بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
}أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ{258} أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّىَ يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ{259} وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ260}
لما أخبر أنه ولي الذين آمنوا، وأخبر: أن الكفار أولياؤهم الطاغوت، ذكر هذه القصة التي جرت بين إبراهيم والذي حاجه، وأنه ناظر ذلك الكافر فغلبه وقطعه، إذ كان الله وليه، وانقطع ذلك الكافر وبهت إذ كان وليه هو الطاغوت.
وأعلم أَنَّه تعالى ذكر ها هنا قصصًا ثلاثًا. الأولى: في بيان إِثبات العالم بالصَّانع، والثانية والثالثة: في إثبات الحشرِ والنَّشرِ والبعث.
{أَلَمْ تَرَ} أي ألم ينته إلى علمك؟، وهو سؤال مجازي متضمن معنى التعجب {إِلَى الَّذِي حَاجَّ} جادل ومارى وخاصم، وهو النمرود البابلي، ملك زمانه، صاحب الصرح ببابل، وصاحب النار والبعوضة، وقيل إنه ملك الدنيا بأجمعها أربعمائة عام، وأنه أول ملك في الأرض، وأول من وضع التاج على رأسه.. عن مجاهد قال: "ملك الأرض مؤمنان وكافران، فأمّا المؤمنان فسليمان بن داود وذو القرنين، وأمّا الكافران فنمرود وبختنصر".
{إِبْرَاهِيمَ فِي رِبِّهِ} وكان هذا الحِجاج قبل هجرة إبراهيم إلى أرض الشام، وقيل: كانت المحاجة بعد أن خرج من النار التي ألقاه فيها النمرود {أَنْ آتَاهُ اللّهُ الْمُلْكَ} تعليل، أي بطرته نعمة الملك الذي آتيناه إياه امتحانًا له فكفر وادعى الربوبية.
وقيل وضع المحاجة موضع ما وجب عليه من الشكر لله تعالى على إيتائه الملك، ومنه قوله تعالى: {وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ} [الواقعة:82]
{إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِـي وَيُمِيتُ} هذا من إبراهيم عن سؤال سبق من الكافر، وهو أن قال: من ربك؟ وإلاَّ فلا يبتدأ كلام بهذا.
واختص إبراهيم من آيات الله بالإحياء والإماتة لأنهما أبدع آيات الله وأشهرها، وأدلها على تمكن القدرة، كما أن هذين الوصفين العظميين المشاهدين للعالم لا ينفع فيهما حيل الحكماء ولا طب الأطباء.
{قَالَ أَنَا أُحْيِـي وَأُمِيتُ} ولم يقل: أنا الذي يحيي ويميت، لأنه كان يدل على «الاختصاص»، وكان الحس يكذبّه إذ قد حيي ناس قبل وجوده وماتوا، وإنما أراد أن هذا الوصف الذي ادعيت فيه الاختصاص لربك ليس كذلك، بل أنا مشاركه في ذلك.
{قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ} لما خيل الكافر أنه مشارك لرب إبراهيم في الوصف الذي ذكره إبراهيم، ورأى إبراهيم من معارضته ما يدل على ضعف فهمه أو مغالطته، فإنه عارض اللفظ بمثله، ولم يتدبر اختلاف الوصفين، ذكر له ما لا يمكن أن يدعيه، ولا يغالط فيه {فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ} انقطع عن الحجَّة متحِّيرًا مدهوشًا، فأفحم وبان عجزه وظهر كذبه.
{وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} فإذا كان الظالم لا يهديه الله، فصاحب العدل حري بأن يهديه الله عز وجل؛ فإن الإنسان الذي يريد الحق ويتبع الحق - والحق هو العدل - غالبًا يُهدى، ويوفّق للهداية؛ ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية عبارة من أحسن العبارات؛ قال: "من تدبر القرآن طالبًا الهدى منه تبين له طريق الحق"؛ وهذه كلمة مأخوذة من القرآن منطوقًا، ومفهومًا.
والآية دليل على جواز المجادلة والمناظرة في إثبات العقائد، والقرآن مملوء بذلك، وأما ما نهي عنه من الجدل فهو جدال المكابرة والتعصب وترويج الباطل والخطأ.
{أَوْ كَالَّذِي} أو رأيت مثل الذي؟ {مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} قيل: القرية كانت بيت المقدس لما خربها بختنصر، وقيل: قرية الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف {وَهِيَ خَاوِيَةٌ} فارغة من البشر {عَلَى عُرُوشِهَا} العروش جمع عرش وهو السقف، والمعنى أنها خاوية ساقطة جدرانها على سقوفها، وذلك أشد الخراب لأن أول ما يسقط من البناء السقف ثم تسقط الجدران على تلك السقف
{قَالَ أَنَّىَ} اسم استفهام للاستبعاد؛ وسياق الآية يرجحه. {يُحْيِـي هَـَذِهِ اللّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا} أي أنه استبعد حسب تصوره أن الله سبحانه وتعالى يعيد إلى هذه القرية ما كان سابقًا، وقال: كيف يحيي الله هذه القرية بعد موتها {فَأَمَاتَهُ اللّهُ مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ} أي أحياه؛ ولعل قائلًا يقول: إن المتوقع أن يقول: «ثم أحياه» ليقابل {أماته}؛ لكن «البعث» أبلغ؛ لأن «البعث» فيه سرعة؛ ولهذا نقول: انبعث الغبار بالريح، وما أشبه ذلك من الكلمات الدالة على أن الشيء يأتي بسرعة، واندفاع؛ فهذا الرجل بعثه الله بكلمة واحدة؛ قال مثلًا: «كن حيًا»، فكان حيًا.
{قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ} تذكر أنه نام في أول النهار ووجد الوقت الذي أفاق فيه آخر النهار {قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فَانظُرْ إِلَى طَعَامِكَ} وكان سلة من تين {وَشَرَابِكَ} كان عصيرًا من عنب {لَمْ يَتَسَنَّهْ} لم يتغير، وأصله مشتق من السَنة لأن مرور السنين يوجب التغير {وَانظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِّلنَّاسِ} فكان من قوة الكلام انظر إلى ما ذكر جعلناه آية لك على البعث، وجعلناك آية للناس، لأنهم لم يروا طعامه وشرابه وحماره، ولكن رأوا ذاته وتحققوه بصفاته، فقد روي أنه قام شابًا على حالته يوم مات فوجد أولاده وأولادهم شيوخًا {وَانظُرْ إِلَى العِظَامِ كَيْفَ نُنشِزُهَا} وقرأ جمهور العشرة {نُنْشِرهَا} بالراء، مضارع أنشر، بمعنى الإحياء. وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم والكسائي وخلف: {نُنْشِزُهَا} النشز: هو ما ارتفع من الأرض، ومعنى: أنشز الشيء جعله مرتفعًا، ومنه: {وَإِذَا قِيلَ انشُزُوا فَانشُزُوا} [المجادلة:11]، وامرأة ناشز، أي: مرتفعة عن الحالة التي كانت عليها مع الزوج. والمعنى: نرفعها ونجمعها لتكون حمارًا كما كانت {ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا} وتجلت قدرة الله تعالى في عدم تغير الذي جرت العادة أنه يتغير في ظرف يوم واحد، وهو سلة التين وشراب العصير. وفي تغير الذي جرت العادة أنه لا يتغير إلا في عشرات الأعوام، وهو الحمار. كما هي ظاهرة في موت صاحبهما وحياته بعد لبثه على وجه الأرض ميتًا لم يعثر عليه أحد طيلة مائة عام {فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} «القدرة» صفة تقوم بالقادر بحيث يفعل الفعل بلا عجز.
{وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ} معطوف على قوله: {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ} [البقرة:259]، فهو مثال ثالث لقضية قوله: {اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة:257] ومثال ثاني لقضية {أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ}.
وإبراهيم -عليه السلام- هو الأب الثالث للأنبياء؛ فالأول: آدم؛ والثاني: نوح؛ والثالث: إبراهيم، كما قال الله سبحانه وتعالى: {ملة أبيكم إبراهيم} [الحج: 78]، وقال تعالى في نوح: {وجعلنا ذريته هم الباقين} [الصافات: 77]؛ وآدم معلوم أنه أبو البشر: قال الله تعالى: {يا بني آدم} [الأعراف: 26] .
{رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِـي الْمَوْتَى} سؤال عن حال الإحياء وصورته لا عن وقوعه، فإن إبراهيم لفرط محبته الوصول إلى مرتبة المعاينة في دليل البعث رام الانتقال من العلم النظري البرهاني، إلى العلم الضروري، فسأل الله أن يريه إحياء الموتى بالمحسوس.
والمعنى: أي اجعلني أنظر، وأرى بعيني؛ والسؤال هنا عن الكيفية لا عن الإمكان؛ لأن إبراهيم لم يشك في القدرة؛ ولا عن معنى الإحياء؛ لأن معنى الإحياء عنده معلوم؛ لكن أراد أن يعلم الكيفية: كيف يحيي الله الموتى بعد أن أماتهم، وصاروا ترابًا وعظامًا.
{قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن} هذا الاستفهام للتقرير؛ وليس للإنكار، ولا للنفي؛ فهو كقوله تعالى: {ألم نشرح لك صدرك} [الشرح:1] يعني: قد شرحنا لك؛ فمعنى {أو لم تؤمن}: ألست قد آمنت؛ لتقرير إيمان إبراهيم صلى الله عليه وسلم.
{قَالَ بَلَى وَلَـكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي} أي ليزداد طمأنينة بالمعاينة؛ وإلا فقد كان مطمئنًا؛ و«الطمأنينة» هي الاستقرار، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: (اركع حتى تطمئن راكعًا... اسجد حتى تطمئن ساجدًا)، أي تستقر.
{قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ} وجيء بـ {من} للتبعيض لدلالة على أن الأربعة مختلفة الأنواع، والظاهر أن حكمة التعدد والاختلاف زيادة في التحقق أن الإحياء لم يكن أهون في بعض الأنواع دون بعض، فلذلك عددت الأنواع، ولعل جعلها أربعة ليكون وضعها على الجهات الأربعة: المشرق والمغرب والجنوب والشمال لئلا يظن لبعض الجهات مزيد اختصاص بتأتي الإحياء {فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ} اضممهن إليك، وفائدة الأمر بإدنائها أن يتأمل أحوالها حتى يعلم بعد إحيائها أنها لم ينتقل جزء منها عن موضعه {ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا} أخذ برأس كل طير على حِدَةٍ ودعاه فاجتمعت أجزاؤه المفرقة المختلطة بأجزاء غيره وجاءه يسعى فقدم له رأسه فالتصق به وطار في السماء.
{وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ} غالب لا يمتنع عنه ولا منه شيء أراده بحال من الأحوال {حَكِيمٌ} لا يخلُق عبثا ولا يوجد لغير حكمه، ولا يضع شيئا في غير موضعه اللائق به.
والله سبحانه وتعالى يقرن كثيرًا بين هذين الاسمين: «العزيز» و «الحكيم» ؛ لأن العزيز من المخلوقين قد تفوته الحكمة لعزته: يرى نفسه عزيزًا غالبًا، فيتهور في تصرفاته، ويتصرف بدون حكمة؛ والحكيم من المخلوقين قد لا يكون عزيزًا؛ فإذا اقترنت حكمته بعزة صار له سلطان وقوة، ولم تفته الأمور؛ فجمع الله لنفسه بين العزة، والحكمة.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد