بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وأطيعوهُ؛ وراقبوه ولا تعصوه، وحاسِبوا أنفسَكم قبل أن تحاسَبوا، وتأهَّبوا للعَرض الأكبرِ على الله .. {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}، {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الأَلْبَابِ} ..
معاشر المؤمنين الكرام: جاءَ في سِيرِ أعلامِ النُبلاءِ قِصةَ مُناظرةٍ رائعةٍ، حدثت بين يدي الخليفةِ العباسي الواثِق، حين كانت فِتنةُ القولِ بخلق القرآنِ على أشدِّها، وحدثت هذه المناظرةُ بين الشيخِ عبد الله بن محمد الآذرمي وبين زعيم القائلين بخلق القرآن في ذلك الوقت أحمد ابن أبي دؤاد .. حيثُ جيء بالشيخ الآذرمي مقيداً بالسلاسل، فأدخل على الخليفة، فلما سلَّم قال له الواثق: اجلس لتُناظِرَ ابن أبي دؤاد .. فقال الشيخُ الآذرمي: يا أحمدُ ما تقولُ في القرآن؟ .. قال أحمد: أقول أنه مخلوقٌ .. قال الشيخُ الآذرمي: فأخبرني يا أحمدُ عن مقالتك هذه, أهيَ مَقالةٌ واجبةٌ، فلا يكونُ المسلِمُ مُسلماً حتى يقول بها ؟ قال أحمدُ: نعم .. فقال الشيخُ: فأخبرني يا أحمد هل أخفى رسولُ اللهِ ﷺ شيئاً مما أمرهُ اللهُ بتبليغه ؟ فقال أحمد: لا .. فقال الشيخ: فهل دعا رسولُ اللهِ ﷺ الأُمَّةَ إلى مقالتك هذه ؟ فسكت ابن أبي دؤاد, فقال الشيخ: تكلَّم يا أحمد، فما استطاع أن يُجيب بشيءٍ, فالتفتَ الشيخُ إلى الواثِق وقال: يا أمير المؤمنين واحِدة, فقال الواثقُ: واحِدة .. قال الشيخُ الآذرمي: فأخبرني يا أحمد حين قالَ اللهُ تعالى في كتابه الكريم: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْأِسْلامَ دِينـاً}، فهل صدقَ اللهُ تعالى في إكمالِ دينهِ وإتمامِه, أم أنَّ الدينَ ناقصٌ حتى تُتِمَّهُ بمقالتك هذه .. فسكتَ ابن أبي دؤاد, فقال الشيخ: أجب يا أحمد, فلم يُجب بشيءٍ، فقال الشيخ: يا أمير المؤمنين اثنتان .. فقال الواثِق: نعم اثنتان .. قال الشيخُ: فأخبرني يا أحمدُ هل علِمَ رسولُ اللهِ ﷺ وخُلفاؤه الراشدون بمقالتك هذه أم لم يعلَمُوا بها ؟ قال أحمد: لم يعلَمُوا بها، قال الشيخ: يا سبحان الله، شيءٌ لم يعلَمهُ رسولُ اللهِ ﷺ ولا خلفاؤه الراشدونَ علِمتهُ أنت!، فخجل ابن أبي دؤاد وقال: بل علِموها .. قال الشيخ: فهل حين علِمُوها، عمِلوا بها، أم تركوها؟ فسكت أحمد .. قال الشيخ يا أمير المؤمنين ثلاث .. قال الواثِقُ: نعم ثلاث .. فقال الشيخُ: فأخبرني يا أحمد حين علِمَ الرسولُ ﷺ وخُلفاؤهُ الراشدون بهذه المقالةِ، فهل وسِعَهُم أن يسكُتوا عنها, ولم يُطالِبوا الأمَّة بها ؟ قالَ ابن أبي دؤاد: نعم .. فأقبلَ الشيخُ على الخليفة الواثِق وقال: يا أميرَ المؤمنين أفلا يَسَعُنَا ما وسِعَ النبيَ ﷺ وخُلفاؤهُ الراشِدون، فلا وسَّعَ اللهُ على من لم يتسِع لهُ ما اتسَعَ لهم .. فأخذَ الواثقُ يُحدَّثُ نفسهُ قائلاً: شيءٌ لم يعلَمهُ النبيُ ﷺ ولا خُلفاؤه الراشدون، علِمتهُ أنت, يا سبحان الله! .. شيءٌ علِموه ولم يدعوا الناس إليه، أفلا وسِعَك ما وسِعهم .. ثم صاحَ بالجنود فكُّوا قيودَ الشيخ، ومنذ ذلك الحين انتهت بفضل الله تلك البِدعةُ المنكَرةُ التي دامت طويلاً ..
ونحن بدورنا نوجِهُ هذه الأسئلةَ لكل صاحبِ بدعةٍ كائنةً ما كانت، ونقولُ لهُ بدعتُك هذه علِمها رسولُ الله ﷺ وخُلفاؤه الراشِدون أم لم يعلَموها ؟ فإن قال لا لم يعلَموها، نقول: يا سبحان الله كيف علِمتَ أمراً خفيَ على النبي ﷺ وخلفاؤه الراشدون .. وإن قال: نعم علِموها، نقولُ: له فهل دعــوا الناس إليها؟ أم سكتوا عنها؟ فإن قال: دعوا الناس إليها، نقول فأين الدليل، وإن قال: سكتوا عنها، نقول له: فيسعُنا ما وسِعَهم، فما تركوهُ نتركه، وما فعلوه نفعله، وما سكتوا عنهُ نسكُتُ عنه ..
أحبتي الكرام: لقد كانت بعثةُ النبي ﷺ رحمةً بعد ظلماء، ونوراً بعد جهالة جهلاء، وجمعًا بعد شتات، وحياةً بعد ممات، وصدق الله: {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ}، وإِنَّ لِرَسُولِنا ﷺ عِنْدَ رَبِّهِ لشَأْنٌ عَظِيمٌ، فَقَد اِخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى عَلَى جَمِيعِ البَشَرِ وَاِصْطَفَاهُ، وزكى خلقهُ وربَّاه، وشرحَ صدرهُ وهداه، ورضيَ عنهُ وأرضاه، ورفعَ اسمهُ وأحيا ذكراه .. فالمؤذنونَ على مدار اللحظة والثانية، لا يتوقفون أبداً عن ذكر اسمهِ، كلمَّا توقفَ مؤذنٌ بدأ الآخر، وَالـمُسْلِمُ يَذْكُرُ اِسْمَ نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ ﷺ في كُلَّ يَوْمٍ ما لا يقلُ عن مائة وثمانينَ مرةً .. ثَمَانٌ وَثَلَاثِينَ مَرَّةً فِي الصَّلَوَاتِ الخَمْسِ؛ وَخَمْسَ عَشْرَةَ مَرَّةً فِي الأَذَانِ وَالإِقَامَةِ، وَعَشْرَ مَرَّاتٍ فِي الدُّعَاءِ بعد الأَذَانِ، وَعَشْرَ مَرَّاتٍ فِي دُعَاءِ الدُّخُولِ إِلَى الـمَسْجِدِ وَالخُرُوجِ مِنْهُ، وَعشرَ مَرَّاتٍ عَقِبَ الوُضُوءِ، وَثَمَانٍ وَأَرْبَعِينَ مَرَّةً فِي السُنَنِ الرَّوَاتِبِ، وَاثْنَتِي عَشْرَةَ مَرَّةً فِي صلاة الليل، وَسِتًا وَثَلَاثِينَ مَرَّةً في أَذكار الصَّبَاحِ وَالـمَسَاءِ، خلافاً لذكره في الأحاديث الشريفة، والتي لا تدخلُ تحتَ العدِّ والحصر، فهذا صنعُ اللهِ تعالى لنبيه ﷺ: {وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ} .. فمن أراد أن يعبرَ عن حبه للنبي ﷺ، فعليه بكثرة الصلاة والسلام عليه .. نعم أيها الكرام: فحبُّ هذا النبي العظيم ﷺ اتباعٌ لا ابتداع، امتثالٌ لا احتفال، حبه ﷺ ليس مناسبةً مؤقتة، بل هي عبادةٌ مستمرةٌ من أجلِّ العبادات، كما أنَّ طاعتهُ ودِقة اتباعهِ هِدايةٌ من أعظمِ الهدايات، قال تعالى: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا} .. وَإِذَا كُنَّا نُحِبُّهُ حَقَّاً ونطيعهُ صدقاً فَإِنَّهُ ﷺ حَذَّرَنَا أَنْ نُقَلِّدَ النصارى فِي إطرائهم لنَبِيِّهِمْ، فَقَالَ ﷺ: "لَا تُطْرُونِي كَمَا أَطْرَتِ النَّصَارَى عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ، فَإِنَّمَا أَنَا عَبْدُ فقولوا: عبدُ اللهِ وَرَسُولُهُ"، وقَالَ ﷺ: (مَنْ أَحْدَثَ فِي أَمْرِنَا هَذَا مَا لَيْسَ مِنْهُ فَهُوَ رَدٌّ) والحديثان في صحيح البخاري ..
ولا شك يا عباد الله أنَّ القلوبَ مُجمِعةٌ على حُبِّ المصطفى ﷺ، ولكن الأهمَّ هو كيفَ نعبرُ عن هذا الحبِّ بطريقةٍ شرعيةٍ صحيحة .. تأمَّلوا قوله تعالى: {قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} .. فالاتباعُ إذن هو برهانُ المحبةِ الصحيحة .. وإذا بحثتَ في حياتنا عن هذا البرهان، فالله المستعان، لأن حياتنا في أغلب مظاهرها مخالِفةٌ لهديه وسنتهِ ﷺ، بعيدةٌ عن منهجه وطريقتهِ .. نعم أيها الكرام: نحنُ نخالفُ هدي المصطفى ﷺ في كثيرٍ من تصرفاتنا، ولا نطبقُ كثيراً من هديه وسنته في حياتنا .. فأين الدليلُ العمليُ على صدق ما ندَّعِيه من المحبة، كم من المسلمين اليوم يسمعُ كلامَ اللهِ وكلامَ رسوله ﷺ .. يعيهِ ويفهمهُ جيداً، حتى إذا خرجَ من المسجد، كأنهُ لم يسمع ولم يفهم شيئًا .. كم من سُنةٍ من سُنن المصطفى ﷺ نعلمُها جيداً، ولكننا لا نطبقها ولا نعمل بها، ولا نُعلِمُها حتى لأقرب الناس لنا ..
وإذا فتشت عن واقع الحال، وجدت أننا مشغولون بمحبوبين آخرين، نُطاردُ أخبارهم، ونتتبَّعُ آثارهم، ونُعجبُ بأفعالهم، ونقلِدَهُم حتى في أدقِ تصرفاتهم ..
معاشر المؤمنين الكرام: إن على الأمَّة واجبٌ كبيرٌ نحو نبيها العظيم .. يتمثلُ في طاعتهِ واتباعِ هديهِ، فقد أرسلهُ الله تعالى ليطاع ويُتَّبع, فقال سبحانه: {وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللّهِ}، بل إنَّ اللهَ حصرَ الهدايةَ في طاعته فقال: {وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا}، وجعلَ الفتنةَ والعذابَ في مخالفة أمرهِ, فقال: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} ..
وحين يقولُ الرسولُ العظيمُ مُحذراً ومُوصياً: فإنهُ من يعش مُنكم فسيرى اختلافاً كثيراُ، فعليكم بسنتي وسنةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديينَ من بعدي تمسَّكوا بها وعَضُّوا عليها بالنواجذ وإياكم ومُحدثاتِ الأمورِ فإنَّ كلَّ محدثةٍ بدعةٌ، وكلُّ بدعةٍ ضلالة” .. فهو ﷺ لا ينطقُ عن الهوى، فقد وقعَ اختلافٌ كثيرٌ .. فلا بدَّ أن يقابلهُ اجتهادٌ في التمسك بهديه القويم، والعضُ بالنواجذِ على سنَّته الشريفة ...
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم .. بسم الله الرحمن الرحيم: {أَفَمَن زُيّنَ لَهُ سُوء عَمَلِهِ فَرَءاهُ حَسَناً فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاء وَيَهْدِى مَن يَشَاء فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرٰتٍ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُون} ..
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ..
معاشر المؤمنين الكرام: لَقَدْ جَمَعَتْ شَرِيعَةُ الإسْلامِ المحَاسِنَ كُلَّهَا، فَحَفِظَت الدِّينَ، وحَرَسَت العُقُولَ، وطَهَّرَت الأموَالَ، وصَانَت الأعرَاضَ، وأَمَّنَت النُّفُوسَ، وما من خَيرٍ إلا ودلت عليه، وما من شَرٍّ إلا وحذَّرت منه .. والحقُّ جلَّ وعلا يقول: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ} .. وطاعةُ ولاةُ الأمرِ إنما تكونُ فيما يتعلقُ بتنظيم أمورِ الدولة، وما يعودُ بالمصلحة على حياة الناسِ ومعاشِهم بشكلٍ عام، ويجلبُ المنافعَ والمصالح، ويدرءُ المفاسدَ والشرور، ومن ذلك تنظيمُ الجوازات والمرور، وشؤون البلديات، وأمورِ التجارة، ونحوها من المصالح العامة .. ومعلومٌ أنَّ تَشْغِيلَ العَمَالَةِ بصُورةٍ غَيرِ نِّظَامِيَّة، والتَّسَتُّرِ عَلَيْهِم؛ مُخَالَفَةٌ لِلنِّظَام، ومَعْصِيَةٌ لِوَلِيِّ الأَمْر .. بينما الواجبُ المحافظة على الأمنِ والنِّظامِ والمصلحةِ العامة، فهي مَسْئولِيَّةُ الجَمِيع، ويَجِبُ التَّعاوُنُ للمُحَافَظةِ عليها، قال تعالى: {وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ شَدِيْدُ الْعِقَابِ} ..
أَلا فَاتَّقُوا اللهَ عباد الله، وأطيعوا الله ورسوله وأولي الأمر منكم، وكونوا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .. بذلك تبرهنون على صدق محبتكم للمصطفى ﷺ، وكلما ازدادت المتابعة ازدادت المحبة، ومن أحبَّ قوماً حشر معهم .. ففي محكم التنزيل: {فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ} ..
ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه ...
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد