بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
قد أمر الله عز وجل عبادة بالتوبة، فقال سبحانه وتعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور:31] قال العلامة العثيمين رحمه الله: إن التوبة من مقتضيات الإيمان، وأن من فرط فيها فهو دليل على نقص إيمانه.
فعلى كل مسلم حريص على تمام إيمانه وكماله أن يبادر بالتوبة من جميع الذنوب والمعاصي، ولا يسوف في ذلك، فالإنسان لا يعلم متى يأتيه الأجل.
للسلف أقوال في التوبة، جمعت بفضل الله بعضًا منها، أسأل الله الكريم أن ينفع بها
منزلة التوبة وأهميتها:
** قال الإمام النووي رحمه الله: التوبة أهم قواعد الإسلام، وهي أول مقامات سالكي طريق الآخرة.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: منزلة التوبة أول المنازل وأوسطها وآخرها، فلا يفارقه العبد، ولا يزال فيه إلى الممات، وإن ارتحل إلى منزل آخر ارتحل به، ونزل به، فالتوبة هي بداية العبد ونهايته، وحاجته إليها في النهاية ضرورية، كما حاجته إليها في البداية كذلك.
وقال: التوبة من الذنب كشُربِ الدواء للعليل.
وقال: لأهل الذنوب ثلاثة أنهار عظام يتطهرون بها في الدنيا، فإن لم تفِ بطهرهم طُهروا في نهر الجحيم يوم القيامة: نهر التوبة النصوح، ونهر الحسنات المستغرقة للأوزار المحيطة بها، ونهر المصائب العظيمة المكفرة.
فضل التوبة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: يدل على فضل التوبة قوله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ ﴾ [البقرة:222] وقال رسول الله عليه الصلاة والسلام: (( التائب من الذنب كمن لا ذنب له ))
** قال العلامة السعدي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ فَإِن يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَّهُمْ﴾ [التوبة:74] لأن التوبة أصل لسعادة الدنيا والآخرة.
معنى التوبة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: ومن معناها: ترك المعاصي في الحال، والعزم على تركها في الاستقبال، وتدارك ما سبق من التقصير في سابق الأحوال، وأما التندم على ما سبق فواجب، وهو روح التوبة.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: لا سبيل إلى الفلاح إلا بالتوبة، وهي الرجوع مما يكرهه الله ظاهرًا وباطنًا إلى ما يحبه ظاهرًا وباطنًا.
شروط التوبة:
قال الإمام النووي رحمه الله: التوبة واجبة من كل ذنب. فإن كانت المعصية بين العبد وبين الله تعالى لا تتعلق بحق آدمي فلها ثلاثة شروط:
أحدها: أن يقلع عن المعصية.
الثاني: أن يندم على فعلها.
الثالث: أن يعزم أن لا يعود إليها أبدًا
فإن فقد أحد الثلاثة لم تصح توبته. وإن كانت المعصية تتعلق بآدمي فشروطها أربعة: هذه الثلاثة، وأن يبرأ من حق صاحبها، فإن كانت مالًا أو نحوه ردّهُ إليه، وإن كان حد قذف ونحوه مكّنه منه، أو طلب عفوه.
وجوب التوبة على الفور:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: اعلم أن وجوب التوبة ظاهر بالأخبار والآيات، قال الله تعالى: ﴿ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [النور:31] وهذا أمر على العموم،
والأخبار والآثار في ذلك لا تحصى، والإجماع منعقد من الأمة على وجوبها.
أما وجوبها على الفور فلا يستراب فيه، إذ معرفة كون المعاصي مهلكات من نفس الإيمان، وهو واجب على الفور.
المعاصي للإيمان كالمأكولات المضرة للأبدان، فإذا كان الخائف من الهلاك في هذه الدنيا المنقضية يجب عليه ترك السموم، وما يضره من المأكولات في كل حال وعلى التوبة، قبل أن تعمل سموم الذنوب بروح الإيمان عملًا يجاوز الأمر فيه الأطباء واختيارهم، ولا ينفع بعده الاحتماء، فلا ينجح بعد ذلك نصح الناصحين، ووعظ الواعظين.
التوبة النصوح، والتوبة الصادقة الصحيحة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحًا ﴾ [التحريم:8] ومعنى النصوح: الخالص لله تعالى.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة المقبولة الصحيحة لها علامات: منها: أنه لا يزال الخوف مصاحبًا له، لا يأمن طرفة عين، فخوفه مستمر إلى أن يسمع قول الرسل لقبض روحه: ﴿ ألا تخافوا ولا تحزنوا وأبشروا بالجنة التي كُنتم تُوعدون ﴾ [فصلت:30] فهناك يزول الخوف.
ومنها: أن يكون بعد التوبة خيرًا مما كان قبل التوبة
ومن موجبات التوبة الصحيحة كسرة خاصة تحصل للقلب لا يشبهها شيء، ولا تكون لغير التائب، تكسر القلب بين يدي ربه كسرةً تامة قد أحاطت به من جميع جهاته، وألقته بين يدي ربه طريحًا ذليلًا خاشعًا.
ما أصعب التوبة الصحيحة بالحقيقة ! وما أسهلها باللسان والدعوى ! وما عالج الصادقُ شيئًا أشقَّ عليه من التوبة الصادقة الخالصة، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
** قال العلامة عبدالرحمن السعدي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ﴾ أي: لا لمقصد غير وجهه من سلامة من آفات الدنيا أو رياء وسمعة أو نحو ذلك من المقاصد الفاسدة
** قال العلامة العثيمين رحمه الله: علامة التوبة المقبولة أن الله سبحانه وتعالى يشرحُ صدر المرء ويُنيرُ قلبهُ، ويرى أنه أسقط عنهُ حملًا ثقيلًا كان عليه.
النجاة من غضب الله بالتوبة النصوح وكثرة الاستغفار:
قال محمود بن والان: سمعت عبدالرحمن بن بشر، سمعت ابن عيينة يقول: غَضَبُ الله داء لا دواء له، قلت: دواؤه كثرة الاستغفار بالأسحار، والتوبة النصوح.
من أصبح وأمسى من غير توبة فهو على خطر عظيم:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: من أصبح أو أمسى على غير توبة فهو على خطر، لأنه يخشى أن يلقى الله غير تائب فيحشر في زمرة الظالمين، قال الله تعالى: ﴿ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ ﴾ [الحجرات:11]
تأخير التوبة قبيح في حال الشباب، وفي حال المشيب أقبح وأقبح:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: تأخير التوبة في حال الشباب قبيح وفي حال المشيب أقبح وأقبح.
الشقي الذي لا يوفق للتوبة، وأقبح منه المنتكس:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الناس...من لا يوفق لتوبة نصوح بل ييسر له عمل السيئات من أول عمره إلى آخره حتى يموت مصرًا عليها، وهذه حالة الأشقياء.
وأقبح من ذلك: من يسر له في أول عمره عمل الطاعات ثم ختم له بعمل سيء حتى مات عليه، ما أصعب الانتقال من البصر إلى العمى، وأصعب منه الضلالة بعد الهدى، والمعصية بعد التقى.
كم من شارف مركبه ساحل النجاة، فلما هم أن يرقى لعب به موج الهوى فغرق.
من صدق في التوبة أعانه الله:
** قال أبو سليمان الدارني رحمه الله: من صدق في ترك شهوة أذهبها الله من قلبه
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: لا تستصعب مخالفة الناس والتحيُز إلى الله ورسوله ولو كنت وحدك، فإن الله معك، وأنت بعينه وكلاءته وحفظه لك، وإنما امتحن يقينك وصبرك
إنما يجد المشقة في ترك المألوفات والعوائد من تركها لغير الله، فأما من تركها صادقًا مخلصًا من قلبه لله، فإنه لا يجد في تركها مشقة إلا في أول وهلة، ليُمتحن أصادق هو في تركها أم كاذب؟ فإن صبر على تلك المشقة قليلًا استحالت لذة.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: من أشبه آدم بالاعتراف، وسؤال المغفرة، والندم، والإقلاع إذا صدرت منه الذنوب، اجتباه ربه وهداه، ومن أشبه إبليس إذا صدر منه الذنب، لا يزال يزداد من المعاصي فإنه لا يزداد من الله إلا بعدًا.
النظر في مرآة التوبة:
قال إبراهيم بن أدهم: إذا أدمنت النظر في مرآة التوبة بان لك شين قبح المعصية.
أكذب الناس:
قال الفضيل بن عياض رحمه الله: أكذب الناس العائد في ذنبه.
المبادرة بالتوبة قبل المرض والموت:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: روى عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: ﴿ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ ﴾ [النساء:17] قال: قبل المرض والموت، وهذا إشارة إلى أن أفضل أوقات التوبة، وهو أن يبادر الإنسان بالتوبة في صحته قبل نزول المرض به حتى يتمكن حينئذٍ من العمل الصالح، ولذلك قرن الله تعالى التوبة بالعمل الصالح في مواضع كثيرة من القرآن.
التوبة صفاء للقلب:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: من أراد صفاء قلبه فليؤثر الله على شهوته.
الخوف من الله دافع إلى التوبة من الذنوب:
قال بكر بن عبدالله المزني: إن رجلًا أولع بجارية لبعض جيرانه، فأرسلها مولاها إلى حاجة لهم في قرية أخرى، فتبعها، فراودها عن نفسها، فقالت: لا تفعل، لأنا أشدُّ حبًّا لك منك، ولكني أخاف الله، قال: فأنت تخافينه، وأنا لا أخافه، فرجع تائبًا.
محافظة التائب على سبب توبته:
قال الإمام النووي رحمه الله: يستحب لمن تاب بسبب من الخير، أن يحافظ على ذلك السبب فهو أبلغ في تعظيم حرمات الله، كما فعل كعب في الصدق. والله أعلم.
ستر التائب على نفسه:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: جمهور العلماء على أن من تاب من ذنب فالأصل أن يستر على نفسه ولا يقرَّ به عند أحد، بل يتوب منه فيما بينه وبين الله عز وجل
التوبة تعجن بمعجون يعجن من حلاوة العلم، ومرارة الصبر:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: لا يقف على الدواء من لا يقف على الداء....ولا سبب للإصرار إلا الغفلة والشهوة، ولا يضاد الغفلة إلا العلم، ولا يضاد الشهوة إلا الصبر على قطع الأسباب المحركة للشهوة، والغفلة رأس الخطايا، فلا دواء إذن للتوبة إلا معجون يعجن من حلاوة العلم، ومرارة الصبر.
الطريق الذي يسلكه الواعظ مع الخلق:
قال الإمام الغزالي رحمه الله: فإن قلت: فاذكر الطريق الذي ينبغي أن يسلكه الواعظ في طريق الوعظ مع الخلق؟ فاعلم أن ذلك يطول...ونشير إلى الأنواع النافعة في حل عقد الإصرار، وحمل الناس على ترك الذنوب، وهي أربعة أنواع:
الأول: أن يذكر ما في القرآن من الآيات المخوفة للمذنبين والعاصين، وكذلك ما ورد من الأخبار والآثار. والأخبار والآثار في ذم المعاصي ومدح التائبين لا تحصى.
الثاني: حكايات السلف الصالح وما حرى عليهم من المصائب بسبب ذنوبهم، فذلك شديد الوقع، ظاهر النفع في قلوب الخلق.
الثالث: أن يقرر عندهم أن تعجيل العقوبة في الدنيا متوقع على الذنوب، وأن كل ما يصيب العبد من المصائب فهو بسبب جناياته.
والأخبار كثيرة في آفات الذنوب في الدنيا من الفقر والمرض وغيره.
أما المطيع فمن بركة طاعته أن تكون كل نعمة في حقه جزاء على طاعته، ويوفق لشكرها، وكل بلية كفارة لذنوبه، وزيادة في درجاته.
الرابع: ذكر ما ورد من العقوبات على آحاد الذنوب، كالخمر والزنا والسرقة والقتل والغيبة والكبر والحسد.
التوبة من الذنوب سبب لرحمة الملوك برعيتهم:
قال مالك بن دينار: قرأت في الحكم، إن الله تعالى يقول: أنا ملك الملوك، قلوب الملوك بيدي، فمن أطاعني جعلتهم عليه رحمة، ومن عصاني جعلتهم عليه نقمة، فلا تشغلوا أنفسكم بسب الملوك، ولكن توبوا إليَّ أعطفهم عليكم.
التوبة ليست مجرد قول باللسان:
** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: من شرط قبول الاستغفار أن يقلع المستغفر عن الذنب، وإلا فالاستغفار باللسان مع التلبس بالذنب كالتلاعب.
** قال العلامة العثيمين رحمه الله: التوبة التي تردُ على الألسن كثيرًا ما أكثر ما نقول وما أكثر ما يُقال: أستغفر الله وأتوب إليه! والتوبة ليست مجرد قول باللسان بل التوبة إنابة وإقبال على الله عز وجل وهرب من معصيته إلى طاعته، ولهذا نقول: التوبة الرجوع من معصية الله إلى طاعته، هذه هي التوبة، فإذا كنت في ترك واجب فالتوبة فعل الواجب، وإذا كنت في فعل محرم فالتوبة الإقلاع عن ذلك المحرم وأما من قال في ترك الواجب: أتوب إلى الله وهو مصر على تركه، فهو كاذب في توبته، بل هو إلى الاستهزاء بالله أقرب منه إلى التوبة إلى الله كيف تقول: أستغفر الله من ترك الواجب وأنت مضيع للواجب لم تقم به؟ ومن قال في فعل محرم: أتوب إلى الله منه، وهو مُصر عليه فهو إلى الاستهزاء بالله أقربُ منه إلى التوبة إلى الله كيف تقول: اللهم إني أتوب إليك من فعل محرم وأنت متلبس به؟لو كنت مُخاطبًا بشرًا مثلك، نهاك عن شيءٍ وقلت له : أتوب إليك من هذا الشيءِ وأنت مُصر على معصيته على هذا الذي نهاك عنه لقال :إنك تستهزئُ بي فكيف بربِّ العالمين الذي يعلم خائنة الأعين وما تخفى الصدور
إلى من عزم على التوبة:
** قال الإمام الغزالي رحمه الله: الرجاء...محمود...في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة، فقال له الشيطان: وأنّى تقبل توبتك، فيقنط من رحمة الله تعالى، فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا﴾ [الزمر:53] وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده، وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب، قال الله تعالى : ﴿قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ۚ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ۚ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنِيبُوا إِلَىٰ رَبِّكُمْ﴾[الزمر:53_54] أمرهم بالإنابة.
وقال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ﴾ [طه:82] فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج، وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور.
** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: أيها العاصي...إذا خرجت من المجلس وأنت عازم على التوبة قالت لك ملائكة الرحمة: مرحبا وسهلًا، فإن قال لك رفقاؤك في المعصية: هلم إلينا، فقل لهم: كلا، ذاك خمر الهوى الذي عهدتموه قد استحال خلًا.
** قال العلامة السعدي رحمه الله: قوله تعالى: ﴿ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ ﴾ أي: لا تيأسوا منها، فتلقوا بأيديكم إلى التهلكة، وتقولوا قد كثرت ذنوبنا، وتراكمت عيوبنا، فليس لها طريق يزيلها، ولا سبيل يصرفها، فتبقون بسبب ذلك مصرين على العصيان، متزودين ما يغضب عليكم الرحمن، ولكن اعرفوا ربكم، بأسمائه الدالة على كرمه وجوده، واعلموا ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا ﴾ من الشرك، والقتل، والزنا، والربا، والظلم، وغير ذلك من الذنوب الكبار والصغار...فلا ييأس أحد من رحمته ومغفرته، فإنه يغفر الذنوب جميعًا، وهو أرحم بعباده من الوالدة بولدها.
من تاب، تاب الله عليه بل قد يبدل الله سيئاته حسنات
** قال العلامة السعدي رحمه الله: من ظلم نفسه بمعاصي الله، وتاب وأناب، فبدل سيئاته حسنات، ومعاصيه طاعات، فإن الله غفور رحيم.
** قال الشيخ سعد بن ناصر الشثري: من تاب من الذنب، فهذا يتوب الله عليه، ويمحو ذنبه، بل قد يبدل الله سيئاته حسنات. وهذا من رحمة العزيز الرحيم، قال تعالى: ﴿ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَىٰ ﴾ [طه:82] وقال جلا وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان:68_70]
آية كانت سببًا لتوبة عابدين:
قال الإمام القرطبي رحمه الله هذه الآية: ﴿ ألَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ ﴾ [الحديد:16] كانت سبب توبة: الفضل بن عياض، وابن المبارك رحمهما الله
خير أيام العبد يوم توبته:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: خير أيام العبد على الإطلاق وأفضلها يوم توبته إلى الله، وقبول الله توبته، لقول النبي صلى الله عليه وسلم لكعب: (( أبشر بخير يوم مرَّ عليك منذ ولدتك أمك ))
خوف التائب من ذنبه:
قال الحافظ ابن رجب رحمه الله: الصحيح أن التائب توبة نصوحًا مغفور له جزمًا، لكن المؤمن يتهم توبته، ولا يجزم بصحتها وقبولها، فلا يزال خائفًا من ذنبه وجلًا.
فرحة التائب بتوبته فرحة عجيبة، لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: الفرحة التي تحصل...بالتوبة،...فرحة عجيبة لا نسبة لفرحة المعصية إليها البتة. فلو علم العاصي أن لذة التوبة وفرحتها تزيد على لذة المعصية وفرحتها أضعافًا مضاعفة لبادر إليها أعظم من مبادرته إلى لذة المعصية.
فوازن إذن بين هذين الفرحين، وانظر ما يُعقبه فرحُ الظفر بالذنب من أنواع الأحزان والهموم والغموم والمصائب، فمن يشتري فرحة ساعة بغمِّ الأبد؟ وانظر ما يُعقبُه فرحُ الظفر بالطاعة والتوبة النصوح من الانشراح الدائم والنعيم وطِيب العيش، ووازن بين هذا وهذا، ثم اختر ما يليق بك ويناسبك. وكلّ يعملُ على شاكلته.
قولهم: "من ترك لله شيئًا عوضه الله خيرًا منه " حق. والعوضُ بأنواع مختلفة، وأجلَّ ما يعوض به: الأنسُ بالله، ومحبته، وطمأنينةُ القلب به، وقوته، ونشاطه، وفرحه، ورضاهُ عن ربه تعالى.
فرحة التائب عند مفارقته الدنيا:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: وهاهنا فرحة أعظم من هذا كله، وهي فرحته عند مفارقته الدنيا إلى الله، إذا أرسل إليه الملائكة فبشروه بلقائه، وقال له ملك الموت: اخرجي أيتها الروح الطيبة كانت في الجسد الطيب، أبشري بروح وريحان وربٍّ غير غضبان، اخرجي راضية مرضية عنك: ﴿ يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربك راضية مرضيةً * فادخلي في عبادي * وادخلي جنتي ﴾ [الفجر:27-30] ولكن هاهنا أمر يجب التنبيه عليه، وهو أنه لا يصل إلى ذلك إلا بعد ترحاتٍ ومضض ومِحَن لا تثبتُ لها الجبال، فإن صبر لها ظفر بلذة الفرح، وإن ضعُف عن حملها ولم يصبر لها لم يظفر بشيء.
فلو لم يكن بين يدي التائب إلا هذه الفرحة وحدها لكان العقل يأمره بإيثارها، فكيف ومن بعدها أنواع من الفرح منها: صلاة الملائكة الذين بين السماء والأرض على روحه، ومنها: فتح أبواب السماء له، ومنها: وصلاة ملائكة السماء عليها، وتشيع مقربيها لها إلى السماء الثانية فتفتح لها، ويصلي عليها أهلها، ويشيٍّعُها مقرَّبوها هكذا إلى السماء السابعة، فكيف يقدر فرحها وقد استؤذن لها على ربها ووليها وحبيبها، فوقفت بين يديه وأذن لها بالسجود فسجدت ثم سمعته سبحانه وتعالى يقول اكتبوا كتابه في علِّين ، ثم يُذهب به، فيرى الجنة ومقعده فيها وما أعده الله له ويلقى أصحابه وأهله فيستبشرون به ويفرحون به ويفرح بهم فرح الغائب يقدم على أهله، فيجدهم على أحسن حال، ويقدم عليهم بخير ما قدم به مسافر.
فرحة التائب يوم القيامة:
قال العلامة ابن القيم رحمه الله: هذا كله قبل الفرح الأكبر يوم حشر الأجساد، بجلوسه في ظل العرش، وشُربه من الحوض، وأخذه كتابه بيمينه، وثقل ميزانه، وبياض وجهه، وإعطائه النور التام، والناس في الظلمة، وقطعه جسر جهنم بلا تعويق، وانتهائه إلى باب الجنة، وقد أُزلفت له في الموقف، وتلقى خزنتها له بالترحيب والسلام والبشارة، وقدومه على منازله وقصوره وأزواجه وسراريه.
وبعد ذلك فرح آخر لا يُقدَّر ولا يُعبَّر عنه، تتلاشي هذه الأفراح كلُّها عند، وإنما يكون لأهل السنة المصدقين برؤية وجه ربهم تبارك وتعالى من فوقهم، وسلامه عليهم، وتكليمه إياهم ومحاضرته لهم.
الله جل جلاله يحبُّ ويفرح بتوبة التائب:
** قال يحيى بن معاذ رحمه الله: للتائب فخر لا يعادله فخر في جميع أفخاره. فرح الله بتوبته.
** قال العلامة ابن القيم رحمه الله: التوبة توجبُ للتائب آثارًا عجيبةً...منها: أنَّ الله سبحانه يحبُّه ويفرحُ بتوبته أعظم فرح، وقد تقرر أن الجزاء من جنس العمل، فلا ينسي الفرحة التي يظفرُ بها عند التوبة النصوح.
وتأمل كيف تجدُ القلب يرقص فرحًا وأنت لا تدري سبب ذلك الفرح ما هو، وهذا أمر لا يحسُّ به إلا حيُّ القلب، وأما ميتُ القلب فإنما الفرح عند ظفره بالذَّنب، ولا يعرف فرحًا غيره.
أشياء على التائب فعلها:
** قال حاتم الأصم رحمه الله: التوبة أن تنتبه من الغفلة، وتذكر الذنب،...وترجع من الذنوب مثل اللبن إذا خرج من الضرع لا يعود إليه، فلا تعد إلى الذنب كما لا يعود اللبن في الضرع.....وفعل التائب في أربعة أشياء:
الأول: أن تحفظ اللسان من الغيبة والكذب والحسد واللغو. الثاني: أن تفارق أصحاب السوء. الثالث: إذا ذكرت الدنب تستحيى من الله. الرابع: أن تستعد للموت، وعلامة الاستعداد أن لا تكون في حال من الأحوال غير راض من الله.
** قال الإمام النووي رحمه الله: استحباب مفارقة التائب المواضع التي أصاب بها الذنوب، والأخذان المساعدين له على ذلك، ومقاطعتهم ما داموا على حالهم، وأن يستبدل بهم صحبة أهل الخير، والصلاح، والعلماء والمتعبدين، والورعين، ومن يقتدى بهم، وينتفع بصحبتهم.
** قال الحافظ ابن حجر العسقلاني رحمه الله: التائب ينبغي له مفارقة الأحوال التي اعتادها في زمن المعصية، والتحول منها كلية، والاشتغال بغيرها.
ما يجب على للناس تجاه التائب:
** قال حاتم الأصم رحمه الله: يجب على الخلق أربعه أشياء:
ينبغي لهم أن يحبوا هذا التائب كما يحبه الله تعالى.
يدعوا له بالحفظ ويستغفروا له كما تستغفر له الملائكة.،
ويكرهوا له ما يكرهون لأنفسهم.
والرابع: أن ينصحوا للتائب كما ينصحون لأنفسهم.
** قال الإمام النووي رحمه الله: فيه تأليف من قرب إسلامه، وترك التشديد عليهم، ومن تاب من المعاصي، كلهم يتلطف بهم، ويدرجون في أنواع الطاعة قليلًا، قليلًا.
تحدث التائبين عن عصيانهم:
قال العلامة العثيمين رحمه الله: فإن قيل : يوجد بعض الكتاب المعاصرين المشهورين قد تابوا إلى الله عز وجل، وقد كانوا من العصاة، فهل يتحدثون بما عصوا الله به لأجل أن يعتبر أولو الأبصار، ويعتبر من يقلدونه من أهل المعاصي، حتى يرق قلب من يقرأ له، فهل يعتبر هذا غير ساترٍ على نفسه؟
قلنا : هذا حسب حال الإنسان ونيته، فإذا كان يقصد بذلك مصلحة فلا بأس، وقديمًا حكى عمرو بن العاص رضي الله عنه، عن نفسه أن كان على ثلاثة أطوار : منها أنه كان يود أن يتمكن من الرسول صلى الله عليه وسلم ويقتله، فلا بأس إذا كان المقصود بذلك التحدث بنعمة الله عز جل، أو حمل الآخرين على التوبة.
وقال رحمه الله: فإن قال قائل: رجل كان مُسرفًا على نفسه، كان مُنحرفًا في عقيدته، وفي أخلاقه، وفي عبادته، وفي معاملته، فهل له أن يقول: كنت كذا، فهداني الله؟فالجواب: على سبيل التفصيل لا تقُل، لأني أخشى أن يكون هذا من المجاهرين الذين يفعلون المنكر فيسترهم الله، ثم يتحدثون به، لكن على سبيل الإجمال لا بأس أن تقول: والله كنتُ ضالًا ضائعًا تائهًا، فمنَّ اللهُ عليَّ بالهداية وبالاستقامة، فلا بأس، أما على سبيل التفصيل، فهذا أخشى أن يكون من المجاهرة التي قال فيها رسول صلى الله عليه وعلى آله وسلم: (( كُلُّ أُمتي مُعافى إلا المجاهرين ))
وقال رحمه الله: أرى أن التي تابت لا يجوز لها أن تبوح بذلك، ولا يجوز لأحدٍ أن ينشُر هذا...وأيُّ فائدةٍ أن نقول: فتاة خرجت مع شاب وفعل بها ثُم ندمت وتابت؟ أليس هذا يوجب أن يهُون الأمرُ في نفوس السامعين والقارئين؟
وختامًا فهذه موعظة من الحافظ ابن رجب رحمه الله، يقول فيها:
التوبة، التوبة قبل أن يصل إليكم من الموت النوبة فيحصل المفرط على الندم والخيبة
الإنابة، الإنابة، قبل غلق باب الإجابة، الإفاقة، الإفاقة، فقد قرب وقت الفاقة. ما أحسن قلق التواب، ما أحلى قدوم الغياب، ما أجمل وقوفهم بالباب!
يا من سود كتابه بالسيئات قد آن لك بالتوبة أن تمحو، يا سكران القلب بالشهوات أما آن لفؤادك أن يصحو.
يا من لا يقلع عن ارتكاب الحرام لا في شهر حلال ولا في شهر حرام، يا من هو في الطاعات إلى وراء، وفي المعاصي إلى قدَّام، يا من هو في كل يوم من عمره شرًا مما كان في قبله من الأيام، متى تستفيق من هذا المنام؟ متى تتوب من هذا الإجرام؟
من نزل به الشيب فهو بمنزلة الحامل التي تمت شهور حملها، فما تنتظر الولادة، كذلك صاحب الشيب لا ينتظر إلا الموت، فقبيح منه الإصرار على الذنب.
يا من أنذره الشيب بالموت وهو مقيم على الآثام، أما كفاك واعظ الشيب مع واعظ القرآن والإسلام؟
الغنيمة، الغنيمة بانتهاز الفرصة...المبادرة، المبادرة بالعمل، والعجل العجل قبل هجوم الأجل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يسأل الرجعة ليعمل صالحًا فلا يجاب إلى ما سأل، قبل أن يندم المفرط على ما فعل، قبل أن يصير المرء مرتهنًا في حفرته بما قدم من عمل.
يا من طلع فجر شيبه بعد بلوغ الأربعين، يا من مضى عليه بعد ذلك ليالي عشر سنين حتى بلغ الخمسين، يا من هو في معترك المنايا ما بين الستين والسبعين! ما تنتظر بعد هذا الخبر إلا أن يأتيك اليقين؟ يا من ذنوبه بعدد الشفع والوتر، أما تستحي من الكرام الكاتبين؟ أم أنت ممن يكذب بيوم الدين؟ يا من ظلمة قلبه كالليل إذا يسرى، أما آن لقلبك أن يستنير أو يلين؟
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد