عاصفة الصحراء


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
  {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ} (آل عمران/102).

}يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً{ (النساء/1)

}يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا} (الأحزاب70/71)

فإن أصدق الحديث كتاب الله وخير الهدي هدي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ  وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة وكل بدعة ضلال وكل ضلالة في النار ثم أمّا بعد.

فكلما أتت عاصفة الصحراء واشتد الحر والحرارة فلابد أن نذكر أناسًا من السابقين الأولين الذين لم يمنعهم حرٌ ولا حرارةٌ عن طاعة الله، عن  الصيام  والصلاة و الجهاد في سبيل الله، إنه النبي  صلى الله عليه وسلم  والصحب الكرام،  وصدق ربنا تبارك وتعالى الذي قال: {لَٰكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ ۚ وَأُولَٰئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ }( التوبة : 88 - 89 )

 

روى الشيخان (البخاري ومسلم) من حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: «كُنَّا نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيَضَعُ أَحَدُنَا طَرَفَ الثَّوْبِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ فِي مَكَانِ السُّجُودِ» يضع أحدهم ثوبه ليسجد عليه ،فقد كانت أرضية المسجد النبوي من التراب ، وأول من وضع فيها الحصى الفاروق عمر ـ رضي الله عنه ، فكانوا في شدة الحر لا يستطيع الواحد منهم أن يضع جبهته على الأرض ؛ فالأرض تقذف نارًا ، فيسجدون على اكمامهم ، وعلى ثيابهم.
وَقَالَ الحَسَنُ: «كَانَ القَوْمُ –أي الصحابة- يَسْجُدُونَ عَلَى العِمَامَةِ وَالقَلَنْسُوَةِ،  وَيَدَاهُ فِي كُمِّهِ»
 هكذا كانت صلاتهم وسجودهم ، فلم يكونوا يعرفون هذا السجَّاد ، فقد امتن الله تبارك وتعالى علينا بنعم عظيمة في مساجدنا.
روى الإمام أحمد بسند حسن من حديث الزبير لما نزل قوله تعالى:
}ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} قال الزبير يا رسول الله : الأسودان ( الماء والتمر ) سنسأل عن هذا ؟ قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سيكون.
  فإذا كان النعيم الذي نزلت فيه الآية هو (الماء والتمر) ، فكيف بهذه النعم العظيمة التي نغوص فيها وتغمرنا من منبة شعرنا إلى أخمص قدمينا ؟!!
 وفي كل نعمة منك آية تشهد أنك أنت الواحد المنعم
 تضغط على زر الواحد يأتيك هواء بارد ، تضغط على زر آخر يأتيك ماء بارد، نسجد على سجاد في هواء لطيف، هذا نعيم سنسأل عنه يوم القيامة.
ومع ذلك قلَّ الساجدون إلا من رحم ربي تبارك وتعالى.
}ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ{ ما منعهم ذلك

وروى الشيخان من حديث أَبِي هُرَيْرَةَ- رضي الله عنه-  أَنَّهُ قَالَ: إِنَّ رَسُولَ اللهِ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ-  قَالَ: «إِذَا اشْتَدَّ الْحَرُّ، فَأَبْرِدُوا بِالصَّلَاةِ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحَرِّ مِنْ فَيْحِ جَهَنَّمَ»
أعاذنا الله وإياكم من جهنم ومن فيحها ، قال فأبردوا بالصلاة ؛ فإن شدة الحر من فيح جهنم.
وعن أبي  هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، يَقُولُ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ " اشْتَكَتِ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا، فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنَ الزَّمْهَرِيرِ ".    (متفق عليه) أعاذنا الله وإياكم من النار ،  ومن تعوَّذ من النار ثلاثًا قالت النار اللهم أعذه مني ، فاللهم أعذنا من النار ، اللهم أعذنا من النار ، اللهم أعذنا من النار . ثم قال ـ صلى الله عليه وسلم وأشد ما تجدون من برد الشتاء فهذا نفس

من جهنم .لذا قال العلماء أن النار دركات ، كما أن الجنة درجات ، فمن دركات النار دركة وطبقة هي الزمهرير ، وهي البرد الشديد ،  فأذن الله -تعالى- لها في نفسين. وهذا إن دل إنما يدل على قدرة الواحد الملك المليك ، ذو الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة.
روى مسلم عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ-  رضي الله عنه-  قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " يُؤْتَى بِأَنْعَمِ أَهْلِ الدُّنْيَا مِنْ أَهْلِ النَّارِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُصْبَغُ فِي النَّارِ صَبْغَةً، ثُمَّ يُقَالُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ وَيُؤْتَى بِأَشَدِّ النَّاسِ بُؤْسًا فِي الدُّنْيَا، مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَيُصْبَغُ صَبْغَةً فِي الْجَنَّةِ، فَيُقَالُ لَهُ: يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بُؤْسًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ شِدَّةٌ قَطُّ؟ فَيَقُولُ: لَا، وَاللهِ يَا رَبِّ مَا مَرَّ بِي بُؤْسٌ قَطُّ، وَلَا رَأَيْتُ شِدَّةً قَطُّ ".
تأملوا :
أنعم أهل الدنيا من أهل النار ، والله ما دخلها ، بل صُبغ في النار صبغة ،فيسئل : يَا ابْنَ آدَمَ. هَلْ رَأَيْتَ خَيْرًا قَطُّ؟ هَلْ مَرَّ بِكَ نَعِيمٌ قَطُّ؟  فيقول لا، والله ، ما مر بي نعيمٌ قط، تُرى ، ما الذي رأه في هذه الصبغة فأنساه نعيم ستين سنة عاشها في حياته ؟!   وهذا الآخر : أشد الناس بؤساً في الدنيا، من أهل الجنة، حين يصبغ صبغة في الجنة، والله ما دخلها، بل فقد صُبغ فيها صبغة ،فيسئل : يَا ابْنَ آدَمَ هَلْ رَأَيْتَ بؤساً قَطُّ؟ فيقول لا، والله ، ما مر بي بؤسٌ قط، تُرى ، ما الذي رأه في هذه الصبغة فأنساه بؤس ستين سنة عاشها في حياته ؟!
عود إلى الصحب الكرام الذين كانوا خير من صام وقام في حر الصيف والأرض تقذف نارًا ، هكذا عاشوا عبَّادًا لله تبارك وتعالى.
وفي الصحيحين منْ حديث أَبِي الدَّرْدَاءِ-  رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ- قَالَ: «خَرَجْنَا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي بَعْضِ أَسْفَارِهِ فِي يَوْمٍ حَارٍّ حَتَّى يَضَعَ الرَّجُلُ يَدَهُ عَلَى رَأْسِهِ مِنْ شِدَّةِ الحَرِّ، وَمَا فِينَا صَائِمٌ إِلَّا مَا كَانَ مِنَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَابْنِ رَوَاحَةَ»  تأمل : يقول خرجنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في رمضان في حر شديد ، وما يستطيع الواحد منا أن يضع يده على دماغه من شدة الحر ، الأدمغة تغلي من شدة الحر ، ثم يقول وما فينا صائم إلا رسول الله وعبد الله بن رواحة ، لذا فلقد فضَّح الله  - تعالى-   المنافقين الذين تكاسلوا عن الجهاد مع النبي - صلى الله عليه وسلم – بدعوى شدة الحر ، قال تعالى: (فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ) (82) (التوبة/82)
 إن العبد المسلم هو عبدٌ لله - تبارك وتعالى - في السراء وفي الضراء ، في الصيف وفي الشتاء ، فلا يمتنع عن طاعة الله ، إلا إذا حبسه العذر.
هكذا الإسلام

والإستسلام لله تبارك وتعالى، أن تختبر بحَرٍ شديدٍ فتصبر على طاعة الله، أن تختبر ببرد شديد فتصبر على طاعة الله لذا فلقد جعل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من مكفرات الذنوب الوضوء في شدة المكاره ، أي مع شدة برد الماء تتوضأ ، بل وتسبغ الوضوء هكذا يكون العبد عبدًا لله تبارك وتعالى ، وهكذا كان النبي - صلى الله عليه وسلم ـ- والصحب الكرام، لذا استحقوا بجدارة أن تذكر شيمهم وسماتهم في آياتٍ تتلى في المحاريب من وقت أن نزل  اقرأ ، إلى قيام الساعة ـ وصلى الله على النبي وعلى آله وصحبه وسلم ـ

الحمد لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا ند له ولا ولد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد وبعد فهذه أمثلة وسطور من نور للنبي  صلى الله عليه وسلم ـ والصحب الكرام لذا فقد زكاهم الله تبارك وتعالى في غير  ما آية من كتابه،  كما قال تبارك وتعالى: }محَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ ۖ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا ۖ سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ۚ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ ۚ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ ۗ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا}( الفتح : 29 )

هكذا زكَّاهم الله في جهادهم ، في صلاتهم ، في سبقهم وسباقهم ، وإمامهم وأمامهم محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إنهم أناس  بذلوا وقدَّموا كل شيء ، ولسان حالهم يقول : " أنني أعطيت ، ما استبقيت شيئًا "                        

علينا عباد الله أن نشكر نعم الله علينا ، فالعبد إذا ما شكر نعمة الله وأدى شكرها فلن يسأل عنها نعم الله تعالى ، وإنما يسأل عنها من لم يؤد شكرها.

 ومن شكر نعم الله تبارك وتعالى أن نسخرها لطاعة الله ،  وأن نغتنم هذه النعم التي في مساجدنا بطاعة الله تبارك ، وبالحرص على السبق والسباق إلى الجمع والجماعات ، فهذا من شكر نعم الله تبارك وتعالى.
أن نكون أصدق الناس إلى السبق وإلى المبادرة إلى الصلاة في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها اسمه جعل الله من علامات الإيمان تعمير المساجد قال الله تبارك وتعالى:
}إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ ۖ فَعَسَىٰ أُولَٰئِكَ أَن يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ{ ( التوبة : 18 )

تأمل أخي في بدء الآية وفي ختام الآية ، بدايتها ( إنما يعمر مساجد الله.... )لا، وختامها ( فعسى أولئك أن يكونوا من المهتدين ) فدل ذلك على أن تعمير المساجد من أعظم أسباب هداية العبد ‘إلى صراط الله المستقيم.
إلى الذين يبحثون عن الهداية، فالهداية رزق تحتاج إلى سعي ، كما أن المال رزق يحتاج إلى سعي، فالهداية لن تأتيك على طبق من ذهب ، وإنما لابد لها من سعي، فمن هنا ، من بيوت الله -تعالى- ضربة الهداية ، ومن هنا ضربة البداية.

اللهم إهدنا فيمن هديت وعافنا فيمن عافيت وتولنا فيمن توليت بارك لنا ربنا فيما أعطيت اللهم لا تدع لنا في هذا اليوم العظيم ذنبًا إلا غفرته ولا همًا إلا  فرجته ولا دينًا إلا قضيته ولا ميتًا إلا رحمته ولا مريضًا إلا شفيته ولا حاجة لك فيها رضا ولنا فيها منفعة إلا يسرتها وقضيتها يا رب العالمين اللهم من علينا بطول الأجل وستر الزلل وحسن العمل اللهم أهدنا إلى خير الأخلاق والأرزاق لا يهدي لخيرها إلا أنت وأصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت اللهم إنا نعوذ بك من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء اللهم ألحقنا بمحمد وصحبه الكرام في جنة الفردوس من غير حساب ولا سابقة عذاب ونظر وجوهنا بالنظر إلى وجهك الكريم.
                                                       وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply