بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
إن اجتماع القلوب وتصافيها، وعدم اختلافها هو مقصد عظيم للشرع الحكيم، وإن في اختلافها وتنافرها من السلبيات المتنوعة ما لا يعلمه إلا الله، سواء كان بين الزوجين، أو الإخوة والأخوات، أو الأصدقاء، أو الجيران، أو الزملاء أو غيرهم.
وإن من أعظم الوسائل لجمع القلوب وتصافيها، هو الاعتراف بالفضل لأهل الفضل، إذا بدرت منهم بعض الأخطاء، أو التجاوزات، فهناك شريحة من الناس ترى من غيرها أعمالًا وأقوالًا فاضلة وكرائمَ جميلة في كثير من الأوقات، لكنها مع الأسف في حين من الأحيان ترى سوءًا لا يعادل خمسة في المائة من تلك الفضائل السابقة، فتجعل تلك النسبة الضئيلة التي تحتمل عدة وجهات في النظر هي الغالبة والراسخة لتلك الفضائل، وهذا لا شك جهل كبير، ونقص في العدل والموازين، وهنا يأتي التوجيه القرآني الكريم؛ حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237]، وهذا وإن كان في سياق الحديث عن الأزواج والزوجات، لكن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، والأصل في الإنسان هو الفضل والفضيلة، والفضل هو أعلى درجات المعاملة، ويُعرِّفه الشيخ عبدالرحمن السعدي رحمه الله بقوله: (هو فعل ما ليس بواجبٍ)؛ لأن المعاملة نوعان: الأول واجب، وهو العدل والإنصاف، والثاني: فضل ومستحب وهو الإحسان.
ومع تلك القاعدة التربوية العظيمة، سنقف عشرين وقفة، لعل الله تعالى أن ينفع بها قائلها، ومستمعها إنه سميع قريب.
الوقفة الأولى: إن هذا الجزء من الآية هو قاعدة عظيمة من قواعد السلوك بين الناس عامة والأزواج خاصة، فالأخذ بتلك القاعدة من أسباب السعادة والانشراح، وأما نسيانها فذلك من أسباب الافتراق والابتعاد، وبين هذا وذاك كما بين المشرق والمغرب، ولا شك أن الأخذ بها يقودك إلى نتائج عظيمة إيجابية، هي من مخرجات تلك القاعدة.
الوقفة الثانية: إن هذه اللفظة: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ جاءت بعد الحديث عن العفو (﴿ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ﴾[البقرة: 237]، ثم قال تعالى بعدها مباشرة: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾، وفي هذا دلالة واضحة على أن الأخذ بتلك القاعدة من نتائجه العظيمة (العفو)، وهو من أكبر الأهداف المؤثرة في الصلاح والإصلاح.
الوقفة الثالثة: إذا حصل الفراق والتباعد سواء بين الزوجين أو غيرهما، فلا ينبغي الشماتة والغيبة والسب، فإن هذا ينافي هذا المقصد العظيم للشرع، ويوغر في الصدور، ويمحق كثيرًا من الحسنات، ويكون سببًا في توسيع دائرة الافتراق والتباعد، فأمسك لسانك، واحفَظ حسناتك، فهو أربح وأريح لك دنيا وأخرى، ولا تتصور أنك تتشفى بذلك، بل أنت تشقى مع مرور الزمن على تلك الحال.
الوقفة الرابعة: إذا تعارف الناس بالفضل من بعضهم لبعض، سالت دماء الصلح والإصلاح في عروقهم، وسهُل على المخطئ الاعتراف بخطئه، وسهل على من وقع عليه الخطأ أن يعفو، بخلاف نسيان تلك الإفضالات، فهو سد كبير في طريق صلاح الحال والمآل، إلا أن يشاء الله تعالى.
الوقفة الخامسة: إن الحياة مع الأخذ بهذه القاعدة العظيمة ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ تكون جميلة، سواء اتفقنا أو افترَقنا، وتقلل دائرة الخلاف، وتعطي أملًا كبيرًا في السعي إلى الصلاح والإصلاح، وتسهل على المصلحين الوصول إلى نقطة اتفاق ينطلق منها المتخالفان، فالنزاع مثلًا بين الابن والأب، ماذا لو جلس هذا الابن جلسة خفيفة يتأمل فيها فضل أبيه عليه الذي هو كأمثال الجبال، سواء في المآكل أو المشارب أو الملبوس، أو المسكون أو عموم أوجه التربية والرعاية، لا شك أن هذا ستنغمس فيه جميع الأخطاء مهما كانت، وقل مثل هذا في القرابات والزوجات والجيران وغيرهم، كل بحسبه، فالحياة الجميلة هدف لكل عاقل حصيف منصف.
الوقفة السادسة: لهذه القاعدة ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ تطبيقات في حياتنا اليومية، فمن هذه التطبيقات علاقة العمل، فإذا عمل اثنان في عمل، ثم افترقا لظرف طبيعي، فلا ينبغي أن ينسى أحدهم للآخر فضله الذي قدمه، ومن ذلك المعلمون الأفاضل الذين تعلمنا على أيديهم، فلا بد من رد الوفاء لفضلهم بزيارتهم، وخدمتهم ونحو ذلك، ومن ذلك الجار الصالح يُتعاهد ونحو ذلك، ممن كان لنا معهم علاقات وبصمات على اختلاف أصنافهم، وإن من أقل ما يرد به على أصحاب الفضل أن يُدعى لهم بظهر الغيب، فهو لا يكلف شيئًا، لكنه شيء عظيم وكفى به ردًّا كريمًا.
الوقفة السابعة: إذا كنت في حاجة إلى المال، ثم أقرضك فلان حاجتك، فلا تنسى فضله هذا، عليك بسداده في وقته، وعدم تأخيره وشكره والدعاء له وخدمته، مقابل ذلك فإن ذلك يتولد منه إحسان آخر، بخلاف سوء الحال في رد ذلك القرض، فإنه يتولد عنه نزع الإحسان عنك، وربما نُزع عن غيرك.
في حين أن البعض هداهم الله قد ينقلب على عقبيه، فينكر أو يتناسى هذا القرض، وربما إذا سدده، سدَّده في جهد جهيد، ومشقة على صاحب المال المحسِن، وهذا لا شك نسيان لهذا الفضل؛ مما جعل بعض المحسنين يتوقفون عن هذا الجانب الكبير من الإحسان بسبب هذه المواقف السلبية.
الوقفة الثامنة: إن عدم نسيان الفضل هو نوع من الإحسان، وقد ورد في القرآن الكريم محبة الله تعالى للمحسنين ومعيته، ورحمته بهم وجزاؤه لهم بالإحسان، فلا تفُتك - أخي المبارك - هذه الأمور الطيبة العظيمة بنسيان الفضل لغيرك.
الوقفة التاسعة: لا ينبغي أن تكون ساعة الخصومة بين كل اثنين تهدم مودة سنين، قال أبو حاتم البستي رحمه الله: "من لم يكن لقليل المعروف عنده وقْعٌ، أوشَكَ ألا يشكر الكثير منه"، وقال الشافعي رحمه الله: "الحر من حفظ الوداد ولو لحظة".
الوقفة العاشرة: مما يؤسف له عند بعض الناس أنه عندما يحل الفراق بعد الوفاق، نجد أعراضًا تنتهك، وأسرارًا تعلن، وكأن هذين المفترقين لم يعيشا ولا يومًا واحدًا، فذهب الإحسان كالسراب، وبات الأمر أوهنَ من بيت العنكبوت، وما أبعد شعرة معاوية عن تفكير هؤلاء، وهذا لا شك أنه من ضعف الإدراك والشخصية، فلا دينًا بهذا أقاموه، ولا خلقًا رفيعًا امتثلوه!
الوقفة الحادية عشرة: جاء زوجان مفترقان متخاصمان أشد الخصومة للمحكمة، وكل منهما قد دفعه الشيطان وأزَّه أزًّا لغلبة صاحبه، ولكن بتوفيق من الله تبارك وتعالى ثم بحكمة القاضي وحنكته، جلس مع كل منهما جلسة خاصة وناقش معه قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾، فما كان منهما إلا أن تصالحا وتصافيا بحمد الله، فما أحوجنا للتأمل والتدبر قبل التصرف!
الوقفة الثانية عشرة: إن عدم نسيان الفضل هو عين الحكمة والعقل، وعندما نقارن بين نسيان الفضل وعدمه، نجد فرقًا كبيرًا في الربح والخسارة، والعاقل يتحمل مشقة ساعة، فيعرف لأهل الفضل فضلهم؛ ليرتاح ضميره ويطرد شيطانه، وتسعد حياته، ويقطع ما يرد مستقبلًا من الشرور فإن مع نسيان الفضل تتجدد السلبية، ومع الاعتراف به تتجدد الإيجابية.
الوقفة الثالثة عشرة: يتعين علينا جميعًا أن نعترف في الفضل لأهله ولا ننساه لهم قولًا وواقعًا عمليًّا، فقد نجد البعض من الناس قد يتمثل هذا قولًا ونصحًا وإرشادًا للآخرين، لكنه في الدائرة العملية الواقعية، قد يتخلف هذا الشعور وهذه مصيبة عظيمة أن تخالف أقوالُنا أفعالَنا.
الوقفة الرابعة عشرة: إن كنا نقول: لا ننسى لأهل الإحسان إحسانهم، فكذلك نقول للمحسن عند الفراق لا ينبغي أن تذكر إحسانك في مجالسك، فتقول - متحدثًا عن صاحبك -: فعلتُ كذا وكذا في الإحسان عليه، ونحو ذلك، فإن هذا الإحسان بينك وبين الله تعالى ترجو ثوابه وأجره، فكن كذلك.
الوقفة الخامسة عشرة: من نسيان الفضل بين الزوجين تسريب الخلافات الزوجية إلى خارج محيط البيت، وهذا في كثير من الأحيان يزيد المشكلة تعقيدًا ويزيدها جفاءً، بينما لو كانت المشاكل مذكورة في دائرة النقاش بين الزوجين، وإذا لزم الأمر فلا تخرج المشكلة إلا إلى مصلِح أو مصلِحة، كلجان الإصلاح المنتشرة في بلادنا المباركة، فخروجها إليهم هي من طرق الحل السليمة، أما التسريب باسم الاستشارة إلى مَن ليس أهلها، فهو فضفضة ليس إلا، وقد لا يفيد في الموضوع شيئًا كثيرًا.
الوقفة السادسة عشرة: لا يتذوق طعم مخرجات هذه القاعدة العظيمة إلا من عاشها واقعًا عمليًّا، فتراه يعفو ويصفح ويحسن ما يستطيعه من وجوه الإحسان، كيف لا وهو يخوض في محبة الله ومعيته ورحمته وعونه وجزائه، أما من عاشها نظريًّا وينساها في الميدان العملي، فهو لم يتذوقْها في حقيقتها.
الوقفة السابعة عشرة: قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾ [البقرة: 237] لها مفهومان:
المفهوم الأول: ألا تنسوا الإحسان الذي كان بينكم في السابق، فتذكروه الآن لتتصافى القلوب، وهذا المفهوم هو في الحقيقة جزء من المعنى.
المفهوم الثاني: وهو المراد لا تنسوا فعل الفضل والإحسان بينكم في الحاضر مع تذكُّركم ما تم من الإحسان بينكما في السابق.
فالثاني أشمل وأعم وهو المراد.
الوقفة الثامنة عشرة: إن القيم والأخلاق وبذلها من عدم نسيان الفضل بيننا، وذلك كالسلام والكلمة الطيبة والابتسامة والأخلاق الفاضلة والإحسان عامة، صغُر أم كبُر.
الوقفة التاسعة عشرة: إن الجزاء من جنس العمل، فكما لا تنسى الفضل بينك وبين الناس، فكذلك يُيسر الله تعالى إحسان الناس إليك، فلا ينسون الفضل بينهم وبينك.
الوقفة العشرون: في عدم نسيان الفضل الراحة والسكينة والعزة والاطمئنان، وهذه لا شك أنها أركان في استقرار حياة الإنسان، ولكنك في تنفيذك لذلك استشعر أن تعمل الفضل مستحضرًا الإخلاص لله رب العالمين، وعندها أبشر بكل خير وسرور.
فيا أيها الزوجان الكريمان، تفاهما بأدب وبحوار هادف، وبنظر ثاقب للعواقب، فخلفكما ذرية، وسمعة، وعوائل تنتميان إليها، فصفِّيَا ماءكما بأنفسكما ما استطعتم إلى ذلك سبيلًا، ولو كان بتنازل كل طرف عن شيء من حقه تغليبًا للمصلحة؛ لأنكما جميعًا مشتركان في القضية، فنجاح أحدكما نجاح الآخر، أما التجافي والتعالي وتخطئة كل للآخر، فهو هدم للأسرة من حيث إن البعض مع الأسف يرى هذا انتصارًا، وهو ليس كذلك.
أيها الإخوة الكرام، هذه عشرون وقفة سريعة، مع قول الله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ ﴾، فلا تنسوا أن تأخذوا هذه القاعدة الربانية بعين الاعتبار في جميع شؤونكم ومعاملاتكم، وفَّقنا الله جميعًا لمراضيه، وجنَّبنا أسباب سخطه ومعاصيه
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد