بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
نعم الله جل جلاله على عباده لا تعد ولا تحصى، ومن أجل النعم بعد نعمة الإسلام والإيمان: نعمة الصحة، فهي نعمة عظيمة، لا ينتبه لها كثير ممن يتمتعون بها، فعن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحة، والفراغ) [أخرجه البخاري] وأخرجه الدارمي ولفظه: (إن الصحة والفراغ نعمتان من نعم الله، مغبون فيهما كثير من الناس)
ومن تمتع بالصحة، وكان آمنًا، ولديه قوت يومه، فكأنما ملك الدنيا، فعن عبيدالله بن محصن الأنصاري، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أصبح منكم آمنًا في سربه، مُعافيً في جسده، عنده قُوتُ يومه، فكأنما حيزت له الدنيا بحذافيرها) [أخرجه الترمذي، وصححه الألباني، برقم (2318) في السلسلة الصحيحة]
والصحة قسمان: صحة بدنية، وصحة نفسية، والصحة النفسية لا تقل أهمية عن الصحة البدنية، إن لم تزد عليها، فالحالة النفسية للحامل تؤثر على جنينها، وكثير من الأمراض البدنية المزمنة منشأها نفسيًا، ومن تمتع بالصحة النفسية سلِم من الاضطرابات النفسية التي هي بوابه الأمراض النفسية، فيجب الاهتمام بالصحة النفسية، والصحة النفسية لها مقومات، من أهمها:
** بداية اليوم بطاعة الله:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم إذا هو نام ثلاث عُقد، يضرب مكان كل عقدة، عليك ليل طويل فارقد، فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقدة، فإن توضأ انحلت عقدة، فإن صلى انحلت عقده كلها، فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) [متفق عليه] قال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: وفي قوله صلى الله عليه وسلم: (فأصبح نشيطًا طيب النفس، وإلا أصبح خبيث النفس كسلان) دليل على فضل العمل الصالح، وأن له تأثيرًا حتى على نشاط المرء، وطيب نفسه، وأن عدم العمل الصالح يؤثر على الإنسان حتى في نفسه وعزمه، ولهذا قال: (كسلان)
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: قوله: (طيب النفس) أي: لسروره بما وفقه الله له من الطاعة، وبما وعده من الثواب، وبما زال عنه من عقد الشيطان
قال فضيلة الشيخ الدكتور عبدالرحمن صالح الدهش: قال: (عليك ليل طويل) أي: نم نومًا طويلًا عميقًا لا تقوم معه لذكر الله ولا إلى الصلاة قال:(فإن استيقظ فذكر الله انحلت عقده فإن توضأ انحلت عقدة فإن صلى انحلت عقدة) فتخلص بهذه الأعمال الثلاثة من عُقدِ الشيطان ثم أصبح نشيطًا طيب النفس، فهو نشيط في بدنه، طيب في قلبه، وإذا اجتمع الأمران فلا تسأل عن انبساط الإنسان وسعادته، يكون يومه من أسعد الأيام في حياته ويقضي أعماله ومهماته بنشاط وحيوية...وهذا النشاط يشمل الأعمال الأخروية والدنيوية...فهذه يتقوى الإنسان عليها بذكر الله عز وجل، فإذا وجدت الإنسان يؤدي وظيفته وعمله بنشاط فإنك تظن فيه أنه ممن ذكر في الحديث
** أداء الصلاة بخشوع وطمأنينة:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (جُعلت قُرةُ عيني في الصلاة) [أخرجه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني برقم (3291) في السلسلة الصحيحة] وقال عليه الصلاة والسلام: (يا بلال! أقم الصلاة، أرحنا بالصلاة) [أخرجه أبو داود، وصححه الألباني برقم (7892) في صحيح الجامع] قال ابن القيم رحمه الله: وللصلاة تأثير عجيب في دفع شرور الدنيا، ولا سيما إذا أُعطيت حقها من التكميل ظاهرًا وباطنًا، فما استُدفعت شرور الدنيا والآخرة، ولا استجلبت مصالحهما بمثل الصلاة، وسرُّ ذلك أن الصلاة صِلة بالله عز وجل، وعلى قدر صلة العبد بربه عز وجل تفتح عليه من الخيرات أبوابها، وتنقطع عنه من الشرور أسبابها، وتُفيضُ عليه مواد التوفيق من ربه عز وجل، والعافية والصحة، والغنيمة والغنى، والراحة والنعيم والأفراح والمسرات، كلها محضرة لدية، ومسارعة إليه. وقال رحمه الله: من علامات صحة القلب أنه إذا دخل في الصلاة ذهب عنه همُّه وغمُّه بالدنيا واشتد عليه خروجُه منها، ووجد فيها راحته ونعيمه، وقُرَّة عينه وسرور قلبه.
ومن الصلاة التي ينبغي أن يجاهد الإنسان نفسه على أدائها: صلاة الليل، فله أثر على صحة الإنسان النفسية، قال مسلم بن اليسار: ما تلذذ المتلذذون بمثل الخلوة بمناجاة الله عز وجل. وكان أبو سليمان يقول: أهل الليل في ليلهم ألذُّ من أهل اللهو في لهوهم. وقال الحافظ ابن رجب رحمه الله: ما عند المحبين ألذ من أوقات الخلوة بمناجاة محبوبهم، هو شفاء قلوبهم، ونهاية مطلوبهم...من لم يشاركهم في هواهم وذوق حلاوة نجواهم، لم يدر ما الذي أبكاهم
قال ابن حجر رحمه الله: والذي يظهر أن في صلاة الليل سرًا في طيب النفس.
** نظر الإنسان إلى من هو أدنى منه في أمور الدنيا:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق، فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه) [متفق عليه] وفي رواية مسلم: (انظروا إلى من هو أسفل منكم، ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله عليكم)
قال العلامة السعدي رحمه الله: يا لها من وصية نافعة، وكلمة شافية وافية !...قد أرشد صلى الله عليه وسلم إلى هذا الدواء العجيب والسبب القوي لشكر نعم الله. وهو أن يلحظ العبد _ في كل وقت _ من هو دونه في العقل والنسب والمال، وأصناف النعم، فمتى استدام هذا النظر، اضطره إلى كثرة شكر ربه والثناء عليه، فإنه لا يزال يرى خلقًا كثيرًا دونه بدرجات في هذه الأوصاف، ويتمنى كثيرٌ منهم أن يصل إلى قريب مما أوتيه من عافية ومال ورزق، وخَلق وخُلُق، فيحمد الله على ذلك حمدًا كثيرًا، ويقول: الحمد الله الذي أنعم عليَّ، وفضلني على كثير ممن خلق تفضيلًا.
ينظر إلى خلق كثيرٍ ممن سُلِبوا عقولهم، فيحمد لابَّه على كمال العقل، ويشاهد عالمًا كثيرًا ليس لهم قُوت مدّخر، ولا مساكن يأوون إليها، وهو مطمئن في مسكنه، موسع عليه رزقه. ويرى خلقًا كثيرًا قد ابتلوا بأنواع الأمراض، وأصناف الأسقام، وهو معافى من ذلك، مسربل بالعافية، ويشاهد خلقًا كثيرًا قد ابتلوا ببلاء أفظع من ذلك، بانحراف الدين، والوقوع في قاذورات المعاصي، والله قد حفظه منها أو من كثير منها.
ويتأمل أناسًا كثيرين قد استولى عليهم الهمُّ، وملكهم الحزنُ والوساوس، وضيق الصدر ثم ينظر إلى عافيته من هذا الداء، ومنة الله عليه براحة القلب، حتى ربما كان فقيرًا يفوق بهذه النعمة _ نعمة القناعة وراحة القلب _ كثيرًا من الأغنياء.
ثم من ابتلي بشيء من هذه الأمور، يجد عالمًا كثيرًا أعظم منه وأشد مصيبةً، فيحمد الله على وجود العافية، وعلى تخفيف البلاء، فإنه ما من مكروه إلا ويوجد أعظم منه.
فمن وفق للاهتداء بهذا الهدي الذي أرشد إليه النبي صلى لله عليه وسلم، لم يزل شكره في قوة ونموّ، ولم تزل نعم الله عليه تترى وتوالى، ومن عكس القضية، فارتفع نظره، وصار ينظر إلى من هو فوقه في العافية والمال والرزق وتوابع ذلك، فإنه لا بد أن يزدري نعمة الله، ويفقد شكره، ومتى فقد الشكر، ترحَّلت عنه النعم، وتسابقت إليه النِّقم، وامتُحن بالغمِّ الملازم، والحزن الدائم، والتسخُّطِ لِما هو فيه من الخير
** القناعة برزق الله في كل شيءٍ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ارض بما قسم الله لك تكن أغنى الناس)[أخرجه الترمذي وصححه الألباني في الصحيحة:930]
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ليس الغنى عن كثرة العَرَض ولكن الغنى غنى النفس) [متفق عليه] وعن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (يا أبا ذر! أترى أن كثرة المال هو الغنى ؟ إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب، من كان الغنى في قلبه، فلا يضره ما لقي من الدنيا، ومن كان الفقر في قلبه، فلا يغنيه ما أُكثر له في الدنيا، وإنما يضُرُّ نفسه شُحُّها)[أخرجه النسائي وصححه الألباني برقم (7816) في صحيح الجامع] قال السعدي: ليس الغنى عن كثرة العرض وإنما الغنى غنى القلب، فكم من صاحب ثروة وقلبه فقير متحسر، وكم من فقير ذات اليد، وقلبه غني، قانع برزق الله...فالحازم إذا ضاقت عليه الدنيا، لم يجمع على نفسه بين ضيقها وفقرها، وبين فقر القلب وحسرته وحزنه، بل كما يسعى لتحصيل الرزق، فليسع لراحة القلب وسكونه وطمأنينته.
** الحرص على المرأة الصالحة، المسكن الواسع، الجار الصالح، المركب الهنيء:
عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال (أربع من السعادة: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، وأربع من الشقاء: المرأة السوء، والجار السوء، والمركب السوء، والمسكن الضيق) [أخرجه ابن حبان، وصححه الألباني برقم (282) في الصحيحة] ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث أربع من السعادة من حظي بها كانت جالبة للفرح والسرور، والذي هو لب الصحة النفسية، وهذه الأمور، هي: المرأة الصالحة، والمسكن الواسع، والجار الصالح، والمركب الهنيء، فغير الصالحة قد توقع زوجها في أمور محرمة تجلب له الشقاء، والمسكن الضيق لا يرتاح فيه الإنسان، والجار السيء الذي لا يكف أذاه عن جاره يجعل جاره في ضيق كلما دخل وخرج من منزله، والمركب إذا كان لا يرتاح فيه، وأعطاله كثيرة ودائمة فإنه تنكد على الإنسان، فمن بعد عنها سلِمَ من آثاره الضارة التي تشوش عليه في حياته.
** تجنب الوحدة:
عن ابن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم، نهى عن الوحدة: أن يبيت الرجل وحده.[أخرجه أحمد، وصححه الألباني]قال الطبري: هذا زجر أدب وإرشاد لما يخاف على الواحد من الوحشة وليس بحرام، فالسائر وحده بفلاة، والبائت في بيت وحده لا يأمن من الاستيحاش سيما إن كان ذا فكرة رديئة أو قلب ضعيف"
الإنسان الوحيد تنفرد به الشياطين، وتوسوس له أشياء لا حقيقة لها، ولا وجود لها، مما ينعكس سلبًا على نفسيته، ومن ثم على صحته النفسية، فليحذر الإنسان منها، ومن اضطر إليها لضرورة، فليكن أنيسه الدائم ذكر الله.
** عدم الاقتراض:
عن عقبة بن عامر رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تخيفوا أنفسكم بعد أمنها.) قالوا: وما ذاك يا رسول الله ؟ قال: (الدَّينُ) [ أخرجه أحمد، وقال الألباني في الحديث رقم (2420) في سلسلة الأحاديث الصحيحة: هذا إسناد جيد، رجاله ثقات]
قال الشيخ أحمد عبدالرحمن البنا الساعاتي رحمه الله، في كتابه: " بلوغ الأماني من أسرار الفتح الرباني ": والمعنى لا تخيفوا أنفسكم بالدين بعد أمنها من الغرماء، وإنما كان الديّنُ جالبًا للخوف، لشغل القلب بهمه، وقضائه، والتذلل للغريم عند لقائه، وتحمل منته إلى تأخير أدائه، وربما بعد الوفاء يحلف أو يحدث الغريم بسببه فيكذب، أو يحلف فيحنث، أو يموت فيرتهن.
فالإنسان في آمن، وراحة، إذا لم يكن عليه دين، فإذا استدان، وحلَّ وقت الوفاء، ولم يكن عنده وفاء، فإنه قد يقول ويكذب، ويعد فيخلف، فعن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو في صلاته: (اللهم إني أعوذ بك من المأثم والمغرم) فقال قائل: ما أكثر ما تستعيذ يا رسول الله من المأثم والمغرم قال: (إن الرجل إذا غرم حدث فكذب، ووعد فأخلف) [متفق عليه]
فمن مقومات الصحة النفسية: البعد عن الديون، لأنها هموم، وتكدير للخاطر، ومن اضطر إليها لضرورة من مأكل ومشرب وملبس دواء ونحوها فليكن من نيته عند الاقتراض أنه سوف يقوم بقضاء الدين حتى يعينه الله فيسلم من هم الدين، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ أموال الناس يريد أداءها أدى الله عنه ومن أخذها يريد إتلافها أتلفه الله) [أخرجه البخاري]
النظر إلى المحاسن وغضّ الطرف عن المساوئ:
عن أبي هريرة رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (لا يفرك مؤمن مؤمنة، إن كره منها خُلقًا رضي منها غيره) [أخرجه مسلم]
قال العلامة السعدي رحمه الله: هذا الإرشاد من النبي صلى الله عليه وسلم للزوج في معاشرة زوجته من أكبر الأسباب والدواعي إلى حُسن العشرة بالمعروف، فنهى المؤمن عن سوء عشرته لزوجته، والنهي عن الشيء أمر بضده، وأمره أن يلحظ ما فيها من الأخلاق الكريمة، والأمور التي تناسبه، وأن يجعلها في مقابلة ما كره من أخلاقها، فإن الزوج إذا تأمل ما في زوجته من الأخلاق الكريمة، والمحاسن التي يحبها، ونظر إلى السبب الذي دعاه إلى التضجر منها، وسُوء عشيرتها، رآه شيئًا واحدًا أو اثنين مثلًا! وما فيها مما يحب أكثر، فإذا كان منصفًا أغضى عن مساويها لاضمحلالها في محاسنها وبهذا تدم الصحبة، وتُؤدى الحقوق الواجبة والمستحبة، وربما أن ما كره منها تسعى بتعديله أو تبديله.
وأما من أغضى عن المحاسن، ولحظ المساوي _ ولو كانت قليلة _ فهذا من عدم الإنصاف، ولا يكاد يصفو مع زوجته.
وهذا الأدب الذي أرشد إليه صلى الله عليه وسلم ينبغي سُلُوكُهُ واستعمالُهُ مع جميع المُعاشرين والمُعاملين، فإن نفعه الديني والدنيوي كثير، وصاحبه قد سعى في راحة قلبه، وفي السبب الذي يدرك به القيام بالحقوق الواجبة والمستحبة، لأن الكمال في الناس متعذر، وحسب الفاضل أن تُعدَّ معايبه، وتوطين النفس على ما يجيء من المُعاشرين _ مما يخالف رغبة الإنسان _ يُسهّل عليه حُسن الخُلُق، وفِعل المعروف والإحسان مع الناس، والله الموفق.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد