ليس منا من لم يوقر كبيرنا


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

اتقوا اللهَ عبادَ اللهِ وأخلصوا لله عملكم، فالإخلاصُ: هو ما لا يعلمهُ ملَكٌ فيكتبَهُ، ولا عدوٌ فيفسِدَهُ، ولا صديقٌ فيمدَحَهُ .. واعلموا أنكم لن تنالَوا ما تُحبُّون إلا بترك ما تشْتهون، ولن تُدرِكَوا ما تُريدون إلا بالصبر على ما تكرهُون، {مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} ..

معاشر المؤمنين الكرام: قضت حِكمةُ اللهُ جلَّ وعلا، أن يُولَدُ الانسان طّفلًا ضعيفًا لا يَعلَمُ شَيئًا، ولا يقوم بنفسه، ثُم يقوى ويتعلَّم شيئًا فشيئًا حتى يبلغ اشده في عنفوان الشباب، ثُمَّ لا يزالُ يكبرُ حتى يَكُونُ كَهْلًا ثم شيخًا ثم عجوزًا هرِمًا، يبيضُّ شعرهُ، ويرقُ عظمهُ، وتضعفُ قوتهُ، وتقلُ حركتهُ، وَهَذَا قَدَرُ جَمِيعِ الْبَشَرِ إن طالت بهم الحياة، قال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} ..

ومن الآدابِ العظيمةِ والخصالِ الكريمة، التي دعا إليها الشّرعُ الحنيف ورغَّبَ فيها، التعاملُ الحسنُ مع كِبارِ السِّنّ، وتوقيرهم ومعرفةُ حقهم، ففي الحديث الصحيح: قال صلى الله عليه وسلم: «لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرْ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا» .. وفي رواية صحيحة: "منْ لمْ يرحمْ صغيرَنَا، ويعرفْ حقَّ كبيرِنَا، فليسَ منَّا" ..

كبار السن يا عباد الله: هم بركةُ الأرض وخيرُها، وهم نورها وبهائها .. أرقُ الناس أفئدةً، وألينهم عريكةً، وأقربهم سهولةً، وأكثرهم ذكرًا لله واحرصهم على العبادة .. كثيرٌ خيرهم، قليلٌ شَّرُّهم، قد لَزِموا الوَقارَ، وصقلتهم أحداث الحياة، فأصبَحوا خبراء مُجرِّبينَ، وعرَفوا مَواضعَ الخيرِ، وخبروا عواقبَ الأمور ومآلاتها .. فما أسعدَ من فَسَحَ اللهُ له في الأجل، ووفّقَهُ لصالحِ العمل، ففي الحديث الصحيح، يقولُ عليه الصّلاةُ والسّلام: "خيرُكم من طالَ عمرُه وحَسُنَ عملُه" .. وصحَّ عنه أنه قالَ: "البرَكةُ مع أكابِرِكم" .. وهنيئًا لمن ضمّتْ بيوتُهم من كبارِ السّنّ من يبعثُ فيها السّعادةَ والنّور، والبهجةَ والسّرور، فهم نورُ عيونِنا، وتاجُ رؤوسِنا، وبركةُ عيشِنا، وأُنْسُ مجالسِنا، وبهجةُ حياتِنا، فما أجملَ مُحيّاهم، وما أعذبَ حديثَهم، وما أصدقَ ابتسامتَهم، وما أصفى مشاعرَهم، وللهِ تلكَ الأرواحُ الطّاهرةُ ما أنقاها، وتلك القلوبُ الطيّبةُ ما أروعها، وتلك الصّدورُ السليمةُ ما أصفاها، وتلك الوجوهُ المشرقة النيّرةُ ما أبهاها وما أحلاها .. وللهِ بيوتٌ بهم عامرة، ومجالسُ بهم حافلة، لا أخلى الله منهم بيوتنا، يتوافدُ الجميعُ إليهم، ويلتفُّونَ حولَهم ويجلسونَ بين أيديهم، يُحبّهم الصّغار، ويأنس بهم الكبار، ويستنيرُ بتجاربهم الشّبابُ .. فما أعظمَ بركتَهم وما أطيبَ مُجالَستَهم، كم نتفيّأُ بظلالِهم، وكم نُغمرُ بكرمِهم ولُطفِهم وحنانهم، يَستقبلوننا بالحفاوةِ والتّرحيب، ويتعاهدوننا بالإكرام والطّيب .. كم رفعوا لنا من صادقِ الدّعوات، فكانت سببَ التوفيقِ والرّزقِ والخيرات، والحفظِ من الشرورِ والآفات، فعلينا أنْ نبادلَهم تلك المشاعر، بإظهارِ اهتمامِنا بهم، وحُبِّنا لهم، وحفاوتِنا بهم، وعطفِنا عليهم، وتودُّدِنا إليهم، فهم بحاجةٍ دائمةٍ إلى من يجالسُهم ويؤانسُهم، ويستمعُ لهم، يعيشُ همومَهم، ويتفهم مشاعرَهم، ويخاطبُهم بلغتِهم، ويسمعُ منهم، ويستشيرُهم ويستأذنُهم، ويصبرُ عليهم ويدعو لهم، إنّهم كنزٌ ثمينٌ، كنزٌ ثمينٌ لا يعرفُ قيمتهُ إلا من فقده، فأدّوا زكاتَه بخدمتِهم، وأحسنوا لأنفسكم بالإحسانِ إليهم، واحذروا أنْ تخدِشوا كرامتَهم الغالية، أو تجرحوا أحاسيسَهم المُرهَفَة، أشعروهم بأنّ الفضل بعد فضل الله هو فضلهم،  وأنَّ المنّةَ لله ثمَّ لهم، اخفضوا لهم الجناح، وطيِّبوا معهم الكلام، وأبعدوهم عن الجدالِ والخصام، وتلمّسوا حاجاتِهم وأحضروها قبلَ أن يطلبوها، وردّوا لهم بعضَ الجميل، وكافؤُوهم على ما قدّموه من تضحياتٍ ولو بالقليل، فقد أدَّوْا ما عليهم وبقيَ ما لهم ..

ألا وإنَّ كثيرًا من كبار السن اليوم, هم غرباءٌ في بيوتهم وبين ذويهم، فلم يعد الزمانُ زمانُهم، ولم تعد الحياةُ تطيبُ لهم، يرى الواحدُ منهم نفسهُ ثقيلًا على من حوله، فلا جليسَ يتبادلُ معه أطرافَ الحديثِ، ولا أنيسَ يُدخلُ السرورَ عليه ويُباسِطه .. وإن جلس معهم لم يعرفوا حقه، ولم يحترموا له سنَّهُ ومَقامهَ، إن تكلم قاطعوه، وإن قال رأيًا تنقصوه, وإن طلبَ شيئًا لم يحضروه ... ألا وإن من حقِّ كبار السنِ يا عباد الله: الجلوسُ في صدر المجلس، والتأدب معهم، وأن يُقدمَوا في الكلام، وأن يُنصت لهم إذا تكلموا، وأن يُلان لهم الكلام، وأن يُنادوا بما يُشعرهم بالاحترام والتقدير يا عم .. يا والد .. يا شيخ .. وان يَتحنَّنَ لهم في العبارة ويُزينها .. وأن لا يمدَّ بين أيديهم رِجْلًا، ولا يُولِيْهم ظَهرًا، وأن يُقدمهم في الطعام والشراب، وفي الدُّخول والخروج ..

ومن حقِّ كبار السن أن يزاروا في بيوتهم، وأن يُحتفى بهم ويبجلوا،  وأعلموا أن كَبيرُ السِّنِّ لَا يَسْعَدُ بشَيءٍ كسَعَادَتِهِ بِاجْتِمَاعِ أَبْنَائِهِ وَأَحْفادِهِ حَوْلَهُ، وأنَّ أَكْثَرَ مَا يُزْعِجُ كِبَارَ السِّنِّ اليوم هُوَ هجرهم وشعُورُهم بِالْوِحْدَةِ، فهم في أمسِ الحاجةِ إلى من يجالسهم ويحدثهم ويؤنسهم، ويستمعُ لحديثهم، ويغيرُ أجوائهم، ويتلمسُ حاجتهم .. وأن يُعامِلهم بلطفٍ وشفقة, وحنوٌ ورحمة .. وأن لا يتشاغلَ الجالسُ عندهم بالاحاديث الجانبيةِ أو النظرِ في وسائل التواصل وردود الجوال .. إلا أن يقرأ عليهم من القصص الطريفة، والأخبار المهمة، والأحاديث المناسبة ما يدخلُ السرور على قلوبهم، ويُشعرهم بأهميتهم وعلو قدرهم ..

ألا فاتّقوا اللهَ رحمكم الله، واعرفوا لكبارِ السّنِّ فضلَهم، واشبعوا منهم قبلَ أن تفقِدوهم، فمكانُهم الذي يتركونَه يبقى خاليًا لا يَسُدُّه غيرُهم، ولا يبقى منهم إلا عَبَقُ رائحتِهم الزّكيّة، وعبيرُ سيرتِهم النّديّة، وبقايا ذكرياتِهِم الجميلة ..

أعوذُ باللهِ من الشّيطانِ الرّجيم: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً ۚ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ ۖ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ} .

 

 اتقوا الله عباد الله وكونوا مع الصادقين، وكونوا ممن يستمع القول فيتبع أحسنه، أولئك الذين هداهم الله، وأولئك هم أولو الألباب ..

معاشر المؤمنين الكرام: هكذا جاء ديننا العظيم بحفظ حقِّ كبير السن .. فليس منا من لم يوقر كبيرنا ويعرفَ له قدره .. وفي الحديث الصحيح: "من شاب شيبةً في الإسلامِ كانت له نورًا يومَ القيامةِ" .. وفي رواية صحيحة: «مَا شَابَ رَجُلٌ فِي الْإِسْلَامِ شَيْبَةً، إِلَّا رَفَعَهُ اللهُ بِهَا دَرَجَةً، وَمُحِيَتْ عَنْهُ بِهَا سَيِّئَةٌ، وَكُتِبَتْ لَهُ بِهَا حَسَنَةٌ » ..

وأنتم يا معاشر الكبار، اعلموا أن الآلام والأسقامَ التي تجدونها، والوهنَ والضعفَ الذي تعانون منه، فإنها أجورٌ وحسناتٌ مُدخرةٌ لكم عند ربكم، ففي صحيح البخاري: قال عليه الصلاة والسلام: "ما يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِن نَصَبٍ ولَا وصَبٍ، ولَا هَمٍّ ولَا حُزْنٍ ولَا أذًى ولَا غَمٍّ، حتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بهَا مِن خَطَايَاهُ"، وفي رواية صحيحة: "صُداعُ المؤمنِ، أو شوكةٌ يُشاكُها، أو شيءٌ يُؤذيه؛ يرفعُه اللهُ بها يومً القيامةٍ درجةً، ويُكفِّرُ عنه بها ذنوبَه" .. فكل ما يُزعجكم أو يقضُ مضاجعكم، إنما هو بحكمة الله ورحمته، تكفيرٌ لذنوبكم, وزيادة في حسناتكم، ورفعةٌ في درجاتكم, يُضايقكم اليوم، ولكنه غدًا بين يدي الله تعالى يُفرحكُم ويسركم, فاصبروا أعانكم الله على البلاء، واحتسبوا عند الله جزيل الأجر والثناء، ففي صحيح البخاري: قال رسول الله : "مَن يُرِدِ اللهُ به خيرًا، يُصِبْ منه" .. وقال : "إِنَّ الرَّجُلَ لَيَكُونُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ الْمَنْزِلَةُ فَمَا يَبْلُغُهَا بِعَمَلٍ؛ فَمَا يَزَالُ اللَّهُ يَبْتَلِيهِ بِمَا يَكْرَهُ حَتَّى يُبَلِّغَهُ إِيَّاهَا"، الحديث صححه الألباني، وفي صحيح مسلم يقول "عَجَبًا لأَمْرِ المُؤْمِنِ، إنَّ أمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ، وليسَ ذاكَ لأَحَدٍ إلَّا لِلْمُؤْمِنِ، إنْ أصابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكانَ خَيْرًا له، وإنْ أصابَتْهُ ضَرَّاءُ، صَبَرَ فَكانَ خَيْرًا له" .. وعن أبي هريرة قال: قال رسول الله : "ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه وولده وماله حتى يلقى اللهَ وما عليه خطيئةٌ" الحديث صححه الألباني؛ وعن شداد بن أوسٍ قال: سمعت رسول الله يقول: "إن الله عزَّ وجلَّ يقول: إني إذا ابتليت عبدًا من عبادي مؤمنًا، فحمِدني على ما ابتليته، فإنه يقوم من مضجعه ذلك كيومَ ولدَتْهُ أمُّه من الخطايا، ويقولُ الربُّ عزَّ وجلَّ: أنا قيدت عبدي وابتليتُه، وأَجْروا له كما كنتم تُجْرون له وهو صحيحٌ"؛ الحديث حسنه الألباني .. وفي محكم التنزيل: {وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ}، ويقول تبارك وتعالى: {قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ} ..

اللهمّ احفظْ كبارَ السّنِّ فينا، اللهمّ تولَّ أمرَهم وأعِنَّا على برِّهم والإحسانِ إليهم، وباركْ لهم في أعمارِهم وقوَّتِهم، وأصلحْ لهم عملَهم وذرّيّتَهم، وأرفع درجاتهم وأجزل مثوبتهم، اللهمّ اشْفهم من كل داء، وعافهم من كل بلاء، وألبسهم ثوب الصحة والعافية، وأسعدْهم واكتبْ لهم الحياةَ الطيّبةَ، في طول عمرٍ وحُسنَ خاتمة، يا ذا الجلالِ والإكرام ..

ويا ابن آدم عش ما شئت فإنك ميت، وأحبب من شئت فإنك مفارقه، واعمل ما شئت فإنك مجزي به، البر لا يبلى والذنب لا ينسى، والديان لا يموت، وكما تدين تدان ..

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply