بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
رزقني الله حبَّ الموطأ، وحبَّ كل كلامٍ في مدح الموطأ، وحبَّ كل دراسةٍ لها تعلُّقٌ بالموطأ، ولو لم يكن من اتصالي بتراث الإمام الشافعي وتلمذتي لكتبه إلا الاتصال بالموطأ لكفاني ذلك.
وكنت وما زلتُ أتلقَّف العبارات الدالَّة على فضيلة هذا الكتاب، وجلالة منزلته، وعظيم مضامينه، فهو فوقَ ما نظنُّ وأعلى وأجل.
يلذُّ لي دائما استذكار قول الذهبي: (إن لـ «الموطأ» لوقعًا في النفوس، ومهابةً في القلوب لا يوازنها شيء). وهذه المهابة وذلك الوقع يدركه كل من اتصل بالموطأ وسعى في تفهُّمه ودراسته.
ولما سجلت أطروحة الدكتوراه حول الشافعي وموقفه من المدرسة العراقية أدركت كثيرًا مما كان خافيًا عليَّ من جوانب الامتياز لهذا الديوان العظيم، والتي يلخصها شيخ الإسلام ابن تيمية بقوله: (إن «الموطأ» لمن تدبَّره وتدبَّر تراجمَه وما فيه من الآثار وترتيبَه عَلِمَ قولَ مَن خالفها من أهل العراق، فقصد بذلك الترتيبِ والآثارِ بيانَ السنة والردَّ على مَن خالفها، ومَن كان بمذهب أهل المدينة والعراق أعلمَ كان أعلمَ بمقدار «الموطأ»، ولهذا كان يقول: كتابٌ جمعتُه في كذا وكذا سنةً تأخذونه في كذا وكذا يومًا كيف تفقهون ما فيه؟ أو كلامًا يشبه هذا).
ولعظيم منزلة الموطأ عُدَّ أصل الأصول، حتى قال الدهلوي بعد ذكره الكتب الستة والمستدرك: (فكأن هذه الكتب شروح للموطأ وتتمات عليه)!
وفي توصيةٍ بالموطأ وصلاحيته للترقي في النظر الحديثي والفقهي يقول الكوثري: (طالب الحديث إذا عُنِيَ بادئ ذي بدء بمدارسة أحوال رجال «الموطأ» فاحصًا عن الأسانيد والمتون فيه = تدرَّج -عن ذوق وخبرة- في مدارج معرفة الحديث والفقه في آنٍ واحد، بتوفيق الله سبحانه، فيصبح على نور من ربه في باقي بحوثه في الحديث، راقيًا على مراقي الاعتلاء في العلم، نافعًا بعلمه ومنتفعًا به، والله سبحانه ولي التسديد).
والكلام حول الموطأ، والنقول المبينة عن فضله الكاشفة عن امتيازاته = كثيرةٌ جدا، لذيذةٌ جدا.
وكم هي نعمةٌ أن يحفظ الله لنا هذا الكتاب، ويحفظ لنا جملةً من رواياته، ويكرمنا بأن وفَّق ابنَ عبد البر لتأليف كتابيه العظيمين (التمهيد) و (الاستذكار) اللَّذَين أدَّيا كثيرًا من حق الموطأ ومهَّدا فهمه وقرَّبا كثيرًا من كنوزه، ولو كان هذان الكتابان مفقودَين وحُكِيَ لنا خبرهما في كتب السير والتراجم لملأنا الدنيا ضجيجًا على فوتهما، ولكنَّ الله أكرمنا بهما تامَّين مكمَّلين، ومن تمام شكر نعمة الله أن نعقد الخناصر على دَرْسهما والتفقه بهما.
وإنَّ من أمانيَّ التي أسأل الله أن يكرمني بها أن يكون لي مشروعٌ متصلٌ بهذا الكتاب، ينفع الله به أهل العلم وطلبته -ومَن الناس إلا هم!- وإن كنتُ لم أتبيَّن بعدُ حدودَه، إلا أن معالمَه آخذةٌ في التشكُّل، فأرجو أن يمنَّ الله عليَّ بإنجاز ذلك وإحسانِ القول فيه في سعةٍ وقوةٍ وإخلاص نيَّة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد