درر وفوائد من التحفة العراقية لشيخ الإسلام ابن تيمية


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

من مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله، رسالته الجيدة النافعة: " التحفة العراقية في الأعمال العراقية " تكلم فيها على أهمية أعمال القلوب، ودرجات الناس فيها، وعن بعض الأعمال القلبية، مثل: الصدق والإخلاص، والتوكل، والرضا، والمحبة،  كما تكلم عن مسائل. كالحزن، والصبر، والشكر والاستغفار، والعبادة، والبدعة، والأسباب التي تندفع بها العقوبات.

والتحفة العراقية، تحفة على اسمها، مليئة بالدرر، والفوائد، وقد اخترت بعضًا منها، أسأل الله الكريم أن ينفع الجميع بها.

 

أعمال القلوب: أهميتها وحكمها:

أعمال القلوب...من أصول الإيمان، وقواعد الدين، مثل: محبة الله ورسوله، والتوكل على الله، وإخلاص الدين له، والشكر له، والصبر على حكمه، والرجاء له،...وهذه الأعمال جميعها واجبة على جميع الخلق...باتفاق أئمة الدين.

درجات الناس في أعمال القلوب:

الناس فيها على " ثلاث درجات " ،كما هم في أعمال الأبدان على "ثلاث درجات": ظالم لنفسه، ومقتصد، وسابق بالخيرات.

 فالظالم لنفسه: العاصي بترك مأمور، أو فعل محظور.

والمقتصد: المؤدي الواجبات والتارك المحرمات.

والسابق بالخيرات: المتقرب بما يقدر عليه من فعل واجب، ومستحب، والتارك للمحرم، والمكروه.

وكل من الصنفين: المقتصدين، والسابقين من أولياء الله، الذين ذكرهم الله في كتابه بقوله: (ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون* الذين آمنوا وكانوا يتقون) [يونس:62_63] فحد أولياء الله: هم المؤمنون المتقون، ولكن ذلك ينقسم إلى عام، وهم المقتصدون، وخاص، وهم السابقون، وإن كان السابقون هم أعلى درجات كالأنبياء والصديقين.

وأما الظالم لنفسه من أهل الإيمان فمعه من ولاية الله بقدر إيمانه وتقواه، كما معه ضد ذلك بقدر فجوره، إذ الشخص الواحد قد يجتمع فيه الحسنات المقتضية للثواب، والسيئات المقتضية للعقاب.

 

الصدق والإخلاص:

الصدق والإخلاص هما في الحقيقة تحقيق الإيمان والإسلام، فإن المظهرين للإسلام ينقسمون إلى مؤمن ومنافق، والفارق بين المؤمن والمنافق هو الصدق، فإن أساس النفاق الذي يبنى عليه هو الكذب، ولهذا إذا ذكر الله حقيقة الإيمان نعته بالصدق، كما في قوله تعالى: (قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا ۖ قُل لَّمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِن قُولُوا أَسْلَمْنَا) [الحجرات:14] إلى قوله: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ۚ أُولَٰئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ) [الحجرات:15]

فأخبر أن الصادقين في دعوى الإيمان هم المؤمنون الذين لم يتعقب إيمانهم ريبة، وجاهدوا في سبيله بأموالهم وأنفسهم.

وأما المنافقون فوصفهم سبحانه بالكذب في آيات متعددة، كقوله تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ) [البقرة:10] وقوله تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافق:1]

وما ينبغي أن يعرف أن الصدق والتصديق يكون في الأقوال، وفي الأعمال، كقول النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الحديث الصحيح: (كتب على ابن آدم حظه من الزنا فهو مدرك ذلك لا محالة. فالعينان تزنيان وزناهما النظر، والأذنان تزنيان وزناهما السمع، واليدان تزنيان وزناهما البطش، والرجلان تزنيان وزناهما المشي، والقلب يتمني ويشتهي، والفرج يصدق ذلك ويكذبه.)

 

ويقال حملوا على العدو حملة صادقة، إذ كانت ارادتهم للقتال ثابتة جازمة، ويقال: فلان صادق الحب والمودة، ونحو ذلك. ولهذا يريدون بالصادق: الصادق في ارادته وقصده وطلبه، وهو الصادق في عمله.

ويريدون الصادق في خبره وكلامه. والمنافق ضد المؤمن الصادق، وهو الذي يكون كاذبًا في خبره، أو كاذبًا في عمله كالمرائي في عمله، قال الله تعالى: (إنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَىٰ يُرَاءُونَ النَّاسَ) [النساء:142]

وأما الإخلاص فهو حقيقة الإسلام، إذ الإسلام هو الاستسلام لله لغيره، كما قال تعالى: (ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَّجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِّرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ) الآية. [الزمر:29] فمن لم يستسلم لله فقد استكبر، ومن استسلم لله ولغيره فقد أشرك، وكل من الكبر والشرك ضد الإسلام، والإسلام ضد الشرك والكبر.

وهذا الذي ذكرناه مما يبين أن أصل الدين في الحقيقة هو الأعمال الباطنة من العلوم والأعمال وأن الأعمال الظاهرة لا تنفع بدونها، ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم: (الحلال بين والحرام بين، وبين ذلك أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لعرضه ودينه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام، كالراعي يرعي حول الحمى يوشك أن يقع فيه، ألا وإن لكل ملك حمى، ألا وإن حمى الله محارمه، ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح لها سائر الجسد، وإذا فسدت فسد لها سائر الجسد ألا وهي القلب) وعن أبي هريرة قال: القلب ملك، والأعضاء جنوده، فإذا طاب الملك طابت جنوده، وإذا خبث الملك خبثت خبثت جنوده.

 

التوكل:

التوكل أعمّ من التوكل في مصالح الدنيا، فإن المتوكل يتوكل على الله في صلاح قلبه، ودينه، وحفظ لسانه، وإرادته، وهذا أهم الأمور إليه، ولهذا يناجي ربه في كل صلاة بقوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة:5] كما في قوله تعالى: (فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ) [هود:123] وقوله: (قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ) [الرعد:30]فهو قد جمع بين العبادة والتوكل في عدة مواضع، لأن هذين يجمعان الدين كله ولهذا قال من قال من السلف: إن الله جمع الكتب المنزلة في القرآن، وجمع علم القرآن في المفصل، وجمع علم المفصل في فاتحة الكتاب، وجمع علم فاتحة الكتاب في قوله (إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ)

وعلى هذا فالذي ظنّ أن التوكل...لا يطلب به إلا حظوظ الدنيا، غلط، بل التوكل في الأمور الدينية أعظم. وأيضًا التوكل من الأمور الدينية، التي لا تتم الواجبات والمستحبات إلا بها والزاهد فيها زاهد فيما يحبه الله ويأمر به ويرضاه والزهد المشروع هو ترك الرغبة فيما لا ينفع في الدار الآخرة، وهو فضول المباح التي لا يستعان بها على طاعة الله. كما أن الورع المشروع: هو ترك ما قد يضر في الدار الآخرة وهو ترك المحرمات والشبهات التي لا يستلزم تركها ترك ما فعله أرجح منها كالواجبات. فإما ما ينفع في الدار الآخرة بنفسه، أو يعين على ما ينفع في الدار الآخرة. فالزهد فيه ليس من الدين، بل صاحبه داخل في قوله تعالى: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا ۚ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) [المائدة:87]

والاستعانة بالله، والتوكل عليه، واللجأ إليه، والدعاء له، هي التي تقوى العبد، وتيسر عليه الأمور ولهذا قال بعض السلف من سره أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله

 

الرضا:

وأما الرضا فقد تنازع العلماء والمشايخ من أصحاب الإمام أحمد وغيرهم، في الرضا بالقدر، هل هو واجب أو مستحب ؟ على قولين: فعلى الأول يكون من أعمال المقتصدين، وعلى الثاني يكون من أعمال المقربين. قال عمر بن عبدالعزيز: الرضا عزيز، ولكن الصبر معول المؤمن.

ولهذا لم يجيء في القرآن إلا مدح ذلك لا إيجاب ذلك، وهذا في الرضا بما يفعله الرب بعبده من المصائب كالمرض والفقر والزلزال، كما قال تعالى: (وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ) [البقرة:177] وقال تعالى: (أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا) [البقرة:214] فالبأساء في الأموال، والضراء في الأبدان، والزلزال في القلوب

وأما الرضا بما أمر الله به فأصله واجب، وهو من الإيمان، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ذاق طعم الإيمان من رضى بالله ربًا، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا.)

والرضا وإن كان من أعمال القلوب فكماله هو الحمد، حتى أن بعضهم فسر الحمد بالرضا، ولهذا جاء في الكتاب والسنة حمدالله على كل حال، وذلك يتضمن الرضا بقضائه، وروى عن النبي صلى الله عليه وسلم: (إنه كان إذا اتاه الأمر يسره، قال: الحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات، وإذا أتاه الأمر الذي يسوءه قال: الحمد لله على كل حال.)

والحمد على الضراء يوجبه مشهدان:

أحدهما: علم العبد بأن الله سبحانه مستوجب لذلك، مستحق له لنفسه، فإنه أحسن كل شيء خلقه، وأتقن كل شيء، وهو العليم الحكيم، الخبير الرحيم.

الثاني: علمه بأن اختيار الله لعبده المؤمن، خير من اختياره لنفسه، كما روى مسلم في صحيحه وغيره عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يقضى الله للمؤمن قضاء إلا كان خيرًا له، وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن، إن أصابته سراء شكر فكان خيرًا له، وإن أصابته ضراء صبر، فكان خيرًا له.)

فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم إن كل قضاء يقضيه الله للمؤمن الذي يصبر على البلاء، ويشكر على السراء فهو خير له، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ) [إبراهيم:5] وذكرهما في أربعة مواضع من كتابه.

 

محبة الله ورسوله:

محبة الله، بل محبة الله ورسوله من أعظم واجبات الإيمان، وأكبر أصوله، وأجل قواعده، بل هي أصل كل عمل من أعمال الإيمان والدين، كما أن التصديق به أصل كل قول من أقوال الإيمان والدين، فإن كل حركة في الوجود إنما تصدر عن محبة، إما محبة محمودة، أو محبة مذمومة.

فجميع الأعمال الإيمانية الدينية لا تصدر إلا عن المحبة المحمودة، وأصل المحبة المحمودة هي محبة الله سبحانه وتعالى، إذ العمل الصادر عن محبة مذمومة عند الله لا يكون عملًا صالحًا. فإن الله تعالى لا يقبل من العمل إلا ما أريد به وجهه، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (يقول الله تعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملًا فأشرك فيه غيري، فأنا منه بريء، وهو كله للذي أشرك.) 

وثبت في الصحيح حديث الثلاثة الذين هم أول من يسعر بهم النار: (القارئ المرائي، والمجاهد المرائي، والمتصدق المرائي.)

والعبادة تتضمن كمال الحب ونهايته، وكمال الذل ونهايته، فالمحبوب الذي لا يعظم ولا يذل له لا يكون معبودًا، والمعظم الذي لا يحب لا يكون معبودًا، ولهذا قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ ۖ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [البقرة:165] فبين سبحانه أن المشركين بربهم الذين يتخذون من دون الله أندادًا، وإن كانوا يحبونهم كما يحبون الله، فالذين آمنوا أشدّ حبًا لله منهم لله ولأوثانهم، لأن المؤمنين أعلم بالله، والحب يتبع العلم، ولأن المؤمنين جعلوا جميع حبهم لله وحده، وأولئك جعلوا بعض حبهم لغيره واشركوا بينه وبين الأنداد في الحب، ومعلوم أن ذلك أكمل.

الجهاد دليل المحبة الكاملة، قال تعالى: (قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [التوبة:24] وقال تعالى في صفة المُحبين المحبوبين: (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ۚ)([المائدة:54] فوصف المحبوبين المحبين بأنهم أذلة على المؤمنين، أعزة على الكافرين، وأنهم يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.

فإن المحبة مستلزمة للجهاد، لأن المحب يحب ما يحب محبوبه، ويبغض ما يبغض محبوبه، ويوالي من يواليه ويعادي من يعاديه ويرضى لرضاه ويغضب لغضبه ويأمر بما يأمر به، وينهى عما ينهى عنه. فهو موافق له في ذلك. وهؤلاء هم الذين يرضى الرب لرضاهم، ويغضب لغضبهم، إذ هم يرضون لرضاه، ويغضبون لما يغضب له.

ولهذا قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما يروى عن ربه: (لا يزال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، ورجله التي يمشى بها، فبي يسمع، وبي يبصر، وبي يبطش، وبي يمشي، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه، وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن، يكره الموت، وأنا أكره مساءته ولا بد له منه.)  وإذا كانت المحبة أصل كل عمل ديني، فالخوف والرجاء وغيرهما يستلزم المحبة ويرجع إليها، فإن الراجي الطامع إنما يطمع فيما يحبه لا فيما يبغضه، والخائف يفر من الخوف لينال المحبوب.

وقد نطق الكتاب والسنة بذكر محبة العباد المؤمنين، كما في قوله: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [البقرة:165] وقوله تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54]  وقوله تعالى: (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ) [التوبة:24] وفي الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان، أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله، وأن يكره أن يرجع في الكفر بعد إذ أنقذه الله منه كما يكره أن يلقى في النار.)

بل محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وجبت لمحبة الله كما في قوله تعالى: (أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) [التوبة:24] وكما في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحبّ إليه من ولده ووالده والناس أجمعين) وفي صحيح البخاري عن  عمر بن الحطاب أنه قال: والله يا رسول الله لأنت أحب إليّ من كل شيء إلا من نفسي. فقال: (لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك) فقال: والله لأنت أحب إلي من نفسي قال: (الآن يا عمر)

وكذلك محبة صحابته وقرابته، كما في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (آية الإيمان حب الأنصار، وآية النفاق بغض الأنصار.)  

وأما محبة الرب سبحانه لعبده فقال تعالى: (وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا)[النساء:125] وقال تعالى: (يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ) [المائدة:54] وقال تعالى: (وَأَحْسِنُوا ۛ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [البقرة:195]  (وَأَقْسِطُوا ۖ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) [الحجرات:9] وأما الأعمال التي يحبها الله من الواجبات والمستحبات الظاهرة والباطنة فكثيرة معروفة، وكذلك حبه لأهلها وهم المؤمنون أولياء الله المتقون.

وهذه المحبة حق كما نطق بها الكتاب والسنة، والذي عليه سلف الأمة وأئمتها وأهل السنة والحديث، وجميع مشايخ الدين المتبعون، وأئمة التصوف: أن الله سبحانه محبوب لذاته محبة حقيقية، بل هي أكمل محبة، فإنها كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ) [البقرة:165]  وكذلك هو سبحانه يحب عباده المؤمنين محبة حقيقية.

ومما ينبغي التفطن له أن الله سبحانه قال في كتابه: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) [آل عمران:31] قال طائفة من السلف: ادعى قوم على عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنهم يحبون الله، فأنزل الله هذه الآية: (قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ) فبين سبحانه أن محبته توجب اتباع الرسول، وإن اتباع الرسول يوجب محبة الله للعبد، وهذه محبة امتحن الله بها أهل دعوى محبة الله.

فاتباع سنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وشريعته باطنًا وظاهرًا، هي موجب محبة الله، كما أن الجهاد في سبيله، وموالاة أوليائه، ومعاداة أعدائه، هو حقيقتها، كما في الحديث: (أوثق عرى الإيمان الحب في الله، والبغض في الله.) وفي الحديث: (من أحب لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنع لله، فقد استكمل الإيمان.)

وكثير ممن يدعى المحبة هو أبعد من غيره، عن اتباع السنة، وعن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، والجهاد في سبيل الله.

وفي الحديث المأثور: (يقول الله تعالى يوم القيامة: أين المتحابون بجلالي ؟ اليوم أظلهم في ظلي يوم لا ظل إلا ظلي.) فقوله: أين المتحابون بجلال الله تنبيه على ما في قلوبهم من إجلال الله وتعظيمه، مع التحاب فيه. وبذلك يكونون حافظين لحدوده، دون الذين لا يحفظون حدوده، لضعف الإيمان في قلوبهم، وهؤلاء الذين جاء فيهم الحديث: (حقت محبتي للمتحابين فيّ، وحقت محبتي للمتجالسين فيّ، وحفت محبتي للمتزاورين فيً، وحقت محبتي للمتباذلين فيّ.)

والأحاديث في المتحابين في الله كثيرة.

 

الحزن:

الحزن لم يأمر الله به ولا رسوله بل قد نهى عنه في مواضع وإن تعلق بأمر الدين، كقوله تعالى: (وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) [آل عمران:139] وقوله: (وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ) [النمل:70] وقوله: (إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا) [التوبة:40] وذلك لأنه لا يجلب منفعة، ولا يدفع مضرة فلا فائدة فيه، وما لا فائدة فيه لا يأمر الله به، نعم لا يأثم صاحبه إذا لم يقترن بخزنه محرم، كما يحزن على المصائب، قال صلى الله عليه وسلم: (تدمع العين، ويحزن القلب، ولا نقول إلا ما يرضى الرب) وقد يقترن بالحزن ما يثاب صاحبه عليه، ويحمد عليه، فيكون محمودًا من تلك الجهة لا من جهة الحزن، كالحزين على مصيبة في دينه، وعلى مصائب المسلمين عمومًا. وإما أن أفضى إلى ضعف القلب، واشتغاله به عما فعل ما أمر الله ورسوله به، كان مذمومًا عليه من تلك الجهة.

 

الصبر:

الإنسان إذا ابتلي فعليه أن يصبر، ويثبت، ولا ينكل حتى يكون من الرجال الموقنين القائمين بالواجبات، ولا بد في جميع ذلك من الصبر، ولهذا كان الصبر واجبًا باتفاق المسلمين على أداء الواجبات، وترك المحظورات، ويدخل في ذلك الصبر على المصائب أن يجزع فيها، والصبر عن اتباع أهواء النفوس فيما نهى الله عنه.

وقد ذكر الله الصبر في كتابه في أكثر من تسعين موضعًا، وقرنه بالصلاة في قوله تعالى: (وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ ۚ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ) [البقرة:45] وجعل الإمامة في الدين مورثة عن الصبر واليقين بقوله: (وجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ) [السجدة:24] فإن الدين كله علم بالحق وعمل به، والعمل لا بدّ فيه من الصبر.

 

الشكر والاستغفار:

العبد دائمًا بين نعمة من الله يحتاج فيها إلى شكر، وذنب منه يحتاج فيه إلى الاستغفار. وكل من هذين من الأمور اللازمة للعبد دائمًا، فإنه لا يزال يتقلب في نعم الله وآلائه، ولا يزال محتاجًا إلى التوبة والاستغفار.

ولهذا كان سيد ولد آدم، وإمام المتقين محمد صلى الله عليه وسلم، يستغفر في جميع الأحوال وقال صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح الذي رواه البخاري: (أيها الناس توبوا إلى ربكم، فإني لأستغفر الله، وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة.) وفي صحيح مسلم قال: (إنه ليغان على قلبي، وإني لأستغفر الله في اليوم مائة مرة.) وقال عبدالله بن عمر: كنا نعدُّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في المجلس الواحد يقول: (رب اغفر لي، وتب عليّ، إنك أنت التواب الغفور.)

 

العبادة:

العبادة هي الغاية التي خلق الله لها العباد، من جهة أمر الله ومحبته ورضاه، كما قال تعالى: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات:56] وبها أرسل الرسل، وأنزل الكتب، وهي اسم يجمع كمال الحب لله ونهايته، وكمال الذّلّ ونهايته، فالحب الخلي عن ذل، والذّلّ الخلي عن حب لا يكون عبادة، وإنما العبادة ما يجمع كمال الأمرين، ولهذا كانت العبادة لا تصلح إلا لله. وهي وإن كانت منفعتها للعبد، والله غني عن العالمين، فهي له من جهة محبته لها، ورضاه بها.

 

البدعة:

قال أئمة الإسلام: أن البدعة أحب إلى إبليس من المعصية  لأن البدعة لا يتاب منها والمعصية يُتاب منها." ومعنى قولهم أن البدعة لا يتاب منها، أن المبتدع الذي يتخذ دينًا لم يشرعه الله، ولا رسوله، قد زين له سوء عمله فرآه حسنًا،  فهو لا يتوب ما دام يراه حسنًا، لأن أول التوبة العلم بأن فعله سيء ليتوب منه، أو بأنه ترك حسنًا مأمورًا به أمر إيجاب أو استحباب ليتوب ويفعله، فما دام يرى فعله حسنًا وهو سيء في نفس الوقت، فإنه لا يتوب. ولكن التوبة منة ممكنة وواقعة، بأن يهديه الله ويرشده حتى يتبين له الحق كما هدى سبحانه وتعالى من هدى من الكفار والمنافقين وطوائف من أهل البدع والضلال، وهذا يكون بأن يتبع من الحق ما علمه، فمن عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم كما قال تعالى : (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ)[محمد:17]وقال: (ولو أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا* * وإِذًا لَّآتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا * وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا) [النساء:66_68]

وقال (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) [الحديد:28]

وكذلك من أعرض عن اتباع الحق الذي يعلمه تبعًا لهواه، فإن ذلك يورثه الجهل والضلال، حتى يعمى قلبه عن الحق الواضح، كما قال تعالى: (فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ۚ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ) [الصف:5] وقال تعالى: (فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا) [البقرة:10] ولهذا قال من قال من السلف كسعيد بن جبير: إن من ثواب الحسنة، الحسنة بعدها، وإن من عقوبة السيئة، السيئة بعدها.

 

أسباب تندفع بها عقوبة السيئات:

المؤمن إذا فعل سيئة فإن عقوبتها تندفع عنه بعشرة أسباب:

أن يتوب، فيتوب الله عليه. فإن التائب من الذنب كمن لا ذنب له، أو يستغفر فيغفر الله له، أو يعمل حسنات تمحوها فإن الحسنات يذهبن السيئات، أو يدعو له إخوانه المؤمنون ويستغفرون له حيًا وميتًا، أو يهدون له من ثواب أعمالهم ما ينفعه الله به، أو يشفع فيه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، أو يبتليه الله تعالى في الدنيا بمصائب تكفر عنه، أو يبتليه في البرزخ بالصعقة فيكفر بها عنه، أو يبتليه في عرصات القيامة من أهوالها بما يكفر عنه، أو يرحمه أرحم الراحمين.

فمن أخطأته هذه العشرة فلا يلومن إلا نفسه.

فوائد متفرقة:

** الكرامة لزوم الاستقامة والله لم يكرم عبده بكرامة أعظم من موافقته فيما يحبه ويرضاه وهو طاعته وطاعة رسوله وموالاة أوليائه ومعاداة أعدائه وهؤلاء هم أولياء الله

** العاقبة للتقوى، ومن لم يقف عند أمر الله ونهية، فليس من المتقين.

** ما ينفع العبد هو: طاعة الله، وعبادته، إذ النافع له هو طاعة الله، ولا شيء أنفع له من ذلك. وكل ما يستعان به على الطاعة فهو طاعة، وإن كان من جنس المباح.

**روي إن حملة العرش إنما أطاقوا حمل العرش، بقولهم: "لا حول ولا قوة إلا بالله" وقد ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنها كنز من كنوز الجنة.

** قال طائفة من العلماء: الالتفات إلى الأسباب شرك في التوحيد، ومحو الأسباب أن تكون أسبابًا نقص في العقل، والأعراض عن الأسباب بالكلية قدح في الشريعة، وإنما التوكل المأمور به ما اجتمع فيه مقتضى التوحيد، والعقل، والشرع.

** الرضا والتوكل يكتنفان المقدور، فالتوكل قبل وقوعه، والرضا بعد وقوعه.

** العلم النافع هو أصل الهدى، والعمل بالحق هو الرشاد، وضد الأول الضلال، وضد الثاني الغي، فالضلال العمل بغير علم، والغي اتباع الهوى.

** قال أبي بن كعب رضي الله عنه: عليكم بالسبيل والسنة، فإنه ما من عبد على السبيل والسنة، وذكر الله فاقشعر جلده من مخافة الله إلا تحاتت عنه خطاياه، كما يتحات الورق اليابس عن الشجرة، وما من عبد على السبيل والسنة ذكر الله خاليًا ففاضت عيناه من خشية الله إلا لم تمسه النار أبدًا. وإن اقتصادًا في سبيل وسنة خير من اجتهاد خلاف سبيل وسنة، فاحرصوا أن تكون أعمالكم اقتصادًا واجتهادًا على منهج الأنبياء وسنتهم.

** قال سعيد بن جبير: إن العبد ليعمل الحسنة فيدخل بها النار، وإن العبد ليعمل السيئة فيدخل بها الجنة. وذلك أنه يعمل الحسنة فتكون نصب عينه ويعجب بها، ويعمل السيئة فتكون نصب عينه فيستغفر الله، ويتوب إليه منها.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply