الطب النفسي من النبع الصافي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

العلم أقسامه كثيرة، وأجلُّ العلوم، وأفضلها، وأزكاها، وأشرفها: العلم بالله عز وجل، وأسمائه، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، فبه يعبد المسلم ربه على علم وبصيرة، وبه تستقيم القلوب، وتزكو الأخلاق، وتصح الأعمال، وبه يسعد الإنسان في دنياه وآخرته.

وهذا العلم أصل كل علم، وما سواه من العلوم إما أن يكون وسيلة إلى خير، وإما أن يكون وسيلة إلى شر، ومن العلوم التي هي وسيلة إلى خير: علم الطب، فهو من أفضل العلوم، قال الإمام الشافعي رحمه الله: لا أعلم علمًا بعد الحلال والحرام أنبل من الطب إلا أن أهل الكتاب قد غلبونا عليه.

وعلم الطب قسمان: طب أبدان، وطب نفوس، وإذا كان طب الأبدان مهم لأنه وسيلة لعلاج الأجساد من أمراضها الحسية، فإن طب النفوس مهم كذلك، لأنه وسيلة لعلاج النفوس من أدوائها النفسية، فالأمراض النفسية لها آثار ضارة على المُصاب بها، قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهل العذاب إلا عذاب القلب، وأي عذاب أشدّ من الخوف، والهم، والحزن، وضيق الصدر. وقال العلامة ابن عثيمين رحمه الله: ليس في الحقيقة العذاب ألم البدن فقط، أنا عندي وعند كُل الناس أن العذاب المهين هو ألمُ القلب والنفس، هذا أشدُّ وأعظمُ، فالعذاب العظيم في الحقيقية هو عذاب القلب.

فالطب النفسي علم مهم، وفي عصرنا هذا تزداد أهميته، نتيجة لزيادة كثرة المصابين بالأمراض النفسية، وتنوع وتعدد الأمراض النفسية.

الأمراض النفسية تكثر وتنتشر كلما ابتعد الإنسان عن أحكام الإسلام، وآدابه، ولهذا تنتشر هذه الأمراض وتكثر عند الكفار، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم، يقول العلامة عبدالرحمن البراك: بقدر بعد الناس عن شرع الله تعالى يكون شقاؤهم، وبقدر تمسكهم بشرع الله تكون سعادتهم.

ورغم كثرة وتنوع مدارس ونظريات علم النفس عند الكفار، فلم تنجح في علاج مرضاهم من عللهم وأمراضهم النفسية، فأعداد مرضاهم النفسيين في ازدياد، وأمراضهم النفسية تتكاثر وتتنوع، يقول الدكتور محمد عثمان نجاتي: قد بذلت جهود كبيرة في ميدان العلاج النفسي للإفراد الذين يعانون من اضطرابات الشخصية والأمراض النفسية، وظهرت في هذا الميدان أسالب مختلفة للعلاج النفسي، غير أنها جميعًا لم تحقق النجاح المرجو في القضاء على الأمراض النفسية أو الوقاية منها. ويقول د/محمد عبدالفتاح المهدي: ومع ذلك لم تثمر جهودهم إلا زيادة في أعداد المرضى النفسيين، وتقول الدكتورة طريفة بنت سعود الشويعر: لقد تفشت الأمراض النفسية في هذا العصر، حتى كادت أن تصبح الصفة الغالبة لأبنائه، بحيث أصبح اضطراب النفس وتوترها يسيطر على كثير من مظاهر سلوكها,...وهناك كثير من الدراسات والأرقام التي تطالعنا بها الدراسات المختلفة عن العديد من الأمراض النفسية...ولو تساءلنا عن ماهية الدلالة المنطقية لكل هذه المظاهر...رغم الاعتماد على العديد من الوسائل العلاجية المتبعة...سواء كانت هذه الوسائل تحليلًا نفسيًا أم علاجًا بالكيمياء أو عن طريق العقاقير، أو غيرها، ولو استعرضنا أهم الاتجاهات الحديثة في علاج الاضطرابات النفسية...لاستخلصنا حقيقة هامة، وهي أن الأمراض النفسية تتكاثر أشكالها يومًا بعد يوم وهذا مما يدلنا على عدم كفاية وسائل العلاج الحديث.

وعندما نقلت تلك النظريات والمدارس إلى بلاد المسلمين بحذافيرها، كانت النتيجة أنها لم تثمر في علاج الأمراض النفسية للمسلمين، ولذلك فنجن بحاجة إلى إعادة النظر فيها، وذلك بإعادة صياغتها من جديد من النبع الصافي، من نصوص القرآن الكريم وأحاديث السنة النبوية، ومن أقوال علماء سلف هذه الأمة، ففيها كنوز نادرة لمن بحث عنها، يقول أستاذ علم النفس الدكتور صالح بن إبراهيم الصنيع: يحتوى التراث الإسلامي ثروة علمية في كثير من المجالات، وتحتاج هذه الثروة إلى جهود من العلماء المسلمين لإبرازها، والاستفادة منها في وقتنا الحاضر. والعلوم الإنسانية بشكل عام، وعلم النفس بشكل خاص، بحاجة ماسة للاستفادة من هذه الثروة في مجال اختصاصها.

ويقول الدكتور سهل بن رفاع بن سهيل العتيبي: نصيحتي لعلماء النفس من المسلمين أن يأخذوا من المصدر الأصيل الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولا يتطرق إليه شك، كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم الاستشهاد بأقوال وفهم العلماء الربانيين من سلف هذه الأمة الصالح، فهذا هو الطريق الصحيح لمن أراد إخراج علم نفس ينطلق من المنهج الشرعي.

إن الإنسان مهما بلغ من علم وذكاء ونبوغ ومواهب وقدرات لن يستطيع بتلك الأدوات وحدها معرفة نفسه، وإيجاد حلول لمشاكلها، وذلك لجهل الإنسان بحقيقة نفسه، فالله جل جلاله خالق هذا الإنسان هو العالم به، يقول الدكتور ناصر بن عبدالله بن ناصر التركي: لا بد لمن يتصدى لوضع هذا المنهج أن يكون عالما بحقيقة الإنسان، وليس هناك سوى الله، لأنه خالقه، وهو أعلم به قال الله تعالى: (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك:14]

ويقول الأستاذ/ خليل محمد خليل: النفس مخلوق عجيب، وكائن غريب، بما ركب فيها من ملكات متنوعة، وغرائز شتى، لا يقدر على علاجها وإصلاحها، وتقويمها، وإشباع رغباتها، إلا من خلقها، (ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير) [الملك:14] فمن رام علاجًا للأمراض النفسية فعليه بالرجوع إلى القرآن الكريم، وإلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إلى كتب أهل العلم، الذين تكلموا عن النفس، وأمراضها، وعلاج تلك الأمراض. ومنهم:

** شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، فهو يربط بين السعادة الحقيقية في الدنيا وبين تحقيق الإيمان بأركانه السته، ويركز على أن القلب لا يمكن أن يجد الحلاوة واللذة والسرور والبهجة إلا بمعرفة الله عز وجل، ومحبته، وعبادته، والتوكل عليه، وأنه كلما قوى التوحيد امتلأ القلب سكينة، وطمأنينة، وفرحًا، وسعادةً، وكلامه مبثوث في مواضع من كتابه " مجموع الفتاوى " وفي غيره من كتبه.

** ومنهم: العلامة ابن القيم رحمه الله، فمما ذكره: أن النفوس ثلاثة أقسام: سماوية علوية، وسبعية غضبية، وحيوانية شهوانية، وأن الملائكة أولياء لأصحاب النفوس السماوية العلوية، وأن الشياطين أولياء لأصحاب النفوس السبعية الغضبية، وتكلم عن النفس المطمئنة، والنفس اللوامة، والنفس الأمارة بالسوء، وذكر أن مجاهدة النفس يُذهب أخلاقها المذمومة، كما تكلم عن الحزن والخوف وأثرها على النفس، وأسباب دفعها وذكر أدوية لإزالتها، وذكر أسباب شرح الصدر، وأن أشرح الناس صدرًا، أتبعهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كما تكلم عن الحياة الطيبة، وذكر أن الأدوية الروحانية لها تأثير في دفع العلل، وحصول الشفاء أعظم من الأدوية الطبيعية، وأن القرآن شفاء لكل الأدواء، وأن الدعاء والإلحاح فيه من أنفع الأدوية.

 

وقد تكلم عن ذلك في كتبه التالية: طريق الهجرتين وباب السعادتين، الداء والدواء، الفوائد، الروح، مفتاح دار السعادة، الكلام على مسألة السماع، زاد المعاد في هدى خير العباد، التبيان في أيمان القرآن، روضة المحبين ونزهة المشتاقين.

** ومنهم: الإمام ابن حزم، رحمه الله، في كتابه: " مداواة النفوس وتهذيب الأخلاق والزهد في الرذائل

** ومنهم: الحافظ ابن الجوزي، رحمه الله في كتابيه " ذم الهوى" ، و "صيد الخاطر".

** ومنهم العلامة السعدي رحمه الله، في رسالته: "الوسائل المفيدة للحياة السعيدة"

** ومنهم العلامة محمد بن صالح العثيمين، رحمه الله، فله كلام كثير مبثوث في العديد من مصنفاته عن أسباب الأمراض النفسية، وعن طرق علاجها.

وإذا ما شمر المتخصصون في علم النفس من المسلمين، عن سواعدهم، وبذلوا الجهد والوقت، ورجعوا إلى الآيات والأحاديث التي تحدثت عن النفس وهي كثيرة، ورجعوا إلى ذكره أهل العلم الربانيين حول معانيها وتفسيرها وشرحها، ورجعوا إلى كلام أهل العلم عن النفس وعللها وطرق علاجها، فسوف يجدون فيها، ما ينير لهم الدرب في وضع أسس لعلم نفس مستقى من النبع الصافي. ومن استقى من هذا النبع الصافي فسوف يجد فيه العلاج الشافي لجميع الأمراض النفسية.

اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا، وزدنا علما.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply