الإمام الشوكاني


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
** محمد بن علي الشوكان الصنعاني اليمني، نسبة إلى قرية شوكان أحد قرى اليمن، ونشأته بصنعاء عاصمة اليمن السعيد.

** أسرته أسرة علم وقضاء، احتلت مكانة سياسية مرموقة في عهد الأئمة الزيديين، لمناصرتها لهم في حروبهم ضد الأتراك.

** كان أبوه من حفظة القرآن وارتحل إلى صنعاء لطلب العلم، ثم بدأ في التدريس بجوامعها ثم زاول الإفتاء والقضاء.

وقد قال الشوكاني عن كريم خصاله وتعففه: «والحاصل أنه على نمط السلف الصالح في جميع أحواله»   

ويعتبر والد الشوكاني أول شيوخه ومن تلقى عليهم العلم، ثم توسع في نهل العلم من شيوخ صنعاء.

** نشأ الشوكاني نشأة طبيعية، وكان وهو صغير يلعب مع أقرانه من الصبيان، واتفق أن مر عليه يوما شباب من فوقه سنا وكانوا يطلبون العلم، فقالوا له: أنت ابن القاضي ونحن نطلب العلم، وأنت تلعب مع الصبيان، فقال لهم: أنا إن شاء الله أطلب العلم طلبا لم تطلبوه.

** وبعد حفظه القرآن شرع في طلب العلم، حيث وجد بيئة علمية غزيرة -عامرة بالشيوخ في صنعاء التي لم يغادرها- مكنته من سهولة الطلب، فقد ذكر الشوكاني في سياق حديثه عن شيخه الحسن بن إسماعيل المغربي: «وكان رحمه الله يقبل علي إقبالا زائدا، ويعينني على الطلب بكتبه، وهو من جملة من أرشدني إلى شرح المنتقى (كتاب لجد شيخ الإسلام ابن تيمية المشهور) وشرعت في حياته، بل شرحت أكثره، وأتممته بعد موته، وكان كثيرا ما يتحدث في غيبتي أنه يخشى علي من عوارض العلم الموجبة للانشغال عنه، فما أصدق حدسه، وأوقع فراسته، فإني ابتليت بالقضاء بعد موته بدون سنة».

** ومن أجل شيوخه أيضا العلامة «محمد بن إبراهيم الوزير»، الذي يقول عنه الشوكاني: «فهو إمام الناس في التبحر في جميع المعارف والوقوف على الدليل، وعدم التعويل على ما يخالفه من القال والقيل، وقد نفع الله به من جاء بعده».

يذكر أن من أهم مؤلفات ابن الوزير: «العواصم والقواصم في الذب عن سنة أبي القاسم»، «إيثار الحق على الخلق»، «الروض الباسم في الذب عن سنة أبي القاسم».

** لقد نهل الشوكاني ما في كنانات أهل عصره من العلوم، حتى استوعبها وصار مالك زمامها، وشارك مشايخه، ولما أخذ عن كل واحد منهم ما عنده هم بالارتحال وتعويض الرجال لتحصيل ما لم يجده عند مشايخ صنعاء، فبينما هو يقوم رجلا ويؤخر أخرى، إذ بلغ أمر تردده الإمام العلامة المتبحر الأوحد السيد عبد القادر الكوكباني، وكان ذلك عقيب وصوله من كوكبان إلى صنعاء، فأرسل إليه يقول له: إنه بلغني عنك أنك تريد الارتحال عن وطنك، لتحصيل علم ما لم يكن عن مشايخ زمانك، وها أنا بغيتك وعلى الخبير وقعت. فذهب إليه الشوكاني -خاصة وان أبواه لم يأذنا له في مغادرة صنعاء- فقرأ عليه ونهل من علمه... وكان الشوكاني يرى أنه لم يكن في اليمن له نظير.

** ومن شيوخه علي بن هادي عرهب الذي وصفه الشوكاني بقوة الفهم وسرعة الإدراك وتحقيق المباحث الدقيقة وعدم التقليد والاجتهاد بالرأي والإحاطة بعلوم الاجتهاد والزيادة عليها.

** وقد قضى الشوكاني معظم عمره في طلب العلم والتدريس، حيث بلغت دروسه في اليوم والليلة ثلاث عشر درسا، وزاول القضاء الأكبر، والعمل الوزاري ورئاسة الفتوى، فتمكن من تطبيق جانب من آرائه وأفكاره.

** لقد أدى التغريب التربوي إلى وجود واقع تربوي لا هوية له، في حين أن الأمة الإسلامية في حاجة إلى العودة إلى مناهل الفكر التربوي الإسلامي المنسجم مع عقيدتها وثقافتها وواقعها.

وقد أشار مؤتمر بيروت للتربية الإسلامية (21مارس1981) إلى مخاطر التغريب الثقافي لا على البلاد العربية والإسلامية فحسب، وإنما على العالم المتقدم نفسه، وبين المشتركون أن مما يزيد في خطورة التغريب والتبعية للنموذج الحضاري الأجنبي في الغرب والشرق، أن هذا النموذج وصل إلى طريق مسدود، وفشل في بناء مجتمع جديد للإنسان.

ولأن الفكر التربوي يعتمد على الشخصيات (المفكرين التربويين) كوسيلة لعلاج ظاهرة التغريب، فلعل ما في تراثهم الحي من أفكار وآراء ما يغنينا عن الاستيراد من الخارج

** كان الإمام محمد بن علي الشوكاني من نماذج الفكر المتجدد في عصره، وصاحب فكر تربوي متميز يتصل بالطبيعة الإنسانية والمعرفة والمجتمع، وآرائه حافلة بالاتجاهات التربوية المعاصرة.

والشوكاني (زيدي المذهب) ولكنه خلع ربقة التقليد لمذهبه، وعمره لا يزيد على الثلاثين، وأصبح من كبار المجتهدين المتأخرين. فهو نموذج من نماذج اليقظة الإسلامية المعاصرة.

وكان الشوكاني معاصرا للشيخ محمد بن عبد الوهاب ومتناغما مع دعوته، بل وسابقا لسائر رجال اليقظة الإسلامية الحديثة.

حتى أن أحمد أمين صاحب كتاب «زعماء الإصلاح في العصر الحديث» اعتبر الشوكاني ممثلا لدعوة محمد بن عبد الوهاب وإن لم يتلقاها عنه.

ويعتبر محمد صديق خان واحدا من تلاميذ الشوكاني، فقد كان هذا المفكر أمير لمملكة «بهويال» بالهند، وكان مهتما بنشر تراث أستاذه.

ويمكننا اعتبار الشوكاني أحد أعلام ورواد المدرسة السلفية الاجتهادية التي تنبذ التقليد وتأخذ بأرجح الأدلة من أي مذهب كان وفق أصول الكتاب والسنة الصحيحة الثابتة.

 ** يقول الشوكاني في كتاب «أدب الطلب»: كنت بعد التمكن من البحث عن الدليل والنظر في مجاميعه أذكر في مجالس شيوخي ومواقف تدريسهم وعند الاجتماع بأهل العلم ما قد عرفته من ذلك لاسيما عند الكلام في شيء من الرأي مخالف الدليل أو عند ورود قول عالم من أهل العلم قد تمسك بدليل ضعيف وترك الدليل القوي أو أخذ بدليل عام وبعمل خاص أو بمطلق وطرح المقيد أو بمجمل ولم يعرف المبين أو بمنسوخ ولم ينتبه للناسخ أو بأول ولم يعرف بآخر أو بمحض رأي ولم يبلغه أن في تلك المسألة دليلا يتعين عليه العمل به فكنت إذا سمعت بشيء من هذا لاسيما في مواقف المتعصبين ومجامع الجامدين تكلمت بما بلغت إليه مقدرتي، وأقل الأحوال أن أقول استدل هذا بكذا وفلان المخالف له بكذا ودليل فلان أرجح لكذا، فمازال أسراء التقليد يستنكرون ذلك ويستعظمونه لعدم الفهم به وقبول طبائعهم له حتى ولد ذلك في قلوبهم من العداوة والبغضاء ما الله به عليم.

** وقد ألف الشوكاني رسالة بعنوان: «القول المفيد في أدلة الاجتهاد والتقليد» وفيها عرف التقليد فقال: قبول قول الغير من دون مطالبة بحجة.

وقال: وشأن المقلد أن لا يبحث عن دليل بل يقبل الرأي، ويترك الرواية، ومن لم يكن هكذا فليس بمقلد.

وقال: فلو لم يكن من شؤم هذه التقليدات، والمذاهب والمبتدعات، إلا مجرد هذه الفرقة بين أهل الإسلام مع كونهم أهل ملة واحدة ونبي واحد وكتاب واحد، لكان ذلك كافيا في كونها غير جائزة.

وناقش الشوكاني مقولة أن سؤال أهل الذكر هو سؤال من لا علم له لأهل الذكر الأعلم منه، مما يفيد جواز التقليد .. ورد عليها بما يفيد أنها تعني سؤال أهل القرآن والسنة، وهذا ليس بتقليد لأنه تجاوز للسؤال عن مذهب المقلد.

وفسر سؤال آية الذكر بأنها قد نزلت ردا على المشركين الذين أنكروا كون الرسول -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مبشرا، كما ذهب إلى ذلك السيوطي في الدر المنثور، قال تعالى: {وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} [الأنبياء:7]       

** ويلخص الشوكاني قضية التقليد المذموم والتعصب للمذاهب بقوله: فإن قلت فما الطريقة المنجية إذن؟ قلت طريقة خير القرون ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم، وهي العمل بحكم الكتاب والسنة، والوقوف عن متشابهها، كما أمرك الله، من دون محاباة على مذهب، فيكون مذهبك الإسلام جملة، وسلفُك ومحاماتُك على الكتاب والسنة، فإن كنت لهذه النصيحة أهلا فعض عليها بالنواجذ، فإني قطعت شطرا من عمري في تحقيق الدقائق، وتدقيق الحقائق، ولم أقف على منهل، فتارة أخوض معارك علم المعقول، وحينا أمارس دقائق فحول أئمتنا أئمة الأصول، وآونة أرتب البراهين، وأركب القوانين، وبعد هذا كله تراجع اختياري إلى الاستحسان ما إليك أرشدتك، أرشدني الله وإياك.
                                                            وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

 

المصادر

** الإمام الشوكاني، حياته وفكر .. الدكتور عبد الغني قاسم، رئيس قسم أصول التربية بجامعة صنعاء.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply