سياسة النفوس من درر السلوك للإمام الماوردي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

فلا يخفي أهمية مجاهدة الإنسان لنفسه، لأنه إن لم يفعل ذلك فإنها قد تورده المهالك، فالإنسان ذا غفل عن مجاهدة نفسه زينت بفعل الأعمال السيئة، فلا بد من دوام المراقبة، وعدم الغفلة عنها، ولذلك وسائل متعددة، منها: القراءة في كتب أهل العلم الذين تكلموا عن سياسة النفس، وممن تكلم عن ذللك الإمام الماوردي، رحمه الله، فله كتاب بعنوان " درر السلوك في سياسة الملوك " ضمنه فصلاً نافعاً عن سياسة النفس، وقد يسر الله الكريم لي فانتقيت بعضاً مما ذكره، أسأل الله أن ينفعني والجميع بما جمعت وانتقيت.

إصلاح الأخلاق المذمومة بالتأديب والتدرج:

اعلم أن الإنسان مطبوع على أخلاق قلّ ما حُمد جميعها، أو ذُم سائُرها، وإنما الغالب أن بعضها محمود، وبعضها مذموم، قال الشاعر:

وما هذه الأخلاقُ إلا طبائع          فمنهن محمود ومنها مذمــــم

وليس يُمكن صلاح مذمومها بالتسليم إلى الطبيعة,...إلا أن يرتاض لها رياضة تأديب، وتدرج، فيستقيم له الجميع.

 

البداية تكون بسياسة الإنسان نفسه:

إذا بدأ الإنسان بسياسة نفسه كان على سياسة غيره أقدر، وإذا أهمل مراعاة نفسه كان بإهمال غيره أجدر قال بعض الحكماء من بدأ بسياسة نفسه أدرك سياسة الناس

وقد قيل في منثور الحكم: لا ينبغي للعاقل أن يطلب غيره، وطاعة نفسه ممتنعة.

 

عدم إحسان الظن بالنفس، والرضا عنها:

ربما حَسُن ظن الإنسان بنفسه فأغفل مراعاة أخلاقه، فدعاهُ حُسن الظن بها إلى الرضا عنها، فكان الرضا عنها داعياً إلى الانقياد لها ففسد منه ما كان صالحاً، ولم يصلحُ منها ما كان فاسداً، لأن الهوى أغلبُ من الآراء، والنفس أجور من الأعداء، لأنها بالسوء أمارة، وإلى الشهوات مائلة.

ولحسن الظن بها أسباب فمن أقوى أسبابه الكبر والإعجاب وهو بكل أحد قبيح لأنه دال على صغر الهمة مخبر بعلو المنزلة وكفى بالمرء ذمّاً أن تكون همته دون منزلته

 

الفرق بين الكبر والإعجاب:

فأما الكبر والإعجاب فقد يجتمعان في الذم، ويفترقان في المعنى. فالإعجاب يكون في النفس، وما تظنه من فضائلها، والكبر يكون بالمنزلة، وما تظنه من علوها.

 

أسباب الكبر والإعجاب:

للكبر أسباب، فمن أقوى أسبابه: علو اليد ونفوذ الأمر، وقلة مخالطة الأكفاء.

وللإعجاب أسباب، فمن أقوى أسبابه: كثرة مديح المقربين,...فحكم الممدوح بكذب قولهم على صدق عمله.

 

كتمان السر:

كتمان السر من أقوى أسباب الظفر، وأبلغ في كيد العدو. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (استعينوا على الحاجات بالكتمان)* وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه: سرك أسيرك، فإذا تكلمت به صرت أسيره.

وليعلم أن من الأسرار ما لا يستغني فيها عن مطالعة ولي مخلص، واستشارة ناصح، فليتحفظ فيها، وليختر لها أمناءها.

 

دلائل الوقار:

إذا كان الوقار محموداً، وكان الإنسان به مأموراً، فواجب أن نصف منه فصولاً دالة..

فمن ذلك: قلة التسرع إلى الشهوات، والتثبت عند الشبهات، واجتناب سرعة الحركات، وخفة الإشارات، ثم إطراق الطرف، ولزوم الصمت فإنه أبلغ في الوقار.

قال بعض البلغاء: الزم الصمت، فإنه يكسوك صفو المحبة، ويؤمنك سوء المغبة، ويُلبسكُ ثوب الوقار، ويكفيك مؤنة الاعتذار.

قال ملك الفرس: إذا تكلمت بالكلمة ملكتني ولم أملكها.

وقال ملك الهند: أنا على رد ما لم أقُل أقدر مني على ردِّ ما قلتُ.

وقال ملك الصين: ندمت على الكلام، ولم أندم على السكوت.

وليعلم أن الحاجة إلى الصمت أكثر من الحاجة إلى الكلام، لأن الحاجة إلى الصمت عامة، والحاجة إلى الكلام عارضة، فلذلك وجب أن يكون صمتُ العاقل في الأحوال أكثر كلامه في كل حال.

حُكي أن بعض الحكماء رأى رجلاً يكثر الكلام، ويقلّ الصمت، فقال له: إن الله تعالى إنما جعل لك أذنين ولساناً واحداً، ليكون ما تسمعه ضعف ما تتكلم به.

وقلّ من كثر كلامه إلا كثر ندمه، وقد قيل: من كثر كلامه كثرت آثامه، ولا ينبغي أن يعجب بجيد كلامه، ولا بصواب منطقه، فإن الإعجاب به سبب الإكثار منه. وقد قيل: من أعجب بقوله أصيب بعقله.

 

الحذر من الغضب:

يحذر الغضب ويتجنبه، فإنه شر قاهر، وأضر معاند، وليس يفسد الأمور وينتقص التدبير إلا عند غلبته، وشدة فورته، فإن مني به فلا يمضى فعلاً، ولا ينفذ حكماً حتى يزول.

 

الصبر وأقسامه:

أول أقسامه: الصبر على ما فات إدراكه من نيل الرغائب، أو نقصت أوقاته من نزول المصائب، وبالصبر في هذا تستفاد راحة القلوب، وهدوء الحواس، وفقدُ الصبر فيه منسوب إلى شدة الأسى، وإفراط الحزن، فإن صبر طائعاً، وإلا احتمل كارهاً همّاً لازماً، وصار إثمه لعمله راغماً.

وثاني أقسامه: الصبر على ما نزل من مكروه أو حلّ من أمر مخوف...وفي مثله قال الله سبحانه وتعالى: (واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور) [لقمان:17] 

وثالث أقسامه: الصبر في ما ينتظر وروده من رغبة يرجوها، أو يخشى حدوثة من رهبة يخافها، وبالصبر والتلطف في هذا يدفع عادية ما يخافه من الشر، وينال نفع ما يرجوه من الخير. وفي مثله قالت الحكماء: من استعان بالصبر نال جسيمات الأمور.

 

المشورة:

قال بعض الحكماء: الاستشارةُ عينُ الهداية، وقد خاطر من استغنى برأيه.

وقال بعض البلغاء: من حق العاقل أن يضيف إلى رأيه آراء العلماء، ويجمع إلى عقله عقول الحكماء، فالرأي الفذُّ ربما زلَّ، والعقلُ الفردُ ربما ضلَّ.

وتكثر من استشارة ذوي الألباب، لا سيما في الأمر الجليل، فإن لكل عقل ذخيرة من الصواب، ومسكناً من التدبير، ولقلما يضل عن الجماعة رأيُ، ويذهب عنهم الصواب.

وقال بعض الحكماء: الاستسلام لرأي المشير هو العزل الخفي، فإذا أظهروا من كنون آرائهم سبرها برأيه، واختبرها بعقله، وسألهم عن أصولها وفروعها، وباحثهم عن أسبابها ونتائجها. فإذا تقرر له الرأي أمضاه.

 

تجنب الحسد:

ظاهر الحسد أقبح من باطنه، وباطنه أضرّ من ظاهره، لأنه في الظاهر شدة الأسى على الخير أن يكون للناس الأفاضل، وهذا قبيح في الظاهر...وباطنه أنه مغم للنفس، كدود للجسد غير جالب لنفع، ولا دافع لضرر، ولا مؤثر في عدو.

 

المنافسة:

فأما المنافسة فهي غيرُ الحسد، فلا بأس أن يتنافس الأكفاء في فضائلهم، وربما غلط قوم فظنوا أن المنافسة في الخير هي الحسد، وليس الأمر كما ظنوا، لأن المنافسة طلبُ التشبه بالأفاضل من غير إدخال ضرر على الفاضل، والحسد مصروف إلى الضرر، لأن غايته أن يعدم الفاضل فضله، فهذا هو الفرق بين المنافسة والحسد.

 

تصفح الأعمال:

ليكن من رأيه أن يتصفح في ليلته ما فعله في نهاره، فإن الليل أجمع للفكر، وأحضر للخاطر، فإن كان صواباً أحكمه وأمضاه، وإن كان قد مال فيه عن الصواب بادر إلى استدراكه إن أمكن، وانتهى عن مثله في المستقبل.

وليكن مع ذلك متصفحاً لأفعال غيره، فما أعجبه من جميلها، واستحسنه من فضائلها بادر إلى فعله، وزيّن نفسه بالعمل به، فإن السعيد من تصفح أفعال غيره فانتهى عن سيئها، واقتدى بأحسنها، فنال هنئ المنافع، وأمن خطر التجارب.

 

الناس في الخير أربعة:

الناس في الخير أربعة: منهم: من يفعله ابتداءً، ومنهم : من يفعله اقتداءً، ومنهم: من يتركه حرماناً، ومنهم: من يتركه استحساناً. فمن يفعله ابتداءً فهو كريم، ومن يفعله اقتداءً فهو حكيم، ومن يتركه حرماناً فهو شقي، ومن يتركه استحساناً فهو رديء.

 

فوائد مختصرة:

** قال بعض الحكماء: من رضي عن نفسه، أسخط عليه الناس.

** لقد أصاب من كانت عقوبته للأدب، وأخطأ من كانت عقوبته للغضب.

** على الناصح الاجتهاد وليس عليه ضمان النجاح.

** الامتنان على الإحسان...من ضيق النفس، وتابع لفساد الأخلاق.

** الفأل محمود لأن فيه تقوية للعزم، وباعثاً على الجد.

** لا تفتح باباً يُعييك سدّه، ولا ترم سهماً يُعجزك ردّه، ولا تُفسد أمراً يعييك إصلاحه، ولا تغلق باباً يُعجزك افتتاحه.

** الرجوع إلى الحق أولى من المقام على ما سواه، لمن علم وضوح حجته.

 

* الحديث: (استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود) أخرجه العقيلي في الضعفاء، والطبراني في معاجمه الثلاثة، والبيهقي في شعب الإيمان، وغيرهم، وصححه العلامة الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة، المجلد الثالث، رقم الحديث:1453، وكذا صححه في صحيح الجامع برقم: 943.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply