وقفات مع القاعدة القرآنية ولا تقتلوا أنفسكم


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

هذه وقفات مع قاعدة مباركة من قواعد القرآن الكريم ويستدل بها على مسائل كثيرة، والله أسأل أن ينفع بها ويتقبلها.

 

الوقفة الأولى:

في دلالة الآية في النهي عن قتل الإنسان نفسه؛ لأن ذلك من أكبر الكبائر، ففي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: « منْ قتَل نفسَه بشيءٍ عُذِّب به في نارِ جهنَّم »؛ رواه البخاري ومسلم.

 

ويشمل ذلك كل ما يؤدي إلى هلاك النفس فلا يجوز أن يعرض الإنسان نفسه للهلاك والتلف بأي وسيلة كانت.

 

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: (ولا يقتل الإنسان نفسه، ويدخل في ذلك الإلقاءُ بالنفس إلى التهلكة، وفعلُ الأخطار المفضية إلى التلف والهلاك). انتهى

 

الوقفة الثانية:

في دلالة الآية في النهي عن قتل الإنسان غيره بغير حق، وأن أنفس المسلمين كنفس واحدة، وأن ذلك من أعظم الذنوب والجرائم عند الله تعالى.

 

قال الإمام البغوي في تفسيره على هذه الآية: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾. يَعْنِي: إِخْوَانَكُمْ، أَيْ: لَا يَقْتُلُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا. انتهى

 

قال عليه الصلاة والسلام: « اجتنبوا السبع الموبقات - وذكر منها -: وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق »؛ رواه البخاري ومسلم.

الموبقات: أي المهلكات.

 

وقال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93]، وهذا من أعظم الوعيد فيمن يقتل مؤمنًا.

 

وقال تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ [الإسراء: 33].

 

قال العلامة السعدي رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: (وهذا شامل لكل نفس حرَّم الله قتلها من صغير وكبير وذكر وأنثى وحر وعبد ومسلم وكافر له عهد. ﴿ إِلَّا بِالْحَقِّ ﴾ كالنفس بالنفس، والزاني المحصن، والتارك لدينه المفارق للجماعة، والباغي في حال بغيه إذا لم يندفع إلا بالقتل).

 

الوقفة الثالثة:

في دلالة الآية على إثبات صفة الرحمة لله عز وجل، ومن رحمته بعباده أنه نهاهم عن قتل أنفسهم وعن قتل غيرهم، لذلك ختم الآية بقوله: ﴿ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا.

 

قال الإمام الطبري رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية: وأما قوله جل ثناؤه: "إن الله كان بكم رحيمًا"، فإنه يعني: أن الله تبارك وتعالى لم يزل رحيمًا بخلقه، ومن رحمته بكم كفُّ بعضكم عن قتل بعض، أيها المؤمنون، بتحريم دماء بعضكم على بعض إلا بحقها. انتهى

 

ومن هذا المعنى حديث عمرو بن العاص رضي الله عنه: قال: (احتلمت في ليلة باردة في غزاة ذات السلاسل فأشفقت أن أغتسل فأهلك فتيممت ثم صليت بأصحابي فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: « يا عمرو صليتُ بأصحابك، وأنت جنب؟ » فأخبرته بالذي منعني من الاغتسال فقال: وقلت: إني سمعت الله يقول: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئًا؛ رواه أبو داود، وصححه الألباني.

 

الوقفة الرابعة:

ومن معاني قتل النفس إهلاكها بالمعاصي والسيئات، فلا بد للعبد أن يرفق بنفسه ويرحمها وينقذها من النار، ويتقي الله فيها حتى تدخل الجنة.

 

قال الإمام ابن كثير رحمه الله تعالى في تفسيره على هذه الآية وقوله: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ أي: بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾؛ أي: فيما أمركم به، ونهاكم عنه.

 

الوقفة الخامسة:

أمثلة من فتاوى العلماء على هذه القاعدة:

جاء في فتاوى اللجنة الدائمة:

س: لعبة الملاكمة، وهي لعبة تعتمد على أن يضرب كل من المتلاكمين وجه أخيه، وكثيرًا ما يحدث إغماء من أثر الضرب في الوجه؟

ج: أما الملاكمة نفسها فلا تجوز؛ لما يترتب عليها من الخطر العظيم على اللاعبين أو أحدهما، والله يقول سبحانه: ﴿ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ ﴾، ويقول سبحانه: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ويقول النبي - صلى الله عليه وسلم: « لا ضرر ولا ضرار »؛ فتاوى اللجنة الدائمة (15 / 200).

عبد العزيز بن عبد الله بن باز، عبد الله بن قعود، عبد الله بن غديان، عبد الرزاق عفيفي.

 

وجاء في "فتاوى نور على الدرب" للعلامة ابن عثيمين (٢/٢٠).

يسأل عن الإضراب عن الطعام يقول كثيرًا ما نسمع في الإذاعات ونقرأ في الصحف أناسًا يضربون عن الطعام احتجاجًا على بعض الأحكام وهؤلاء غالبًا ما يكونون من المسجونين فما حكم من توفي وهو مضرب عن الطعام؟

ج: فأجاب رحمه الله تعالى: حكم من توفي وهو مضرب عن الطعام أنه قاتل نفسه وفاعل ما نهي عنه فإن الله سبحانه وتعالي يقول: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ ومن المعلوم أن من امتنع عن الطعام والشراب لا بد أن يموت وعلى هذا فيكون قاتلًا لنفسه ولا يحل لإنسان أن يضرب عن الطعام والشراب لمدة يموت فيها أما إذا أضرب عن ذلك لمدة لا يموت فيها وكان هذا السبب الوحيد لخلاص نفسه من الظلم أو لاسترداد حقه فإنه لا بأس به إذا كان في بلد يكون فيه هذا العمل للتخلص من الظلم أو لحصول حقه فإنه لا بأس به، أما أن يصل إلى حد الموت فهذا لا يجوز بكل حال.

 

وجاء في فتاوى ورسائل العلامة ابن عثيمين: (20 / 237)

الحال الثالثة: أن يضره الصوم فيجب عليه الفطر ولا يجوز له الصوم، لقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا ﴾ [النساء: ٢٩]...".

 

وجاء أيضا في فتاواه: (13 / 300) والدخان حرام، والدليل قوله تعالى: ﴿ وَلا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُم... ".

 

الخاتمة:

تأمل هذا الإيجاز في هذه الآية كيف شمل النهي عن قتل النفس بأي وسيلة وعن قتل الغير كذلك، وكيف شملت الآية النهي عن كل ضرر على النفس وهذا من رحمة الله تعالى في أمره ونهيه، فكم في هذه الآية من الفوائد والعظات لو تأملها العبد حق التأمل. نسأل الله عز وجل المزيد من رحمته وفضله.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply