثلاث من كن فيه كن عليه


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ، قال: ثَلَاثُ خِصَالٍ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ (وفي رواية: فَهِيَ رَاجِعَةٌ على صاحبها): البَغْيُ، والنَّكْثُ، والْمَكْرُ. وَقَرَأَ: {وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ} [فاطر: 43] ، {يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ} [يونس: 23]، {فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ} [الفتح: 10]  (1).

وروي عن مَكْحُول أنه قال: أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كُنَّ لَهُ، وَثَلَاثٌ مِنْ كن فِيهِ كُنَّ عَلَيْهِ، فالْأَرْبَعُ اللَّاتِي له: فالشُّكْرُ والْإِيمَانُ والدُّعَاءُ والِاسْتِغْفَارُ، قال اللَّهُ تعالى: (مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ)، وقال تعالى: (وَما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ) ، وقال تعالى: (قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْلا دُعاؤُكُمْ). وَأَمَّا الثَّلَاثُ اللَّاتِي عَلَيْهِ ،... فذكر ما ذكره مُحَمَّدِ بْنِ كَعْبٍ الْقُرَظِيِّ (2).

ولما كانت هذه الثلاث من أمهات الذنوب كان وبالها عائد على فاعلها مع العذاب في الآخرة، وسأكتفي بالإشارة إليها في الكلمات التالية:

 

أولا: البَغْي:

  - البَغْي معناه: مجاوزة الحد في الاعتداء والظلم، وهو أيضا: طلب الِاسْتِعْلَاءَ في الأرض بِغير حق.

 وهو خُلُق ذميم يَجُرُّ خَلْفَهُ جملة أخرى من الأخلاق الذميمة مِثْلَ الكذب والكبر والظلم والفساد، ومِنْ ثَمَّ عَدَّه العلماء من الكبائر الباطنة ، ومعلوم أَنَّها أعظم من كبائر الجوارح لِعِظَمِ مفسدتها وسوء أثرها ودوامه، أعاذنا الله وَإِيَّاكُمْ مِنْها.
 - ومن الشواهد على خطورة البغي ما خاطب الله تعالى به الناس فى أي مكان كانوا وفى أي زمان وُجدُوا، قال سبحانه مُنَبِّهًا ومُحَذِّرًا: (يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُم(. قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ): إِنَّمَا يَذُوقُ وَبَالَ هذا البغي أنتم أنفسكم ولا تضرون به أحدًا غيركم (3).

 وقد وَرَدَتْ أَحَادِيثُ فِي سُرْعَةِ عُقُوبَةِ الْبَغْيِ مِنْهَا قول رسول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ما مِنْ ذنب أَجْدَرُ- أَيْ: أَحَقُّ وَأَوْلَى - أَنْ يُعَجِّلَ اللَّهُ لصاحبه العقوبة في الدنيا - مع ما يُدَّخَرُ له في الآخرة - مِنَ الْبَغْيِ وَقَطِيعَةِ الرَّحِمِ (4).
و السبب في تخصيص هاتين الخصلتين أَنَّ فاعلهما ارتكب ما تطابقت الكتب السماوية على النهي عنه. فكل واحدة كبيرة من أمهات الكبائر، فكيف إذا اجتمعتا!!.

- وقد حفظ لنا التاريخ أسماء عدد من أَهْلُ الْبَغْيِ الذين عاجلهم الله بعقوبة بغيهم ، منهم على سبيل المثال:

* قابيل الذي قتل أخاه هابيل ، قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ): والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة، كما ذَكَرَهُ مُجَاهِدُ  بْنُ جَبْر أَنَّهُ عُلِّقَتْ سَاقُهُ بِفَخِذِهِ يَوْمَ قَتْلِهِ، وجَعَلَ اللَّهُ وَجْهَهُ إِلى الشَّمْسِ حَيْثُ دَارَتْ عُقُوبَةً له وتَنْكِيلًا به، وَقَدْ وَرَدَ فِي الْحَدِيثِ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: "مَا مِنْ ذَنْبٍ أَجْدَرَ أَنْ يُعَجَّل اللَّهُ عُقُوبَتَهُ فِي الدُّنْيَا....الحديث، وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا(5).

 * قارون الذي خَسَفَ الله به الأرض، و كان مِنْ صور بَغْيِهِ تشويه صورة الشرفاء المخلصين الذين يأمرون بالقسط ، فقد ذكرت كتب التفسير: أَنَّه جَعَلَ لِامْرَأَةٍ من البغايا أَجْرًا على أَنْ تَقْذِفَ موسى عليه السلام وتتهمه بالفحشاء!!! (6).
 -وقد تكلَّم الحكماء والبلغاء في وصف عاقبة البَغْي بجُمَلٍ بَلِيغَةٍ بَدِيعَةٍ تُصوِّر في الأذهان شقاء المتصف به، كأنَّها تقول له هذا عدوُّك فانظر ماذا تصنع، فمن أقوالهم:
مَنْ سَلَّ سَيْفَ البَغْيِ قُتِلَ به ، ومن حفر بِئْرًا لِأَخِيهِ وَقَعَ فيها، ومن أوقد نار الفتنة كان وقودًا لها، البغي مرتعه وخيمٌ، على الباغي تدور الدَّوائر، ما أعطى البغي أحدا شيئا إلا أخذ منه أضعافه، سَمِين البغي مهزول ووالي الغَدْرِ معزول، البَغْيُ أَسَاسُ الذُّلِّ.

ثانيا:  المَكْرُ والخداع

 - الْمَكْر هو صرف الغَيْرِ عمَّا يقصده بنوع من الحِيلَة، وهو أيضا اسم لكل فعل يقصد فاعله في باطنه خلاف ما يقتضيه ظاهره.

- وقد دلت النصوص على سوء عاقبة المتخلق بهذا الخلق الذميم، منها: قوله تعالى: (وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ أَيْ: وما يَعُودُ وَبَالُ ذلك إِلَّا عليهم أَنفسهم دون غيرهم.

وَفِي الْحَدِيثِ (الْمَكْرُ وَالْخَدِيعَةُ فِي النَّارِ) (7).

أي تُدْخِلُ أَصْحَابَهَا فِي النَّارِ، لِأَنَّهَا مِنْ أَخْلَاقِ الْكُفَّارِ لا مِنْ أَخْلَاقِ المُؤْمِنِينَ الأَخْيَارِ، فصاحب المكر والخداع لا يكون تقيا ولا خائفا لله، لأنه إذا مكر غدر، وإذا غدر خدع، وذا لا يكون في تقى.

وقوله تعالى: (وَمَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ) (فاطر: 11)، قال الحافظ ابن كثير (ت: 774هـ): أي يَفْسَدُ ويَبْطُلُ ويَظْهَرُ زَيْفُهُمْ عن قريب لأولى البصائر والنّهى، فإنّه ما أَسَرَّ أحد سَرِيرَةً إِلَّا أبداها الله تعالى على صَفَحَاتِ وَجْهِهِ وَفَلَتَاتِ لسانه، وما أسرّ أحد سريرة إلّا كساه الله تعالى رداءها، إِنْ خَيْرًا فَخَيْرٌ، وَإِنَّ شَرًّا فَشَرٌّ)(8).

ويُرْوى أَنَّ رجلا قال لابن عباس: إِنِّي أَجِدُ في التوراة: من حفر لأخيه حفرة وقع فيها؟. فقال له ابن عباس: فَإِنِّي أُوجِدُكَ في القرآن ذلك. قال: وأين؟ قال: فاقرأ (ولا يحيق المكر السيئ إلا بأهله) وَمِنْ أَمْثَالِ الْعَرَبِ" مَنْ حَفَرَ لِأَخِيهِ جُبًّا وَقَعَ فِيهِ مُنْكَبًّا(9).
 - ومن أقوال الحكماء في الخيانة: أفحش الزَّمَانَةِ (الأمراض المزمنة) عدم الأمانة، الزم الأمانة يلزمك العمل، الخيانة خزي وهوان، رُبَّ حيلة على صاحبها وبيله، أسد مفترس أمامك خير من كلب خائن وراءك.


ثالثا: الغدر و نَكْث الْعَهْدِ

 - ومعناه هنا: عدم الوفاء بما التزم به الإنسان أو قطعه على نفسه من عهد أو ميثاق، فيما بينه وبين النّاس.

- ولتقبيح الغدر ونَكْث الْعَهْدِ شَدَّدَ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم الوعيد عليه فقال: "يُنْصَب لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ عِنْدَ إِسْتِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُقَالُ: هَذِهِ غَدْرة فَلَانٍ ابْنِ فُلَانٍ (10). والإست: مؤخّرُ الشّخص، أو حلْقة الدُّبُر.

يكون لِكُلِّ غَادِرٍ سِمَة وصِفَة وهيئة أو عَلَمًا حقيقة بين أهل الموقف، تشهيرًا له وبيانًا لما فَعَلَه، وفضيحة له بين الآنام، ومعنى (عِنْدَ إِسْتِهِ): أنه يُلْصَق به ويُدْنَى منه لتزداد فضيحته وتتضاعف مهانته، ويحتمل أن يكون عند دبره حقيقة. وقد جعل الله تعالى هذه المعاقبات حسبما يعهده البشر ويفهمونه، وكانت العرب ترفع للغادر لواء، وكذلك يطاف بالجاني مع جنايته.

فإن قيل ما الحكمة من ذلك؟

 والجواب: أَنَّهُ لَمَّا كان الغَدْرُ خَفِيَّا لا يَطَّلِعُ عليه النَّاسُ، ناسب أن يُعَامل يوم القيامة في العقوبة بضد ما فعله، وإشهار ما سَتَره وكَتَمه في يوم يجمع فيه الأولون والآخرون.

قال الذهبي (ت: 748هـ): الخيانة قبيحة في كلّ شيء، وبعضها شرّ من بعض، وليس من خانك في فِلْس كمن خانك في أهلك ومالك وارتكب العظائم(11).

- وكان من دعاء النبي صلّى الله عليه وسلّم: «اللهمّ إنّ أعوذُ بكَ مِن الخِيانَة، فإنها بئسَتِ البِطَانَةُ (12).

أي بئس الشيء الذي يستبطنه الإنسان من أمره ويجعله بطانة.

- وقال صلّى الله عليه وسلّم: مَا نَقَضَ قَوْمٌ الْعَهْدَ إلَّا كَانَ الْقَتْلُ بَيْنَهُمْ(13).

وقال: أَيُّمَا رَجُلٍ أَمَّنَ رَجُلًا على دَمِهِ ثُمَّ قَتَلَهُ فَأَنَا مِنْ الْقَاتِلِ بَرِيءٌ، وَإِنْ كَانَ الْمَقْتُولُ كَافِرًا (14).
اللَّهُمَّ إِنَّا نسألك التوفيق والسداد فإِنَّك إِذا وَفَّقْتَ أَلْهَمْتَ ، ونعوذ بك من الخزي و الخذلان فإِنَّك إِذا خَذَلْتَ أَعْمَيتَ.


وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

([1]) ذم البغى لابن أبي الدنيا (ص: 88). وقد روى هذا الحديث مرفوعا، ولا يصح، فقد أخرجه مرفوعا: الخطيب في تاريخه (8/ 449)، والبيهقي في الشعب (6674).

([2]) تفسير القرطبي (5/ 427).

([3]) تفسير ابن كثير (4/ 259).

([4]) رواه أبو داود (4902) والترمذي (2511) وابن ماجه (4211).

([5]) تفسير ابن كثير (3/ 92(.

([6]) الكبائر للذهبي (ص: 199) ونسبه لابن الجوزي، الزواجر عن اقتراف الكبائر (2/ 180).

([7]) أخرجه البيهقي في الشعب (5268).

([8]) تفسير ابن كثير (6/ 538).

([9]) تفسير القرطبي (14/ 359).

([10]) تفسير ابن كثير (3/ 334).

([11]) الكبائر للذهبي (ص: 149).

([12]) أخرجه أبو داود (1547)، وابن ماجه (3354).

([13]) أخرجه البزار (4463)، والحاكم (2577).

([14]) أخرجه أحمد (21947)، والبزار (2308)، وقال محققوا المسند: إسناده حسن.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply