بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
مقدمة
سأبدأ هذا المقال مباشرة بالمعلومات التي توصلت إليها وهي تعتبر الأساس والقاعدة لمعرفة المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ. ومن أهم هذه المعلومات صلة آيات الفاتحة بالآية 7 آل عمران وبالآية 1 هود وبالآية 23 الزمر. أي إن سورة الفاتحة هي المفتاح الذي سيفتح كل مغلق في هذه الآيات الثلاث. ومن المعلومات أيضًا استراتيجية تنزيل القرآن.
أولًا: صلة آيات الفاتحة بالآية 7 آل عمران والآية 1 هود والآية 23 الزمر
إن الآية {هُوَ ٱلَّذِيۤ أَنزَلَ عَلَيْكَ ٱلْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ ٱلْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ٱبْتِغَاءَ ٱلْفِتْنَةِ وَٱبْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ ٱللَّهُ وَٱلرَّاسِخُونَ فِي ٱلْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ ٱلأَلْبَابِ}[7:آل عمران] تخبر أن الكتاب منه آيات محكمات وتلك الآيات المحكمات هن أم الكتاب.
وبما إن سيدنا محمدًا صلى الله عليه وسلم قد أوضح لنا أن أم الكتاب هي سورة الفاتحة في الحديثين التاليين: عن أبي هريرة رضي الله عنه1 عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "هي أم القرآن وهي السبع المثاني وهي القرآن العظيم". وعن أبي هريرة قال2: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (الحمد لله رب العالمين أم القرآن وأم الكتاب والسبع المثاني والقرآن العظيم) يستنبط أن آيات الفاتحة السبع هن الآيات المحكمات لأنهن أم الكتاب. وبما إن آيات الفاتحة هن المحكمات أم الكتاب فهن إذًا اللاتي أحكمهن الحكيم الخبير ثم فصلهن بناءً على قوله تعالى: {الۤر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[1:هود]. وما يثبت أن آيات الفاتحة هن المحكمات المفصلات ما يلي: لقد جاء تفصيل المحكمات في سور بناءً على حديث السيدة عائشة رضي الله عنها1: (إِنَّمَا نَزَلَ أَوَّلَ مَا نَزَلَ مِنْهُ سُورَةٌ مِنَ المُفَصَّلِ) وبناءً على قول الشعراوي: (التفصيل الذي جاء لنا من القرآن أنه سور).
فإذا نظرنا في سور القرآن نجد أن بداية كل مجموعة من السور لها صلة بآية من آيات الفاتحة كالآتي:السور التي افتتحت "بالحمد لله" وعددهن أربعة سور قد أنزلت لتفصيل آيات "الحمد لله". والسور التي افتتحت بأسماء كسورة القارعة وعددهن أربع وعشرون سورة قد كان موضوعهن تعريف مالك يوم الدين وما يحدث فيه. مما يدل على أنهن أنزلن تفصيلًا للآية:{ماَلِكِ يَوْمِ الدِّينِ}. أما السور التي افتتحت بلفظ التسبيح سبحان أوبلفظ تبارك وعددهن عشر سور فهن اللاتي يتحدثت عن عدم وجود شريك لله يعبد فليس له والد ولا صاحبة ولا ولد ولذلك له العبادة المطلقة. إذًا تلك السور بالاضافة إلى سورتي الفلق والناس قد أنزلن تفصيلًا بلآية:{إِيَّاكَ نَعْبُدُ وإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}. وما أنزل من السور التي افتتحت بياء النداء لتجذب الانتباه لما سيأتي من الأحكام. وعددهن ثمان وثلاثون سورة مثل"يا أيها الناس اتقوا ربكم". فهن السور التي أنزلت لتوضيح الهدى والصراط المستقيم. فهن إذًا تفصيل للآية:{اهدِنَا الصِّرَاط المُستَقِيمَ}. وأخيرًا أنزلت مجموعة من السور مبتدئة بصفات المؤمنين كسورة (المؤمنون) وأخرى مبتدئة بصفات المغضوب عليهم والضالين كسورة (المنافقون) وعددهن ثماني سور لتفصيل الآية:{صِرَاطَ الَّذِينَ أَنعَمتَ عَلَيهِمْ غَيرِ المَغضُوبِ عَلَيهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ}. فصار عدد السور التي فصلت ست آيات من سورة الفاتحة هو 84 سورة. وتبقت تسع وعشرون سورة وهي التي ابتدئت بالحروف المقطعة. وعليه تكون آية البسملة آية من الفاتحة وهي الآية الأولى وتكون آيات الفاتحة قد فصلتهن 113 سورة. وإذا أضيفت لهن سورة الفاتحة يصير عدد سور القرآن 114 سورة.
إن الآية 1 هود تخبر عن أن ما أحكم من آيات وما فصل لا يخرج معناه عن محتوى سورة هود وهو: إن العبادة لله وحده والاستعانة به وحده. كما تتحدث عن انقسام الأمم إلى مؤمن وكافر وأن الله مبتلي العباد وعنده رزقهم وأن المؤمن له جزاؤه وللكافر عقابه. ثم ضرب الله مثلًا للمؤمن بالأصم والأعمى وللمؤمن بالسميع البصير. وسرد قصص الأمم مع رسلهم. وإذا تتبعنا أي سورة من سور القرآن الأخرى نجدها تحتوي على نفس المواضيع التي تحتوي عليها سورة هود بالرغم من اختلاف الألفاظ.
ثانيًا: استراتيجية تنزيل القرآن
ورد مصطلح المفصل من السور في حديث للسيدة عائشة رضي الله عنها. ولهذا الحديث القدح المعلى في توضيح المحكم والمتشابه والناسخ والمنسوخ لأن تحليله قد بَيَّن استراتيجية تنزيل القرآن. والحديث هو1:(إن أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام ، ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لن ندعو الخمر أبدًا ، ولو نزل: لا تزنوا لقالوا:لا ندع الزنى أبدًا). وتحليل هذا الحديث كالآتي:
أ- إن قول السيدة عائشة: (إن أول ما نزل منه سورة من المفصل فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا أثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام) يشير إلى إن الكتاب الكلي قد أنزل على مرحلتين: المرحلة الأولى هي مرحلة الأخبار والحديث عن وجود إله واحد أحد. والمرحلة الثانية هي مرحلة التكاليف التي لم تبدأ إلا بعد أن صدَّق الناس حديث الوحدانية واعتنقوا الاسلام وأثابوا إليه. بذا نصل إلى أن المرحلة الأولى هي التي أنزل الله فيها أحسن الحديث كتابًا متشابهًا مثاني (الآية23الزمر) الذي هو كتاب جزئي. وإن تشابه الآية 23 هو تشابه الكلام والحديث الذي يصدق بعضه بعضًا ويماثله لأنه كلام عن موضوع واحد وهو وحدانية الله فلا بد أن يكون متشابهًا متماثلًا.
ب- أما قولها: "إن أول ما نزل منه سورة من المفصل"، فيستنبط منه أن أول ما نزل من السور في كتاب الأخبار كان محكمًا أي مجمل المعنى وغير مفصل (آيات الفاتحة) ولهذا لم يكن فيه ذكر الجنة والنار. وإن أول سورة من المفصل نزلت جاء فيها ذكر الجنة والنار. فيستفاد من ذلك أن كتاب العقيدة قد أنزل بدوره على مرحلتين: المرحلة الأولى، كانت آياتها محكمات قصار غير واضحات المعنى. والمرحلة الثانية أنزلت فيها السور المُفصِّلات لآيات سورة الفاتحة. عليه نصل إلى أن كتاب أحسن الحديث (الآية 23 الزمر) يحتوي على المحكمات (آيات الفاتحة) وعلى المتشابهات (جميع آيات أخبار الوحدانية في السور). وقد ذكر الكتاب وأريد به الكتاب الجزئي مجازًا مرسلًا علاقته الجزئية.
1-صحيح البخاري – ج السادس- ص 185
ج- ويشير قول السيدة عائشة: "ولو نزل أول شيء: لا تشربوا الخمر لقالوا: لن ندع الخمر أبدًا..."إلى إن كتاب الأحكام قد أنزل أيضًا على مرحلتين: المرحلة الأولى مرحلة الأحكام المحكمات والمرحلة الثانية مرحلة الأحكام المتشابهات.
ومما تقدم نصل إلى أن الكتاب قد أنزل على مرحلتين في كتابين جزئيين: كتاب أخبار وكتاب أحكام وكل كتاب منهما قد أنزل بدوره على مرحلتين: مرحلة الآيات المحكمات ومرحلة الآيات المتشابهات. ولكن هنالك فرق بين محكمات كتاب الأخبار ومحكمات كتاب الأحكام. كما أن هنالك فرق بين متشابهات كتاب الأخبار ومتشابهات كتاب الأحكام. والفرق بينهم كالآتي: إن محكمات الأخبار قصار غير واضحات الدلالة. أما محكمات الأحكام واضحات الحكم لا لبس فيه. وتشابه كتاب الأخبار هو:" تشابه الكلام وتماثله" أما تشابه الأحكام فهو:" تشابه شيئين" والشيئان هما "الحلال والحرام". ومتشابهات الأخبار هي التي ينجذب إليها المؤمنون فتلين قلوبهم وجلودهم إلى ذكر الله أما متشابهات الأحكام فهي التي ينجذب إليها الذين في قلوبهم زيغ أي المنافقين.
1-معنى محكمات الأخبار
لقد ألهمتني معلومة تفصيل آيات الفاتحة المحكمات إلى معنى الإحكام في كتاب الأخبار. ولتقريب فهم المقصود بالمحكمات سوف نضرب مثالًا لآيات الفاتحة من الواقع ولله ولآياته المثل الأعلى. فآيات الفاتحة السبع المحكمات يمكن تشبيههن بسبع صناديق محتوياتهن متشابهات لا فرق بينهن وهن محكمات القفل تمامًا. وبداخل كل صندوق توجد 10 قطع من الماس ومائة خاتم من الذهب وأربعون عقدًا من الذهب ومليون قطعة من النقود. ولكن لم تكن هذه الأشياء قد وضعت بنفس الترتيب في جميع الصناديق. بذا يمكن أن نجد الماس أول شيء عند فتح الصندوق الأول. ونجد قطع النقود أول شيء عند فتح الصندوق الثاني. ونجد عقود الذهب أول شيء عند فتح الصندوق الثالث وهكذا. ولكن في نهاية الأمر المحتوى واحد لا اختلاف فيه. هذا وقد سمي أحد الصناديق بالمجوهرات وسمي آخر بالكنز وسمي غيرهما بالنقود وآخر بالثروة وهكذا. إذًا جميع الصناديق تفصيلها واحد ومعنى مسمياتها واحد.
ومن هذا المثل نصل إلى إن كل المعلومات الموجودة في كل سور القرآن كانت مضغوطة ومغلقة داخل كل آية من آيات الفاتحة وهو معنى الإحكام. وتفصيلهن نجده مرة يبدأ بتوضيح صراط الذين أنعم الله عليهم وصراط المغضوب عليهم والضالين. ومرة يبدأ بتوضيح الحمد ومرة يبدأ بتوضيح الصراط المستقيم وهكذا. هذا وقد سميت الآية الأولى بالذكر والثانية بالحمد وغيرها بالهدى وهكذا وكل المسميات معناها واحد وتفصيلهن واحد وهو التوحيد.
2-معنى متشابهات الأخبار
متشابهات الأخبار هو التطابق والتماثل في المعنى ولو اختلفت الألفاظ. أي إن الحديث عن الوحدانية والاخبار عنها قد جاء حديثًا متكررا متشابهًا متماثلًا يعضد بعضه البعض. ولهذا هو مثاني لأن التكرار والتشابه هدفه هو توكيد وحدانية الله.لذا أنزلت آيات الفاتحة بدون كلمة قولوا في بداية بسم الله وقولوا في بداية الحمد لله لتكون آيات أخبار .
3-معنى محكمات الأحكام
إن آيات الأحكام المحكمات هن واضحات الحكم وقد أنزلن في مرحلة كتاب الأحكام الأولى لوضوح الحكم فيهن ولسهولة تطبيق حكمهن. وآيات الأحكام المحكمات هن آيات الفرائض والأوامر والنواهي الواضحات. وأصل آيات الأحكام المحكمات هن أيضًا آيات الفاتحة التي أمرنا الله بتكرارهن أي أن نكرر قولهن باستمرار. ثم أنزلت بعدهن الأوامر والنواهي المحكمات الأخريات "كأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة". كما أنزلت أحكام الحلال والحرام المحكمات أي الواضحات الحكم باللفظ الواضح وصريح "أُحِلَّ لكم" أو"حُرِّم عليكم" أو "لا يحلُّ لكم" لما ورد في الحديث التالي: (عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:"إن الحلال بيِّن وإن الحرام بيِّن وبينهما مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات إستبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يرعى حول ملك حمى وحمى الله محارمه. ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب)
4-معنى متشابهات الأحكام
والمرحلة الثانية من كتاب الأحكام هي مرحلة تنزيل الأحكام المتشابهات في الحلال والحرام. أي التي لم يكن الحكم فيهن واضح أي لم يأتي فيهن اللفظ الواضح أحل لكم ولا الحرام الواضح حرم عليكم. بل فيهن حكم يشبه الحلال ويشبه الحرام. فاجتمع في حكم المتشابهات حكمين متشابهين مما أدى لاشتباه الناس في حكمهن هل الحكم هو الحلال أم الحرام واستفتاء الرسول فيه. فقول السيدة عائشة يشير إلى النهي عن الخمر والزنا ولكن لم يكن من أول مرة. كل ذلك يدل على تدرج الله في النهي عنهما. وقد أوضح صبحي الصالح هذا المعنى بالآتي: "وتدرج في تربية المؤمنين، فلم يزين قلوبهم بحلية الإيمان الصادق، والعبادة الخالصة، والخلق السمح، إلا بعد أن مهد لذلك بتقبيح تقاليدهم الباطلة وعقائدهم الفاسدة شيئًا فشيئًا...). وبعد أن تم النهي عن الخمر والزنا يصير حكم المتشابه الأول لا يعمل به إلا الذين الذين في قلوبهم زيغ. وبذلك نصل إلى إن تشابه كتاب الأحكام هو التشابه المذكور في الآية 7 آل عمران.
وبعد أن أوضحنا معنى محكمات كتاب الأخبار ومتشابهاته ومعنى محكمات ومتشابهات كتاب الأحكام يتم توضيج أنواع ومعالم الآيات المتشابهات وأهدافها وأسباب تنزيلها لأنها محور هذا المقال.
أولًا: أسباب وأهداف وأنواع متشابهات الأحكام
أ- الأسباب والأهداف
إن أسباب تنزيل الآيات المتشابهات في الحلال والحرام هو إدمان الناس لحب زينة الحياة الدنيا والتفاخر بكثرتها مما أدى لتعدي الأقوياء على حقوق الضعفاء. فهم في جاهلية بوجدود إله واحد لهذا الكون.وبالتالي لم تكن لهم قوانين ومباديء تحكمهم وتحد من تصرفاتهم. ولهذا كان لابد من تنزيل أحكام تغير هذه الطبائع والعادات السيئة. لذا كان الهدف من تنزيل المتشابهات هو معالجة الادمان تدريجيًا كما يعالج المريض مدمن المخدرات تدريجيًا ولله المثل الأعلى. فالآيات المتشابهات هي الآيات اللاتي أنزلهن الله متدرجات في حكم النهي عن العادات الشعورية.أي حب الشهوات وزينة الحياة الدنيا كالخمر والربا والزنا للنهي عنهم كما أتضح من حديث السيدة عائشة رضي الله عنها المذكور: (ولو نزل أول شيء لا تشربوا الخمر لقالوا لن ندعو الخمر أبدًا..." وكما اتضح من قول صبحي الصالح: (رأينا أن الوحي لم يفاجئ اا لمؤمنين بالتشريع، بل نزل نجومًا على قلب النبي صلى الله عليه وسلم، يتدرج مع الأحداث والوقائع، وأن هذا التدرج تناول العادات الشعورية والتقاليد الاجتماعي
ومن الأهداف تمييز الشاكرين الصابرين على نعم الله ومعرفة الذين يتبعون الشيطان فلا يشكرونه. وذلك عن طريق امتحانهم في مدى رضاهم بما قسمه الله لهم من أقدار الخير وصبرهم عليها. وسبب الامتحان هو توعد إبليس لربه بأن يغوي الناس فلا يجد الله أكثرهم شاكرين لقوله تعالى على لسان إبليس:{قَالَ فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ ٱلْمُسْتَقِيمَ}{ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ}[16-17:الأعراف]. ولهذا أنزل الله الفتن أي الامتحانات التي يتدخل فيها إبليس ليجعل الناس يسقطون فيها أي لا ينجحون في الامتحان لقوله تعالى:{كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ ٱلْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِٱلشَّرِّ وَٱلْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ}[35:الأنبياء]
إذًا يريد الله أن يمييز الراسخين في الإيمان الشاكرين لله الصابرين على ما قسمه لهم من الأقدار.الصامدين أمام الشيطان من الذين في قلوبهم ضلال وزيغ المتبعين لأهوائهم وشياطينهم الذين لا يشكرون الله على أقداره أي على ما آتاهم من نعم.
ومن الأهداف أيضًا إصلاح الفساد والظلم الذي كان سائدا نتيجة حب الشهوات لقوله تعالى:{يَابَنِيۤ ءَادَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ٱتَّقَىٰ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ}[35:الأعراف] تحديد الحقوق والواجبات لرفع الظلم الذي سببه حب الزينة والشهوات والتكاثر منها بإعطاء كل ذي حق حقه كقوله تعالى:{إِنَّ ٱلَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ ٱلْيَتَٰمَىٰ ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرا}[10:النساء]
ب- الأنواع
المتشابهات المنسوخات نوعان:
النوع الأول: آياته مبهمة الحكم بالرغم من وضوح معاني مفرداتها وقد أنزلن في الشهوات اللاتي تؤثر في عبادة الله ولا تؤثر في استمرارية الحياة الدنيا. أي إن عدمها لا يتأثر به دوران عجلة الحياة كالخمر ولعب الميسر وأكل الربا. ولهذا جاء النهي عن هذه الفتن مباشرة ومن أول مرة أي النهي عن أخذ ولو القليل منها لوجود إثم باطن فيها بجانب المنفعة الظاهرة للناس.
النوع الثاني: آياته مبهمة الحكم نتيجة لعدم وضوح مفرداتها (ويسمى بالظاهر) لأن الظاهر من سياقه لا يدل على المراد منه. وقد أنزلت آيات هذا النوع للنهي عن الاسراف من الشهوات التي تتعارض مع عبادة الله وفي الوقت نفسه مطلوب القليل منها لاستمرارية الحياة الدنيا. وقد ضرب كل من صبحي الصالح ومحمد خضير وعبد الوهاب خلاف والسيوطي مثلًا لهذا النوع بالآية 3 النساء (آية التعددية)
وبعد أن توصلنا للمتشابهات وأنواعها وأسباب وأهداف تنزيلها ومعنى الآية 7 آل عمران يمكن تحليل آيات الخمر والربا لاستنتاج معالم الآيات المتشابهات ووضع دليل منها لمعرفة المتشابهات المنسوخات للحذر من تابعيها.
لقد أوضح تحليل آيات الخمر والربا معالم الآيات المتشابهات كالآتي:
- أنزلت المتشابهات في زينة الحياة الدنيا التي أدمنها الناس وفيها إثم باطن ومنفعة ظاهرة.
- لا يوجد في الآيات لفظ "أُحِلَ لكم" أو"حُرِّم عليكم" مما يجعلها تخرج من دائرة "الحلال البيِّن"و"الحرام البيِّن".
- جاء الحكم فيها بصيغة "إفعلوا ولا تفعلوا" الغير مطلقة فظهر الحكم وكأن شرب الخمر وأكل الربا حلال وهو ليس بالحلال البيِّن لتقييد شرب الخمر بالسكر وتقييد الربا بعدم المضاعفة. وعدم مقدرتهم على عدم السكر مع الشرب فظهر حكمهما وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البيِّن. فاشتبه على الناس حكم شرب الخمر وأكل الربا هل هو الحلال أم الحرام. فما بين حكمهما حكم متشابه وهو الاباحة الغير مطلقة أي المقيدة بالنهي في حالة صعوبة استيفاء الشرط المقيِّد للحكم.
- عند إرجاع حكم الاباحة للمُحكم نجد أن شرب الخمر يتعارض مع الصلاة التي حكمها محكم وهو الفرض ويتعارض حكم الربا مع التصدق الذي حكمه الفرض أي أنه الحكم المحكم. إذًا ليس في شرب الخمر والزنا والربا استقامة مع الله وفيهم شرك لله بالشيطان لأنه يشغل بهم الناس عن الذكر ويوقع بهم العداوة والبغضاء بين الناس.
- استفتي الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم تلك الآيات فسكت.
- أنزلت الآيات بعدها موضحة قبح الخمر ولعب الميسر وأكل الربا
- بعد أن علموا أن الخمر وأكل الربا رجس من عمل الشيطان وفيهما إثم باطن تهيؤا لتحريمهما والنهي عنهما.
- أنزلت الآيات الأخيره محكمات فيهن النهي عن شرب الخمر وأكل الربا أي ناسخات لحكم الإباحة المتشابه
بصورة واضحة الدلالة لا لبس فيها.
- كل الآيات التي نزلت بعد الآية الأولى لتوضيح الاثم الباطن في شرب الخمر وأكل الربا هن آيات متشابهات لم يذكر فيهن الحلال والحرام الواضحين مما جعل الصحابة يواصلون الاستفتاء في حكمهن.
- في الآية الأخيرة يتضح الحكم المطلوب الذي يخالف حكم الإباحة ويزيله أي ينسخه.
المقياس المقترح للمتشابهات المنسوخات
إن معالم جميع الآيات المتشابهات واحدة لا اختلاف فيها وبالتالي يمكن وضع أسئلة وأجوبة من معالم آيات الخمر والربا لتكون مقياسًا أو دليلًا يساعد على معرفة الآية إن كانت متشابهة منسوخه أم محكمة. فإذا وجِّهَتْ هذه الأسئلة لأي آية بعد تحليلها ومعرفة معالمها وكانت الإجابات مطابقة لإجابات المقياس تعتبر الآية متشابهة منسوخة.
أ- المقياس المقترح
أولًا الأسئلة والأجوبة
السؤال الإجابة
- هل أنزلت الآية في حكم إحدى الشهوات التي أدمنها الناس في الجاهلية؟ نعم
- هل كان في الحكم إباحة لنيل الشهوة أو الفتنة التي أنزل فيها الحكم؟ نعم
- هل كان الحكم في الآية بصيغة الأمر أو النهي"افعلوا ولا تفعلوا"
ولكنه ليس أمرًا مطلقًا لأنه مقيّدًا بشرط صعب تحقيقه؟ نعم
- هل عدم استيفاء الشرط يبطل الإباحة مما يجعل الحكم يشبه الحرام
وهو ليس بالحرام البيّن لعدم وجود نص واضح "حُرّم عليكم" ؟ نعم
- هل عمل الناس بالإباحة لفترة من الزمن ؟ نعم
- هل يتعارض حكم العمل بالإباحة مع حكم المحكمات عامة
ومع أحد أحكام الفرض بصورة خاصة؟ نعم
- هل استفتى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في حكم الآية
نتيجةً لظهور لبس في فهم حكمها أحلال هو أم حرام ؟ نعم
- هل أنزلت بعدها آيات في نفس حكمها تستفتي الصحابة لتوضيح الحكم المطلوب؟ نعم
- هل تدرجت الآيات في توضيح الحكم فأوضحت تعارضه مع ذكر الله وعبادته؟ نعم
- هل نسخت الآية الأخيرة حكم الآيات الأوائل "كليًا ومباشرًا" أو جزئيًا أوضمنيًا نعم
- هل تكررت الإباحة التي وردت في الآيات الأولى مرة أخرى في الآية الأخيرة؟ لا
ب- نتيجة الأسئلة
لقد كانت جميع إجابات الأسئلة بنعم ما عدا السؤال الأخير كانت إجابته بلا
ج- تطبيق أمثلة على المقياس
المثال الأول: الآية 3 النساء
لقد تم اختيار الآية 3 النساء (آية تعدد الزوجات) لأنها قد صنفها علماء علوم القرآن من المتشابهات وقد حدد كل من صبحي الصالح وعبدالوهاب خلاف نوعها وهو الظاهر الذي هو وجه من أوجه المتشابهات .
د- أسئلة الآية 3 النساء وأجوبتها
السؤال الإجابة
- هل أنزلت الآية 3 النساء في حب شهوة من الشهوات التي أدمنها الناس
وفيها منفعة ظاهرة وإثم باطن ؟ نعم
- هل جاء الحكم فيها إباحة بصيغة "افعلوا" فظهر كأن حكم تعدد النساء حلال
وهو ليس بالحلال البيِّن بلفظ (أحل لكم) نعم
- هل كان حكم الإباحة فيها مقيد بشرط فظهر الحكم وكأنه حرام وهو ليس بالحرام البين
بلفظ (حرم عليكم) مما جعل حكم الآية يخرج من دائرة الحلال البين والحرام البين؟ نعم
- عند إرجاع حكم الاباحة للمحكم هل كان حكمها يتعارض مع الحكم المحكم و(العدل)؟ نعم
- هل اشتبه الحكم على الصحابة فاستفتوا الرسول الله صلى الله عليه وسلم فيها؟ نعم
- هل أنزلت الآيات بعدها موضحة قبح التعددية نعم
- هل نسخت الآية الأخيرة حكم الآيات الأوائل "كليًا ومباشرًا" أو "جزئيًا أوضمنيًا " نعم
- هل تكرر حكم الإباحة في الآية الأخيرة المحكمة لا
إذًا تتطابقت معالم الآية 3 النساء مع معالم الخمر والربا المتشابهات المنسوخات مما يؤكد إنها آية متشابهة لا يعمل بحكمها وإن الحكم الناسخ هو فراق الزوجة الأولى إن لم يستطع الزوج اصلاح ميله القلبي والوفاء بعقدها حبًا والتزامًا 2 والبقاء مع الثانية وقد حرم من المغفرة. والعمل بالآية 3 النساء بعد نسخها يغتبر زنى باطن لأن في ظاهره الحلال العقد وفي باطنه إثم.
أوصي أخيرًا بتطبيق هذا الدليل على الآية 6 النساء التي تبيح للفقراء الأكل من مال اليتيم لأنني أحسب إنها من المتشابهات المنسوخات
الخاتمة
لقد توصل البحث للآتي :
1- إن آيات الفاتحة هن الآيات المحكمات لأنهن أم الكتاب (الآية 7 آل عمران) وهن آيات الكتاب اللاتي أحكمهن الحكيم الخبير ثم فصلهن (الآية 1 هود) وهن أم وأصل التشابه والمثاني (الآية 23 الزمر). ولهذا أعطى الله نبيه الكريم آيات الفاتحة السبع لأنهن أم وأصل المثاني وأعطاه تفصيلهن الذي هو القرآن العظيم كله.
2- لقد أنزل الله الكتاب الكلي على مرحلتين في كتابين جزئيين: كتاب أخبار الوحدانية وكتاب الأحكام. وقد أُنزِل كل كتاب منهما بدوره على مرحلتين: مرحلة الآيات المحكمات ومرحلة الآيات المتشاهات. لذا صار الكتاب الكلي يحتوي على نوعين من المحكمات: محكمات الأخبار ومحكمات الأحكام. كما يحتوي على نوعين من المتشابهات: متشابهات الأخبار ومتشابهات الأحكام. ويوجد اختلاف كبير بين محكمات ومتشابهات الكتابين.
3- آيات الأحكام المتشابهات نزلن للنهي تدريجيًا عن حب الشهوات أي زينة الحياة الدنيا التي جعلها الله فتنًا. فهن الآيات اللاتي جاء الحكم فيهن إباحة مقيدة بشرط يصعب استيفاؤه. وعدم استيفائه يبطل العمل بالاباحة فتشابه فيهن حكمي الحلال والحرام مما أدى لصعوبة معرفة الحكم المطلوب هل هو الحلال أم الحرام. فاستفتى الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحكم. فتنزل آيات الافتاء موضحة قبح العمل بالاباحة لأنه من عمل الشيطان ليشغل الناس عن عبادة الله. وبذلك يتهيأ الناس لنسخ الحكم ويتم النهي. ولهذا عمل الناس بالاباحة لفترى من الزمن كي يشعروا بأنفسهم بتعارض الإباحة مع عبادة الله.
4- معنى ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله هو: ابتغاء بني آدم لإحدى الفتن (إحدى زينة الحياة الممنوعة) ابتغاءً لحسن العاقبة التي سيجدونها من وراء تلك الفتنة أي الزينة. فالشيطان يعمل جاهدًا على اقناع المؤمنين بأن العمل بحكم الاباحات حلال لعدم وجود لفظ التحريم البيِّن أو النهي البيِّن في الآيات. فيقع في شباكه الذين في قلوهم مرض وضلال وهم الذين سماهم الله بالمنافقين. أما الراسخون في علمهم بوحدانية الله والمؤمنون بأقداره يصمدون في وجه الشيطان قانعين بما قدره الله لهم من زينة صابرين عليها حمدًا وشكرًا لله عليها.
والله أعلم من قبل ومن بعد واستغفر الله وأتوب إليه
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
المراجع:
1- القرآن الكريم
2- أبو عبد الله محمد البخاري- صحيح البخاري- أربعة مجلدات – المكتبة الثقافية-بيروت
3- أبو القاسم جار الله الزمخشري- الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه
التأويل- أربعة مجلدات- دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت
4- أبو عبد الله محمد ابن أحمد تفسير القرطبي- الجامع لأحكام القرآن- الجزء الخامس عشر-
دار الكتب- القاهرة
5- ابن قيم الجوزيه – أضواء البيان في علوم القرآن- برنامج القرآن الكريم الشبكة
6- ابن قيم الجوزيه – الفوائد – مكتبة المتنبي- القاهرة
7- ابن العربي- أحكام القرآن- القاهرة- مطبعة السعادة
8- ابن سلامة- منهج القرآن في علوم القرآن
9- الحافظ جمال الدين أبي الفرج- نواسخ القرآن- دار الكتب العلمية- بيروت-لبنان
الزركشي- البرهان في علوم القرآن- القاهرة- دار إحياء الكتب العربية
10- الشيخ محمد الخضري– أصول الفقه-دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع- بيروت-لبنان
11- الشيخ محمد الخضري- إتمام الوفاء في سيرة الخلفاء- دار الفكر-بيروت – لبنان
12- أبو محمد عبد الملك بن هشام- السيرة النبوية-جزءان- مكتبة الصفا
13- أبو منصور عبد القادر بن طاهر التميمي-كتاب أصول الدين-دار الفكر للطباعة والنشر
والتوزيع-بيروت – لبنان
14- التفسير الميسر- برنامج القرآن الكريم- الشبكة
15- تاج القراء محمود الكرماني-البرهان في توجيه متشابه القرآن-دار الكتب العلمية- بيروت
16- الجلالين – تفسير الجلالين-دار الفكر-بيروت- لبنان
17- جلال الدين السيوطي- الإتقان في علوم القرآن- جزءان – مطبعة حجازي بالقاهرة
18- سيد قطب- في ظلال القرآن- دار الشروق
19- سليم الجابي- النظرية القرآنية الكونية حول خلق العالم- دار الجيل بيروت
20- شمس الدين بن قيم الجوزية- الفوائد- مكتبة المتنبي- القاهرة
21- صبحي الصالح- مباحث في علوم القرآن-دار العلم للملايين للتأليف والنشر
19- عبد الوهاب خلاف- علم أصول الفقه- الدار السودانية للكتب
22- عبد المتعال محمد الجبري- الناسخ والمنسوخ بين الإثبات.. والنفي – مكتبة وهبة
23- محمد ناصر الألباني- رياض الصالحين للإمام النووي-المكتب الإسلامي- بيروت- لبنان
24- محمد على الصابوني- مختصر تفسير ابن كثير- ثلاثة مجلدات- دار القرآن الكريم-بيروت
25- محمد متولي الشعراوي- تفسير الشعراوي- أخبار اليوم –إدارة الكتب والمكتبات
26- محمد أحمد عبد العزيز- قصص الأنبياء لتفسير ابن كثير- دار الحديث- القاهرة
27- محمد شهاب الدين العربي- رسائل ابن عربي- دار صادر للطباعة والنشر- بيروت
28- محمد الغزالي- فقه السيرة- إدارة إحياء التراث الإسلامي بدولة قطر
29- مناع القطان- مباحث في علوم القرآن- مكتبة وهبة القاهرة
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد