هل يلزم ذكر الخلاف في كل مسألة


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

أولا: كنت أحضر منذ الأول متوسط دروسا في الفقه لعدد من أهل العلم، وكان يذكرون الخلاف في المسائل والأدلة والاعتراضات والتعقبات، ثم واصلت حضور الدروس عند أهل العلم، فكان يندر أن تقام دروس الفقه إلا كانت معتنية بفقه الخلاف وأدلة كل قول والرد عليه، واستمر الأمر على هذا النحو، وكنت على ذلك في وقت دراستي للثانوية ثم في مرحلة الجامعة.حين درسنا في كلية الشريعة.

كان غالب من درسنا من أساتذتنا يعتني بذكر الخلاف العالي وخلاف المذاهب، ثم كان بعض مشايخنا في دروس المساجد يعقدون لنا حلق المناظرة في المسائل المختلفة، ومن اللطائف؛ أن الشيخ د/ سعيد الحماد: عقد تدريب مناظرة لطلابه من ضمن المناظرات، وكانت في مسألة (حكم كشف الوجه للمرأة).

وقال لي: خذ أنت قول المجوزين، واستقصِ أدلتهم وناظِر عن قولهم، وكانت ليلة ماتعة لازلت أذكر لذاذتها، ثم لما كنا ندرس عند شيخنا ابن عثيمين كان لا يتقيد بالمذهب، ويخالف إخوانه من مشايخنا الآخرين، ويفتي بما ترجح له من الأقوال بدليله، ويذكر الأقوال ويقرر الاعتراضات في دروسه ثم إذا استفتاه مستفتٍ عابر أجابه بقوله وتفصيل أدلة ما ترجح له.

ثم لما درسنا في الماجستير كانت الخطة تلزم بذكر الأقوال في كل مسألة معزوة لكتب أصحابها ومذاهبها وذكر الأدلة والأقوال، وكذا في مرحلة الدكتوراه كنا نلزم بذلك، ولا تقبل رسالة لم يسلك فيها هذا المسلك.

ولما جاء الشيخ العلامة المفسر محمد الأمين الشنقيطي رحمه ﷲ لبلادنا تعجب من عدم اقتصار الفتوى على قول واحد، وقال: أتيت من موريتانيا وإنما ندرس ونفتي على مذهب مالك، فلما أتيت هنا وجدت كل المذاهب تدرس ويعتنى بها، فعكفت على دراستها.

ثانيا: إذا كان الأمر هكذا في شأن الدراسة والبحث فلماذا لم يسمع بعضهم إلا قولا واحدا في المسائل الخلافية؟

وهذه شكاة ظاهر عن أهل العلم عارها، فإن العلم مبذول لم تغلق حلق المساجد في وجه في وجه أحد، فمن أراد العلم والخلاف والأدلة والنظر والبحث فمن يحجبه عنه؟

هلمّ فليدرس ولينظر ويعارض ويناقش بأدوات العلم والبحث والجدل فإن قيل: ولكن لماذا لا تذكر الأقوال كلها في الفتوى والخطبة واللقاء الدعوي والموعظة؟

لماذا لا تنشر الأقوال وتتركون الناس لتختر ما تشاء فيقال: ومن الذي قال: أن كل خلاف في كل مسألة لابد أن يذكر؟

أما من جاء يستفتي فقد جاء يسأل من يفتيه ليخبره باجتهاده ورأيه الذي يدين ﷲ فيه، ولم يسأله عن جميع ما قيل في المسألة، فإن المستفتي إذا جاء وقد وثق في علم وعدالة من يفتيه فهو طالب لبراءة ذمته أمام ﷲ في المسألة، وهذا بخلاف ما لو جاء طالبا للعلم يسأل عن كل ما قيل في المسألة وأدلتها فهذا سبق الحديث فيه.

فإن قيل: لكنكم كنتم تنكرون على المخالف لكم في المسائل الخلافية.

قيل: أما مسائل الخلاف فليست على وزان واحد في مآخذها وأدلتها واعتبار خلاف المخالف.

أرأيت لو جاءنا الآن من يقول: إن قد اختلف أهل العلم في قتل الداعي إلى الضلالة واستباحة دمه، وأنا أرى ذلك (المغرد!) ممن يضل الناس، وما دام أن المسألة خلافية، فسأستبيح دمه وأقتله ولا يحق لك أن تنكر علي مادام أن في المسألة خلافا!

ولاشك أن بعض هؤلاء سيقول: لكن هذا فيه ضرر على الآخرين، فلا اعتبار بالخلاف ولا شك أن جنس المسائل التي يترتب عليها تلف ليست كغيرها، ولكن ليس هذا هو المعيار الوحيد الذي يرجع إليه في اعتبار الخلاف، فكما أن الخلاف الذي يترتب على اعتباره ضرر بمعصوم ليس كغيره، ولذلك لم يكن صحابة النبي إذا اختلفوا في مسألة يرجعون للخلاف -لوحده- في ترجيحهم ونظرهم بل كانوا ينظرون في الأدلة ويجتهدون في تفهم نصوص الوحي، وكان إذا أتاهم اسائل يسأل أجابوه بمقتضى الأدلة، ولا يردونه لخلاف فقهاء الصحابة ومن العجيب أن عددا ممن يجعل الخلاف جُنّة يستجن به عند ذكر الأدلة والاستدلالات لا يرفع رأسه بشأن أهل العلم ولا يرى فضلهم إلا إذا جاء ذكر الخلاف !

مع أن الواجب يعظم ويغلظ في مسائل الخلاف أكثر منه في مسائل الوفاق، فإن المؤمن يظل فيها يطلب ما ينجيه أمام ﷲ ويبذل وسعه ليصل إلى ما يريده الله منه، فإن اجتهد وبذل وتحرى وراعى الله ولم تحذبه جذبات الهوى فأصاب فله أجران، وإن أخطأ فله أجر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply