الحمالة في الفقه الإسلامي


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

    هدفت الدراسة لتبين أن الشريعة الإسلامية جاءت مشتملة على كافة مناحي الحياة، فهي تنظم علاقة الفرد بمجتمعه من خلال مبادئ إسلامية اتسمت بالمرونة والشمول والوضوح، لكل ما يحتاجه الإنسان في مختلف الأزمان وعلى مر العصور. ومن هذه المبادئ الأصيلة مبدأ الحمالة، وهي من المبادئ السامية التي يسعى المسلم لتحقيقها، حقناً للدماء، وإصلاحاً لذات البين، ونشراً لروح الإخاء، وتعتبر الحمالة طريقاً من طرق فض المنازعات، والحمالة من النماذج الجليلة التي تدل على أن شريعتنا مشتملة على عوامل النهضة للبشرية في كل زمان ومكان.

 

مقدمة:

إنّ موضوع الحمالة من الموضوعات المهمة في الفقه الإسلامي، وعادةً ما تتم مناقشة موضوع الحمالة من زاوية التدخل الإنساني، على ضوء خلفيات يمكن معها حث المجتمع على الخير والتعاون على البر والتقوى. يتعلق موضوع الحمالة بجانب إنساني مقدس إذ يتحتم بموجبه أن يتحمل الحميل، كل ما ينتج عن هلاك في الأرواح والأموال، نتيجة ما يحصل جراء نزاع مُسلّح. وليس عن أذهاننا ببعيد ما حصل في شرق بلادنا، بين البجا والنوبة، من قتلٍ وتمزيق لإنسان الولاية الشرقية وبث روح الفُرقة والشتات بين أبناء هذا الإقليم المعطاء.

فلماذا لا يتدخل العُقلاء وأهلُ الرأي، والمشورة، والحكمة، وذوي الثروة والوجاهة، متحملين عبء ما حدث فداءً وتضحيةً بأموالهم التي استخلفهم الله عليها، عاكسين بذلك روح التعاون والتكافل ومؤصلين لفقه الحمالة، إذ بذلك تتجلىّ روح الوحدة والتآلف والتعاضد، بتحملهم نفقات وديات ما حصل، راجين بذلك الأجر والمثوبة من الله سبحانه وتعالى.

أسباب اختيار الموضوع: ومن أهم الأسباب لاختيار هذا الموضوع ما يلي:

1) بيان أهمية الحمالة وما يترتب عليها من آثار ايجابية منها حقن الدماء، وإصلاح ذات البين، والذي يترتب عليهما سلامة المجتمع ووحدته.

2) توضيح مفهوم الحمالة في الفقه الإسلامي.

3) نشر أصول وتعاليم ديننا الحنيف.

4) بيان صلاحية الشريعة وخلودها وشمولها على مر العصور على اختلاف المُعطيات وتباين المجريات.

أهمية الموضوع : تُقدر أهمية البحث بأهمية موضوعه، والأهداف المرجوة منه  وتأتي أهمية هذا الموضوع في كونه:

1) التأكيد على أنّ أحكام شريعتنا إنّما شرعت لمقاصد وغايات سامية وجليلة، باقية ما بقي الزمان.

2) دعوة لتجديد النظر في تعاليم ديننا الحنيف ، لمعرفة يسره وسماحته، وشموله، ومواكبته ، لكل الحوادث .

مشكلة الدراسة: لأهمية الحمالة في الفقه الإسلامي كان الاختيار لهذا الموضوع كمجال للدراسة ويمكن حصر مشكلة الدراسة في التساؤلات التالية:

1) هل يمكن تطبيق خُلق الحمالة في واقعنا المعاصر ليكون نموذجاً شرعياً لحل كثيراً من مشكلات عصرنا ؟

2) وهل يجوز للحميل أن يتراجع عن تحمله للحمالة؟

منهج البحث: المنهج الذي انتهجه الباحث لكتابة هذا البحث هو المنهج الوصفي التحليلي، لآراء الفقهاء وتحليلها.

المبحث الأول:مفهوم الحمالة  والألفاظ ذات الصلة والقريبة منها:

المطلب الأول : تعريف الحمالة لغة:

الحمالة بفتح الحاء ما يتحمَّله الإنسان عن غيره من دية أو غرامة، مثل أن يقع حربٌ بين فريقين تُسفك فيها الدماء، فيدخل بينهم رجل يتحمَّل دِيّات القتلى ليُصلح ذات البين، والتَّحمُل أن يحملها عنهم على نفسه(ابن الأثير:2008م:ج1ص400) (ابن منظور:2001م:ج11ص180-ص181).

المطلب الثاني : تعريف الحمالة اصطلاحاً:

المتتبع لكتب الفقهاء لا يكاد يجد عند أكثرهم تعريفاً للحمالة، إلا ما يذكره بعض الفقهاء في كتاب الكفالة، فالحمالة هي المال الذي يتحمله الإنسان أي ستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين، كالإصلاح بين قبيلتين...(النووي:2000م:ج ص134). أي شغل ذمة أخرى بالحق(المازري:2008م:ج3ص135)

المطلب الرابع: الألفاظ ذات الصلة والقريبة من الحمالة:

هنالك ألفاظ ذات صلة وقريبة من الحمالة ، بل وتحمل معنى الحمالة وتؤدي مؤداها ومن هذه الألفاظ، الكفالة، والضمان، والزعامة، والقبالة، والصيارة، قال الإمام المازري:الحمالة في اللغة والكفالة والضمان والزعامة، كل ذلك بمعنى واحد، غير أنّ الماوردي قال:إنّ العرف قد خصص الضمين بالمال، والحميل بالدية،والزعيم بالمال العظيم،والكفيل بالنفس،والصيير يعم الكل، ومثله القبيل(الحطاب:1992م: ج5ص96). وقال ابن حبان: الزعيم لغة أهل المدينة، والحميل لغة أهل العراق، والكفيل لغة أهل مصر(الشربيني:1995:ج2ص231). وقال مجاهد: الزعيم هو المؤذن الذي قال: أيتها العير، والزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء(القرطبي:2002م:ج9ص156). وقال الإمام القرافي رحمه الله تعالى: (وهي في اللغة سبعة ألفاظ كلها مترادفة الحميل والزعيم والكفيل والقبيل والأذين والصبير والضامن يقال حمل يحمل حمالة فهو حميل وزعم يزعم زعامة فهو زعيم وكفل يكفل كفالة فهو كفيل وقبل يقبل قبالة فهو قبيل وأذن يأذن أذانة فهو أذين وصبر يصبر صبرا فهو صبير وضمن يضمن ضمانا فهو ضامن.(القرافي:1994م:ج9ص189).

الفرع الأول: الكفالة:

كفل فلان كفلاً وكفالة، أي ضمنه، والكافل الذي يكفُل إنساناً يعُولهُ، ومنه قوله تعالى: (وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ) سورة آل عمران: الآية44.

الفرع الثاني: الزعامة:

الزعيم هو الكفيل (ابن الأثير:2008م:ج2ص255) وقال تعالى:(قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) سورة يوسف الآية:72. قال الإمام ابن كثير: هذه الآية من باب الضمان والكفالة (ابن كثير:2004م:ج4ص232). وقال صلى الله عليه وسلم: إنّ الله قد أعطى كل ذي حق حقه، فلا وصية لوارث، ولا تنفق المرأة من بيتها إلا بإذن زوجها، فقيل: يا رسول الله ولا الطعام، قال: ذلك أفضل أموالنا، قال: ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: العارية مؤداة، والمنحة مردودة، والدين مقضي، والزعيم غارم(ابن حنبل:2001م:ج36 ص628 حديث رقم22294) و( ابن ماجه:بدون:ج2ص804 حديث رقم2405).

الفرع الثالث: الضمان:

من ضَمِنَ الشيء بالكسر ضَماناً أي كَفَلَ به فهو ضامنٌ وضمينٌ (الرازي:2008م:ص242). ومما يدل على مشروعية الضمان ما رواه أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة، فلما وضعت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هل على صاحبكم من دين؟ قالوا: نعم درهمان قال: صلوا على صاحبكم فقال عليٌّ رضي الله عنه: هما عليّ وأنا لهما ضامن...(ابن حنبل:2001م: ج1ص281، حديث رقم893). فالحديث فيه إقرار من النبي صلى الله عليه وسلم على ضمان علي رضي الله عنه لدين الميت، وهذا يدل على مشروعية الضمان والحمالة.

الفرع الرابع: القبالة:

والقبالة بالفتح الكفالة وهي في الأصل مصدر قَبلَ إذا كَفَلَ، وقبُلَ بالضم صار قبيلاً أي كفيلاً، وتقبَّل به أي تكفل به والاسم القبالة(ابن منظور:1995م:ج11ص544) والقبالة هو كل ما يلتزمه الإنسان من عمل ودين وغير ذلك، والقبيل الكفيل والعريف والضامن (الفيروزآبادي:1995م:ج1ص1351).

 

المبحث الثاني: الأدلة على مشروعية الحمالة:

لا خلاف بين الفقهاء في مشروعية الحمالة، وأنّها من مكارم الأخلاق، وأنبل الصفات، وكانت العرب قديماً تعرف الحمالة فإذا وقعت بينهم فتنة اقتضت غرامة في دية أو غيرها، قام أحدهم فتبرع بالتزام ذلك حتى ترتفع تلك الفتنة الثائرة، وكانوا إذا علموا أنّ أحداً تحمل حمالةً بادروا إلى معونته وأعطوه ما تبرأ به زمته، وسُميّ قتادة بن أبي أوفى بصاحب الحمالة لأنّه تحمل حمالاتٍ كثيرة، فسأل فيها وأداها.الأدلة على مشروعية الحمالة كثيرة من الكتاب والسنة والإجماع والمعقول فمنها على الترتيب:

الأدلة على مشروعية الحمالة من القرآن الكريم:

آيات كثيرة من القرآن الكريم دلت على مشروعية الحمالة، مؤكدةً على أنّ الحمالة خلقٌ كريم، ينبغي أن يتحلى به المسلم، إذ بها يصلح ذات البين، وتتجسد فيها روح الأخوة الحقة، فمن ذلك قوله تعالى: (قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ) الآية:66 من سورة يوسف. قال الإمام القرطبي:هذه الآية أصلٌ في جواز الحمالة بالعين والوثيقة بالنفس(القرطبي:2002م:ج9ص153).وقال الإمام المازري: في هذه الآية حمالة بالوجه وهو أحد أقسام الحمالة(المازري:2008م:ج3ص140). وقال تعالى: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) سورة يوسف: الآية72. قال مجاهد:الزعيم هو المؤذن الذي قال: أيتها العير، والزعيم والكفيل والضمين والقبيل سواء(ابن كثير:2004م:ج4ص232). وقال القاسمي: وهذه الآية أصلٌ في الضمان والكفالة(القاسمي:بدون:ج2ص203).

 

الأدلة على مشروعية الحمالة من السُنّة النبوية:

السنة النبوية مليئة بالأدلة التي تدل على مشروعية الحمالة وجوازها. فمن ذلك حديث قبيصة بن مخارق الهلالي قال: تحملت حمالة، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أسأله فيها، فقال: أقم حتى تأتينا الصدقة، فنأمر لك بها، قال: ثم قال: " يا قبيصة إن المسألة لا تحل إلا لأحد ثلاثة رجل، تحمل حمالة، فحلت له المسألة حتى يصيبها، ثم يمسك، ورجل أصابته جائحة اجتاحت ماله، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش  أو قال سدادا من عيش ورجل أصابته فاقة حتى يقوم ثلاثة من ذوي الحجا من قومه: لقد أصابت فلانا فاقة، فحلت له المسألة حتى يصيب قواما من عيش أو قال سدادا من عيش  فما سواهن من المسألة يا قبيصة سحتا يأكلها صاحبها سحتا (مسلم:بدون: كتاب الزكاة، باب من تحل له المسألة،ج2ص722،حديث رقم1044). فالنبي صلى الله عليه وسلم أذن لقبيصة بن المخارق رضي الله عنه الصدقة والسؤال حتى يؤدي ما التزم به، وفي الحديث دليلٌ واضح على مشروعية الحمالة والضمان. ومن الأدلة أيضاً على مشروعية الحمالة من السُنة النبوية ما رواه الصحابي الجليل عبد الله بن عباس  رضي الله عنهما قال : إنَّ رجلا لَزِمَ غريما له بعشرة دنانير ، فقال : ما أُفَارِقُك حتى تَقْضِيَ أو تأتيَ بحميل ، فتحمَّل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه بها من وجه غير مرضيّ ، فقضاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه  وقال: الحميلُ غارِم.وفي رواية : فتحمَّل بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتاه بها ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: من أين أصَبْتَ هذا الذَّهَبَ ؟ فقال : من مَعْدِن فقال : لا حاجةَ لنا فيه ، ليس فيها خَيْر ، فقضاها عنه رسول الله -صلى الله عليه وسلم(ابن الأثير: كتاب الضمان:ج7ص61حديث رقم5026). ففي الحديث دليلٌ على أنّ النبي صلى الله عليه وسلم تحمّل عن الرجل دينه، فتحمله صلى الله عليه وسلم عن الرجل دينه فيه دليل على مشروعية الحمالة وعظم شأنها، إذ أكّد النبي صلى الله عليه وسلم مشروعية الحمالة بقوله كما في حديث قبيصة بن المخارق السابق، وأكّده بفعله صلى الله عليه وسلم كما في هذا الحديث إذ تحمل عن الرجل دينه صلى الله عليه وسلم.

الإجماع على مشروعية الحمالة:

دلّت على مشروعية الحمالة الكتاب والسنة والإجماع، فقد أجمع العلماء على مشروعية الحمالة، وقد نقل الإجماع جمعٌ من أهل العلم. قال صاحب المغني: وأجمع المسلمون على جواز الضمان في الجملة وإنّما اختلفوا في الفروع(ابن قدامة:1968م:ج4ص400). وقال العلامة المطيعي: وأما الإجماع فإنّ أحداً من العلماء لم يُخالف في صحة الضمان والحمالة(المطيعي:بدون:ج14ص7). وقال الإمام القرافي: وأجمعت الأُمة على مشروعية الحمالة من حيث الجملة(القرافي:1994م:ج9ص191).

الأدلة بالمعقول على مشروعية الحمالة:

وأما المعقول فإنّ الشريعة الغراء قد تكفلت بحفظ الضروريات والحاجيات والتحسينات، فكل ما أدى إلى حفظ واحد منها فهو من مقاصد الشريعة المطهرة، ولما كان الناس محتاجين إلى التعامل بالضمان والكفالة والحمالة أقرّ الإسلام مشروعيتها، لأن في منعها حرجاً ومشقة على الناس، والإسلام دين اليسر والسماحة فقد قال تعالى: (وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ) سورة الحج: الآية78. والإسلام دين التعاون والتكاتف يأمر بكل ما يحقق ذلك من المبادئ والمعاملات...(الموسى:1991م:ج1ص171-ص172).

الحكمة من مشروعية الحمالة:

المتتبع للأدلة الدالة على مشروعية الحمالة، يتبيّن له بوضوح الحكمة من مشروعية الحمالة، إذ يُمكن تلخيصها في الآتي:

1) أنّ ديننا الحنيف قرر مبدأ الحمالة وحثّ عليها حفاظاً على حرمة النفوس والأموال، وجبراً للضرر.

2) إنّ في تحمل الحميل للحمالة قطعاً للمنازعة، وإنهاءً للخصومة.

3) إنّ في تحمل الحميل للحمالة تسكيناً للفتنة، ودرأً لمفاسدها.

 

شروط الحمالة في الفقه الإسلامي:

من خلال ما كتبه بعض الفقهاء عن الحمالة لقد حصر الباحث شروط الحمالة في التالي:

1) أن يكون الحميل أهلاً لتحمل الحمالة، أي يجب أن يتوفر فيه أهلية التبرع، ولا يصح تحمل الحمالة من غير أهل التبرع.

2) أن يكون ما تحمله الحميل من الحمالة يمكن استيفاؤه، وفي ذلك يقول صاحب أسهل المدارك: ولا تصح الحمالة فيما لا يمكن استيفاؤه من الحميل كالقصاص وجميع ما لا يقبل النيابة من الحدود(الكشناوي:بدون:ج3ص93).

3) أن يكون في تحمل الحميل للحمالة مصلحة متحققة، كإيقاع الصلح، وحفظ النفوس والأرواح وعليه فلا حمالة عند انعدام الفائدة.

4) أن يكون الخطر والهلاك محققاً لتدخل الحميل لتحمل الحمالة.

5) أن يكون المحمول عنه راضياً بما حُمل عنه(ابن رشد:بدون:ج4ص79).

6) على الحميل الإسراع بالوفاء بما تحمل به(الشوكاني:2001م:ج5ص271).

 

أركان الحمالة:

لمّا كانت الحمالة هي ما يتحمله الإنسان ويلتزمه في ذمته بالاستدانة ليدفعه في إصلاح ذات البين، مثل أن تقع حرب بين فريقين تسفك فيها الدماء، وتتلف فيها الأنفس والأموال، فيسعى الحميل جاهداً في الإصلاح بينهم، فيتحمل الدماء التي بينهم والأموال. ولذا يمكن جمع أركان الحمالة في الآتي:

1) الحميل: هو الإنسان الذي يتحمل عن غيره مالاً يدفعه إلى مستحقه عاجلاً، أو بالتزامه في الذمة إلى وقت معين.

2) المحمول عنه: وهو من تحمل عنه الحميل حمالةً سواءً كانت في الدماء أو في الأموال.

3) المحمول له:هم من تدفع إليهم الحمالة، تسكيناً لنفوسهم، وتعويضاً لهم لما لحق بهم من الضرر.

4) الحمالة: وهو المال الذي يتحمله الإنسان ويستدينه ويدفعه في إصلاح ذات البين، كالإصلاح بين قبيلتين ونحو ذلك.

5) صيغة الحمالة: عامة الفقهاء يُرجحون أن تكون صيغة الحمالة باللفظ، وذلك لأنّ اللفظ هو الأصل في بيان قصد العاقد لكل عقد وبيان مدى رغبته في هذا العقد. واللفظ منه الصريح ومنه ما هو كناية. فالصريح: هو تلفظ الحميل بتحمل الحمالة قولاً كقوله هذه الحمالة عليّ كما قال تعالى: (قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ) سورة يوسف: الآية72. قال مجاهد: الزعيم والكفيل والحميل والضمين والقبيل سواء(ابن كثير:2004م:ج4ص232). قال الإمام الرملي: الصريح كضمنت دينك عليه أو تحملته أو تقلدته أو التزمته أو تكفلت ببدنه أو أنا بالمال أو لإحضار الشخص ضامن أو كفيل أو زعيم أو حميل أو قبيل...(الرملي: 1984م:ج4ص454). وأما الكناية وهي ما يفهم من الحميل تحمله للحمالة بقرينة تدل على ذلك. وقد تنعقد الحمالة بغير اللفظ وذلك كالإشارة المعهودة من الأخرس شريطة أن تدل الإشارة على أنّ الأخرس يريد الحمالة.

 

أنواع الحمالة:

الملاحظ لما كتبه الفقهاء عن الحمالة يجد أنّ الفقهاء اختلفوا في أنواعها، فهنالك حمالةٌ بالمال، وحمالةٌ بالنفس.أما الحمالة بالمال: فثابتة بالسنة، ومجمع عليها من الصدر الأول ومن فقهاء الأمصار. وحكي عن قوم أنها ليست لازمة تشبيها بالعدة وهو شاذ. والسنة التي صار إليها الجمهور في ذلك هو قوله عليه الصلاة والسلام : الزعيم غارم(الترمذي:كتاب البيوع:باب ما جاء في أنّ العارية مؤداة:ج3ص564 حديث رقم1265).وأما الحمالة بالنفس (وهي التي تعرف بضمان الوجه) : فجمهور فقهاء الأمصار على جواز وقوعها شرعا إذا كانت بسبب المال. وحكي عن الشافعي في الجديد أنها لا تجوز، وبه قال داود، وحجتهما قوله تعالى: (قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ) يوسف: 79 . ولأنها كفالة بنفس فأشبهت الكفالة في الحدود. وحجة من أجازها عموم قوله عليه الصلاة والسلام: الزعيم غارم(أبي داود:كتاب البيوع:باب تضمين العارية:ج3ص321 حديث رقم3567 وصححه الألباني) وتعلقوا بأن ذلك مصلحة، وأنه مروي عن الصدر الأول(ابن رشد:2002م:ص679).

 

أحكام الحمالة والحميل:

    يتبين مما سبق  مشروعية الحمالة وجوازها، وأنّها من مكارم الأخلاق، إذ بها تحقن الدماء، وتصلح ذات البين، وتتقوى أواصر الأخوة، وتعتبر الحمالة معلماً من معالم البقاء والنهضة، وهي ذات بعد حضاري وإنساني وتربوي، إذ من خلال التطبيق لأحكامها تحتفظ الشعوب والأمم والقبائل بعلاقاتها. ولمّا كانت الحمالة بهذا الخلق الديني التربوي الرفيع، وكان المتحمل لها(الحميل) قد تحمل هذه الحمالة لضبط النفوس، وحقناً لدماء، وإصلاحاً لذات البين، وإبقاءً لأواصر الحب والإخاء، وضعت الشريعة الإسلامية الغراء أحكاماً لهذا الحميل، مسجلة بذلك اعترافاً منها بدوره وفضله، فمن أحكام الحميل ما يلي:

1) أنّه تحل له المسألة، قال ابن رشد: أن النَّبِيّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ  أَبَاحَ الْمَسْأَلَةَ لِلْمُتَحَمِّلِ دُونَ اعْتِبَارِ حَالِ الْمُتَحَمَّلِ عَنْهُ(ابن رشد:2002م:ص680).

2) يجوز دفع الزكاة للحميل إذا استدان لإصلاح ذات البين حقناً للدماء، وجمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنابلة أنّ الحميل يُعطى من الزكاة وإن كان غنياً، وبهذا قال ابن المنذر وأبو عبيد واستدلوا على ذلك بما أخرجه الحاكم وابن ماجه وغيره ، عن أبي سعيد الخدري، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " لا تحل الصدقة لغني إلا لخمسة: لعامل عليها، أو لغاز في سبيل الله، أو لغني اشتراها بماله، أو فقير تصدق عليه فأهداها لغني، أو غارم" (الحاكم:1990م:ج1ص566 حديث رقم1480) و(ابن خزيمة:2003م:كتاب الزكاة: باب إعطاء العامل من الصدقة عُمالة وإن كان غنياً،ج2ص1142 حديث رقم2368) والحديث صححه الألباني في إرواء الغليل:ج3 ص377). فيُعطى الحميل من سهم الغارمين، قال الإمام الشوكاني في تفسير قوله تعالى: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة: الآية60. قال الشوكاني: والغارمين الذين ركبهم الدين ولا وفاء عندهم به، ولا خلاف فيه اللهم إلاّ من أدان في سفاهةٍ فإنّه لا يُعطى منها ولا من غيرها إلا أن يتوب، ويُعطى منها من له مال وعليه دين محيط به ما يقضي به دينه، ثم قال: ويجوز للمتحمل في صلاح وبر أن يُعطى من الصدقة ما يُؤدّي ما تحمل به إذا وجب عليه وإن كان غنياً، وهو قول الشافعي وأحمد وغيرهم(الشوكاني:2002م:ج8ص148). إلا أنّ الحنفية يرون أنّه لا تدفع الزكاة إلا إذا كان الحميل فقيراً.

ويرى الباحث أنّه يدفع للحميل من مال الزكاة ولو كان غنياً، وذلك لأنّ ما تحمله الحميل من إصلاح ذات البين، وحقن الدماء، لا يُقدّر بثمن، فعليه يجوز إعطاؤه من الزكاة ولو كان غنياً. وهنالك أمرٌ ينبغي التنبيه إليه وهو أنّ الإنسان مجبولٌ ومفطور على حُب المال كما قال تعالى: (وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا) سورة الفجر: الآية20. فلو علم الغني أنّه تحمل هذه الحمالة من ماله إصلاحاً لذات البين، وحقناً للدماء، وأنّ ما تحمله لن يضيع سُدىً في الآخرة، وأنّ ما تحمله ستدفعه له ديوان الزكاة، لبادر وسارع كل واحد وتحمل ما يُصلح به ذات البين.

 

الخاتمة والتوصيات:

فقد خلُص الباحث إلى النتائج التالية:

1) إنّ الشريعة الإسلامية أقرت مبدأ الحمالة حفظاً للنفوس، وحقناً للدماء، وإصلاحاً لذات البين.

2) إنّ في تحمل الحميل للحمالة قطعاً للمنازعات، فالحمالة يقوم بدور مبارك ومنقذ للمجتمع ليعيش المجتمع في أمنٍ ورفاهية وسلامةٍ ودعةٍ.

3) في مشروعية الحمالة بيانٌ للبُعد الحضاري والإنساني لشريعتنا الغراء، إذ يُلتمس من خلالها عدلُ شريعتنا وجمالها.

4) اهتمام شريعتنا ببقاء المجتمع المسلم معافى وذلك من خلال تنظيم علاقات الناس.

5) كمال الشريعة الإسلامية ووفاؤها بحاجات البشر في كل زمان ومكان.

 

التوصيات:

فقد خلُص الباحث إلى التوصيات التالية:

1) ضرورة نشر خُلق الحمالة في المجتمع المسلم إذ بها تقوى روابط الأُخوة الإسلامية ويقل الخلاف.

2) الرجوع إلى كتاب الله تعالى وسُنة نبيه صلى الله عليه وسلم ثُمّ أقوال الصحابة رضي الله عنهم والأئمة الأعلام عند كل قضية ولحل كل نازلة مستجدة.

3) الرجوع إلى تُراثنا الفقهي فإنّ فيه حُلولاً كثيرة لمشكلات عصرنا.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

فـهرس المصـادر والمراجــع:

1/ ابن الأثير:الإمام مجد الدين المبارك بن محمد الجزري ابن الأثير، مات سنة606ه، النهاية في غريب الحديث والأثير: المكتبة العصرية- صيدا- بيروت، الطبعة الأولى1429ه-2008م.

2/ ابن حنبل: الحافظ أحمد بن حنبل الشيباني، مات سنة241ه، الطبعة الثالثة1420ه-2001م، المكتب الإسلامي- بيروت- لبنان.

3/ ابن خزيمة: الحافظ أبو بكر بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري، مات سنة310ه، صحيح ابن خزيمة: الطبعة الأولى1ذ423ه-2003م، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.

4/ ابن رشد: أبي الوليد محمد بن أحمد بن رشد القرطبي، مات سنة520ه، الطبعة الأولى1421ه-2001م، دار الفكر-بيروت-لبنان.

5/ ابن قدامة: أبو محمد عبد الله بن أحمد بن قدامه، مات سنة 620ه، الطبعة الأولى 1388ه- 1986م، مطبعة الفجالة- القاهرة- مصر.

6/ ابن كثير: للحافظ عماد الدين أبي الفداء إسماعيل بن كثير، مات سنة774ه، تفسير القرآن العظيم، الطبعة الأولى1425ه- 2004م، مكتبة الصفا- القاهرة- مصر.

7/ ابن ماجة: الحافظ أبي عبد الله محمد يزيد القزويني، مات سنة275ه، بدون، دار الفكر- بيروت- لبنان.

8/ ابن منظور: جمال الدين مكرم بن منظور الأفريقي، مات سنة711ه، لسان العرب، الطبعة الأولى 1421ه- 2001م، دار إحياء التراث العربي.

9/ أبي داود: الحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث، مات سنة275ه، سنن أبي داود، للحافظ أبي داود سليمان بن الأشعث، الطبعة الثانية1403ه-1983م، مطبعة مصطفى البابي الحلبي وأولاده- القاهرة- مصر.

10/ الألباني: محمد ناصر الدين الألباني، مات ىسنة1420ه، إرواء الغليل تخريج أحاديث السبيل 1399ه-1979م، المكتب الإسلامي- بيروت- لبنان.

11/ الترمذي: للحافظ أبي عيسى محمد بن عيسى، مات سنة297ه، سنن الترمذي، بدون، دار الكتب العلمية- بيروت-لبنان.

12/ الحاكم: الحافظ أبو عبد الله الحاكم بن محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بابن البيع، مات سنة405ه، المستدرك على الصحيحين، الطبعة الأولى1416ه- 1996م، دار الفكر- بيروت- لبنان.

13/ الحطاب: شمس الدين أبو عبد الله محمد بن محمد المعروف بالحطاب، مات سنة954ه، مواهب الجليل في شرح مختصر خليل، الطبعة الأولى1412ه-1992م، دار الفكر- بيروت- لبنان.

14/ الرازي: محمد بن أبي بكر بن عبد القادر الرازي، معجم مختار الصحاح: الطبعة الأولى 1429ه- 2008م، دار صادر- بيروت- لبنان.

15/ الرملي: شمس الدين محمد بن أبي العباس بن حمزة الرملي، مات سنة1004ه، نهاية المحتاج إلى شرح المنهاج، الطبعة الأخيرة1404ه- 1984م، دار الفكر – بيروت- لبنان.

16/ الشربيني: شمس الدين محمد بن أحمد الشربيني، مات سنة977ه، الطبعة الثالثة1415ه – 1995م، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.

17/ الشوكاني: محمد بن علي بن محمد الشوكاني، مات سنة1250ه، نيل الأوطار شرح منتقى الأخبار، الطبعة الأولى1422ه- 2001م، دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان.

18/ الفيروزآبادي:مجد الدين الفيروزآبادي، مات سنة817ه، القاموس المحيط: الطبعة  الأولى1415ه- 1995م، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.

19/ القاسمي: محمد جمال الدين بن محمد القاسمي، مات سنة1332ه، محاسن التأويل: دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.

20/ القرافي: شهاب الدين أحمد بن إدريس القرافي، مات سنة684ه، الذخيرة: الطبعة الأولى 1405ه- 1995م، دار الغرب الإسلامي- تونس.

21/ القرطبي: أبي عبد الله محمد بن أحمد الأنصاري القرطبي، مات سنة671ه، الجامع لأحكام القرآن: الطبعة الأولى1422ه- 2002م، دار إحياء التراث العربي- بيروت- لبنان.

22/ الكشناوي: أبو بكر بن حسن بن عبد الله الكشناوي، مات سنة1397ه، أسهل المدارك شرح إرشاد السالك، دار الفكر- بيروت- لبنان.

23/ المازري: أبو عبد الله محمد بن علي بن عمر المازري المالكي، مات سنة536ه، شرح التلقين: دار الغرب الإسلامي.

24/ مسلم: الحافظ مسلم بن الحجاج النيسابوري، مات سنة261ه، صحيح مسلم، دار الكتب العلمية- بيروت- لبنان.

25/ المطيعي: محمد بخيت المطيعي، مات سنة1354ه، تكملة المنهاج، دار الفكر- بيروت- لبنان.

26/ الموسى: الدكتور/ محمد بن إبراهيم الموسى، نظرية الضمان الشخصي، الطبعة الأولى 1411ه- 1991م، إدارة الثقافة والنشر بجامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية- المملكة العربية السعودية.

27/ النووي: أبي زكريا محي الدين بن شرف النووي، مات سنة676ه، المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، الطبعة الثامنة1422ه- 2001م، دار المعرفة- بيروت- لبنان.

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply