أن تكون شابًا في زماننا


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

يحلو لكبار السن وصف الجيل الحالي بالترهل، وإلف الراحة، وسهولة الفرص، ثم تُزاد في الطنبور نغمة فتبدأ أحاديث التحسر على المشقة التي عاشوها، وأنهم لو كانوا في زماننا لكانت حياتهم خالية من المنغصات.

وأنا هنا أقرّ لهم بأن غالب أحاديثهم عن الكفاح حقيقي، وأقول جزاكم الله خيرًا على ما بذلتموه من جهد ومواجهة صعاب.

لكني أزعم أن ثمة زاوية مفقودة في الحكم، مردّها إلى أمرين:

1- الحكم على سهولة الحياة من خلال سهولة الوسائل التقنية، مع إغفال الثمن المعنوي والمادي لكونك فردًا من منظومة التسهيلات هذه؛ لذا غالبًا يأتي المثال بالحديث عن مشقة الحصول على الماء في السابق، مع يسر الحصول عليه في زماننا؛ وهذا مثال صحيح منقوص؛ هكذا بهذا التركيب.

2- الإطلالة على إشكالات هذا الجيل من شرفة خمسيني مستقر في حاله، ثابت في أساسيات متطلباته، طوي ملف زواجه ومورد رزقه ومسار حياته غالبًا، كُتبت فصول حياته بالحبر خلافًا للشاب الذي ينازع في كتابة أساسياته بقلم رصاص قد يمحوه ظرف عابر؛ فمن الطبيعي أن تكون إطلالة سائح أجنبي، يرى البيوت الأثرية بعيني فنان، يلتقط الصور، ينثر الحِكَم، بينما يعيش سكان هذه البيوت مشقة تحصيل أساسيات الطعام والدفء.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن تعيش أسئلة ما خطرت على بال من سبقك، أن تصارع المسرد الزمني الذي وضع لك؛ تدرس في هذا السنّ، وتتوظف في ذاك السن، وتكون أسرتك في نطاق زمني معين؛ وإلا بدأت عليك الضغوط من خارجك، وشعور التأخر والفوات من داخلك.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن يرتفع سقف اشتراطات رجولة الشاب، ومهام أنوثة الفتاة، وتزيد معايير (ملء العين)، فما ينظر إليه المسنّ على أنه ترف ومصاريف زائدة هو من صميم حاجات الشباب المعنوية، فالتقييم من خارج الجيل مهوّن لرتبة الحاجة.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن تكثر الأشياء التي تعنيك، تحدي الأجيال السابقة في إيجاد موارد، تحدي هذا الجيل في ترتيبها ومحاربة الفوضى المستمرة فيها؛ وهذا في المعرفة، والمشاعر، والأشياء؛ فتذوق رغمًا عنك مالم يمتحن السابقون في معرفته من شهوات وشبهات، ثم إذا سقطت مرة  نزع عنك ستار المحكمة السرية؛ ما كان يصنعه ابن القرية حين ضعفه مستترًا صار الآن محفوظًا منشورًا تتلقفه أعين الشامتين والفرحين بهذه السقطة تحت ستار العبرة والمصلحة.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن يكون وهنك في روحك، وتعبك في داخلك، أما الرفاه الخارجي فقشرة رقيقة تخفي تحتها عواصف من التحديات على مستوى التمسك بالتدين الذي تتنازعه الشهوات والشبهات، وضبط العلم رغم المشتتات، وتكوين الأسرة وتكلفتها التشغيلية معنويًا وماديًا، كل ذلك في جو مسلوب الطمأنينة، مليء بمحفزات التوتر، محكوم باللهث المستمر.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن تعايش في سنة ما عاشه غيرك في عشر سنوات من أحداث، وتكون مجبرًا على الشعور بدوار منعطفات الحياة الدائمة، وأن تواجه الخذلان حتى تعتاده بسبب كثرة الامتحانات الحياتية التي تواجهها.

 

أن تكون شابًا في زماننا يعني أن تكون مقاتلًا في معركة النهايات المفتوحة، زخمٌ يغرقك بمسؤولية اختيار القرار الصحيح في كل مرة، عقائد وأفكار ومشاعر وأشياء بلا أقواس حاصرة، لا شيء سائد ويسير على الدليل التشغيلي لحياة السابقين، عليك بناء نموذجك الخاص بكل تفاصيله.

 

أن تكون شابًا في حياتنا يعني أن تكتب منشورًا بهدف الشعور بمعاناة هذا الجيل، ورحمتهم وإعانتهم، لا بهدف التهوين من تضحيات السابقين والدخول في سباق تفضيل بين الأجيال، فيأتي من يستدرك باحترام السابقين، ونقد تصرفات وقع فيها بعض أبناء هذا الجيل، ثم تضطر لأن تكتب "طيب"؛ لأن الشرح عند اختلاف الأنظار وتعدد الزوايا= محرقة للأعصاب، متلفة للروح.

 

كانت هذه الكلمات في خاطري قبل الانقطاع، آثرت كتابتها الآن ثم أعتزل لمدة لن تطول إن شاء الله، أستودعكم الله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply