بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
عباد الله: يعيش العالم اليومَ أزمةً هي من صنع يده، كما قال الله ربنا تبارك وتعالى:{ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}، فأقلقت النفوس، وهزَّت اقتصادات دول كثيرة، وغدت حديث الساعة لكل الناس في كل مكان، وكأن القيامة قد اقتربت؛ وما «كورونا» إلا أحد الأوبئة الفتاكة بما خلفه من هذا الحجم من التخوف والقلق، وبغض النظر عما يثيره من تساؤلات عن نشأته وغايته. لكني أريد أن أقول:
إن الإنسان محفوفٌ بالمخاطر، وعليه أن يعلم أنه غير مخلَّد في الدنيا، بل له أجل ينتهي إليه بسبب أو بغير سبب.
ومن لم يمت بالسيفِ مات بغيره * تعددت الأسبابُ والموتُ واحدُ
ومع ذلك، فعليه ألا يورد نفسه المهالك بحجة أن المصير محتوم، وإنما هو مأمور بأن يتقي الخطر ما استطاع، ويكون مستعداً لما قدر له؛ بما أمره دينه من الأخذ بأسباب الوقاية التي تدفع بإذن الله تعالى ما يمكن أن يحدث لو لم يأخذ بها، وهي كثيرة؛ فمنها ما يعرف اليوم بالحجْر الصحي، وهو الذي أرشد إليه النبي عليه الصلاة والسلام بقوله: «لا يُورِدن ممرضٌ على مُصح». وقوله: «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تدخلوها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»، فإن هذا الإرشاد النبوي من أهم أسباب الوقاية من العدوى التي تنتشر بأدنى ملامسة. وقد أخذ به الفاروق عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، لما وقع الطاعون في الشام، فمنع الجيش من الدخول إلى أرض الوباء، فكان سبباً لحفظ أجناد المسلمين المرابطين.
وعلى الناس أن يفعِّلوا هذا الحجْر؛ فمن كان به داء من كورونا أو جذام أو نحوها عليه أن يقي الناس من الإصابة بما يحمله من داء، وذلك بالمكث في بيته، والأخذ بأسباب الشفاء من الدواء والغذاء، ولا يدخل في مجامع الناس أو يخالطهم حتى لا يؤذيهم، فإن أذية الناس حرام شرعاً، والمريض عذره الشارع من الجمعة والجماعة وأكسبه أجرهما، كما قال صلى الله عليه وسلم: «إذا مرض العبد أو سافر كتب له ما كان يعمل صحيحاً مقيماً».
ومنها الوقاية من مسببات الأمراض، بالنظافة والتطهر، فإن كثيراً من الأمراض تكون نتيجة التلوث البيئي، وقد أمرنا الإسلام بالتنظف والتطهر، وأقام شعائره الدينية على مبدأ النظافة الحسية والمعنوية كالوضوء والغسل من الجنابة.
ومنها الأخذ بأسباب التداوي، والعلاج وتقوية المناعة، كما أرشد إلى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم: " ما أنزل الله داء، إلا أنزل له شفاءً "؛ رواه البخاري وقال عليه السلام: " تَدَاوَوْا عبادَ الله، فإن الله - عز وجل- لم يُنزِل داءً إلا أنزل معه شفاءً، إلا الموت والهَرَم "؛ رواه الإمام أحمد وغيره عن أسامةَ بن شَريك.
وفي هذا إشارةً لطيفة إلى لطفه سبحانه بعباده ورحمته بهم، إذ ابتلاهم بالأدواء وأعانهم عليها بالأدوية، كما ابتلاهم بالذنوب وأعانهم عليها بالتوبة والحسنات الماحية.
ومنها صدق الالتجاء إلى الله بالدعاء الخالص، فإنه لا يرد القضاء إلا الدعاء، والمحافظة على الأوراد والأذكار والتعوذات الشرعي.
والتوكل على الله من مقتضيات الإيمان، وهو الثقة بما عند الله واليأس عما في أيدي الناس، وهو المعنى الذي خاطب الله به: ﴿وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ﴾. ولا ريب أن المسبب الحقيقي هو الله سبحانه، كما قال تعالى:{وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ} ، فهو الذي يمرض ويشفي ويعطي ويمنع، فليكن المرء واثقاً بربه متوكلاً عليه، حسن الظن به، ومن صدق في توكله كفاه الله ما يخافه.
والعبد قصير النظر، بعيد الأمل، لا يملك لنفسه نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشوراً، فلابد أن يكل أمره لله لمن خلقه وقدره وسيره، فهو الذي يحي ويميت، ويضر وينفع، ويغني ويُقني، فإذا أيقن العبد بهذه الحقيقة الإيمانية لم يتخل عنه موعود الله: ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾.
المؤمن المتوكل وسطٌ بين طرفي الإفراط والتفريط، فمنهم من طرح التوكل جانباً ورأى أن لنفسه الحول والطول، ومنهم من انبطح على وجهه ولم يسع سعي المتوكلين، وكلا طرفي قصدِ الأمور ذميمُ.
إننا في زمن الوباء الذي عرفنا بدايته ولا نعرف نهايته، والذي تتضارب فيه الأخبار تضارباً تجعل الحليم حيراناً؛ نحتاج أن نَصدُق في التوكل على ربنا، لعلنا نتجاوز هذه المحنة كما يتجاوزها الصادقون في التوكل، الذين يعلمون أن ما أصابهم لم يكن ليخطئهم، وما أخطأهم لم يكن ليصيبهم، وأن الذي أنزل الداء سينزل الدواء ولابد، وأن الأخذ بأسباب الوقاية منه لا ينافي التوكل، وأن من أصيب به فلحق بربه فذلك أجله المحتوم الذي قدر عليه في الأزل، وأن من صبر على الابتلاء به في نفسه أو رزقه سينال أجر الصابرين.
هذا هو الذي ينبغي أن نعيشه واقعاً مع وباء كورونا الذي لا يكاد يفِر حتى يكِر، ولعله يستمر حتى يكون جزءاً من حياة الناس كسائر الأوبئة القديمة، فلا سبيل إلى تجاوز محنته إلا بصدق التوكل على الله سبحانه، فمن توكل عليه كفاه، ومن اعتصم به هداه، ومن اتقى به وقاه، وبذلك سنريح أنفسنا من كثير مما أصابنا، ونعيش بقية حياتنا مع مولانا على مراده سبحانه منا، لا على مرادنا لأنفسنا.
نسأل الله تعالى الحفظ والسلامة للجميع، والشفاء للمرضى، وأن يجعلنا من عباده الذين يتوكلون على الله حق توكله.
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة ونفعني وإياكم بما فيهما من الآيات والذكر والحكمة، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، وكفى، وسمع الله لمن دعا، وبعد، عباد الله فاتقوا الله عباد الله في أنفسكم ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وخذوا حذركم، وتعاونوا مع الجهات المعنية، وحافظوا على بيوتكم وأسركم، بلبس الكمامات، وتقليل التجمعات، وترك المصافحة والمعانقة، وادعوا وأنتم موقنون بإجابة أن يرفع ما حل بكم من بلاء وداء، وأن يرفع الغمة عن البلاد والعباد. نسألك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام أن ترفع عنا الوباء والبلاء، وأن تقضى حوائجنا، وتشفي مرضانا، وترحم موتانا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد