جهالة الجهة المصدرة للعملات الرقمية


بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

وصلنا إلى الاعتراض الرابع من قِبل الأخوة الذين يعارضون مبدأ العملات الرقمية، هذا الاعتراض هو الجهالة بالجهة المصدرة، وهو من أكثر الاعتراضات تداولًا على العملة الرقمية، يقولون أنها غير صادرة عن دولة عن دولة أو جهة معروفة، وبالتالي يغيب الضمان الذي توفره الدولة في حال إصدارها للنقود، أيضًا يقولون أن هذا الأمر فيه افتيات على السلطان أو الدولة، ونقصد به التجرء على القيام بوظائف السلطان، أو القيام بوظائف الدولة ومهامها الخاصة، كون إصدار النقود هي من مهام الدولة الخاصة، ونبدأ من حيث انتهى الاعتراض.

 

مسألة ضرب النقود أو صك العملة، لم يقم به أي من المسلمين قبل سنة 74 للهجرة، نتكلم هنا عن منتصف زمن الدولة الأموية تقريبًا، زمن عبدالملك بن المروان، كانوا يتعاملون وقتها بدراهم الفرس ودنانير الروم، الدرهم الفضي والدينار الرومي الذهبي، لكن لما كثر الغش في هاتان العملتان، باشر المسلمون ضرب نقودهم بأنفسهم، الأمر هنا ظل محصورًا بالسلطان، لسبب، كي لا يتجرأ أحد على الغش في وزن النقود وجودتها، كما حدث مع دنانير الروم ودراهم الفرس، لأجل ذلك حصروها في السلطان، من هنا يظهر أن عبارات الفقهاء وأقوالهم التي تنص على حصر ضرب النقوط وضرب العملة بصاحب السلطان، هي حكم اجتهادي، وليس حكم بنص قرآن أو سنة، وقائم على مصلحة شرعية معتبرة وهي منع الغش ومكافحة التلاعب بجودة العملة، وهذا يكون بوساطة نفوذ السلطان، الأمر الثاني الذي يظهر لنا هنا، هذه فتوى قائمة على قاعدة جلب المصالح ودفع المصالح، وليست قائمة على دليل من الكتاب أو السنة أو حتى فعل الصحابة، طالما أنها بهذا الشكل فالفتوى تتغير بتغير الزمان والأحوال، كذلك لما رأينا أن الحكم -حصر صك العملة بالسلطان- معلل وله سبب وهو منع الغش، إذن فحيث ما أمكن تحقيق هذه العلة وهي منع الغش فلا معنى لحصر إصدار النقود بالدولة، والعملات الرقمية وخاصة التي تصدر عن جهات غير مركزية كالبيتكوين، يعلم الدارس لطريقة عملها، علمًا لا مجال معه للشك أنه من المحال تزويرها، هل سمعتم بوجود بيتكوين مزور! لماذا لأن العملات تخضع لقواعد صارمة -البلوكتشين- لا يملك حتى من بدأ إصدارها -ساتوشي- أن يتلاعب بهذه العملات، وطالما انتفت العلة التي هي مخافة الغش، وأصبح من المستحيل الغش، ينتفي حكم إصدار الدولة لهذه العملات.

النقطة الثانية أن الدولة توفر الضمان للعملات التي تصدرها، فيما يخص الضمان الذي توفره حال إصدار النقد، عندنا تساؤلان: ما الضمان الذي تقدمه الدولة، والسؤال الثاني: هل طريقة عمل العملات الرقمية اللا مركزية، البيتكوين تحديدًا، تحتاج إلى طرف ضامن أصلًا؟

بخصوص السؤال الأول: الضمان الذي توفره الدولة المصدرة للنقد، هذا الضمان هو اللا شيء، لو صح تعبيرنا، ضمان الدولة هو اللا شيء، العملات الصادرة عن الدول في الغالب الأعم تتآكل عملاتها سنويًا بسبب التضخم دون أي تعويض من الدولة، لذا نجد أن أصحاب الثروات وقد وعوا هذا الدرس لا يحتفظون بهذه العملات كمخرن للثروة، تجدهم يلجأون للذهب أو العقارات، وأي شيء سوى العملات الورقية، ليخزنوا ثرواتهم، ومن العجيب أن بعض الأخوة الباحثين، -وهذه من الأمور التي تدل على عدم التصور الصحيح- أورد اعتراض يقول فيه: الضمان يتمثل في مسؤولية الدولة عن استبدال العملة الورقية التالفة، فمن يستبدل العملة الرقمية إذا تلفت؟

هذا ناتج عن عدم التصور في العملات الرقمية، فمن المعلوم أن العملات الرقمية لا تتلف، لأنها مخزنة على آلاف الأجهزة حول العالم، وغاية ما في الأمر أنها قد تضيع بضياع مفتاح المحفظة الإلكترونية، أو سرقة مفتاح المحفظة الإلكترونية، إذن فالسؤال هنا: هل تعوض الدولة من ضيّع ماله الورقي أو سرق منه؟

بخصوص التساؤل الثاني، هل طريقة عمل العملات الرقمية غير المركزية -تحديدًا البيتكوين- تحتاج إلى طرف ضامن؟

هذه العملات لم تنشئ إلا لتحقيق مبدأ الند للند، وإلغاء دور الطرف الثالث، المتمثل طبعًا في البنوك المركزية، ولتحقيق هذه الغاية استبدل منشؤها الثقة والضمان الذي توفره الجهات المركزية والبنوك المركزية. لماذا تحتاج إلى طرف ضامن، كي أتحقق أن أموالي ستكون في مأمن ومعاملاتي ستكون صحيحة وفي مأمن، حسنًا سنوفر لك التحقق التام بدون الحاجة لضمان آخر. هل ستحتاج إلى طرف يضمن.. لا لم يعد حاجة للضمان طالما توفر التحقق التام.

التحقق التام الكامل قبل إنشاء أي معاملة على سلسلة البلوكتشين، هذا يجعلك تستغني عن وجود طرف ثالث يضمن صحة المعاملات، طبعًا هذا الأمر -عدم إدخال طرف ثالث- يضيف أيضًا فوائد أخرى مثل السرية الشخصية، والسيادة الشخصية على المال، وسرية حركة الأموال الشخصية، لا أريد أن تتحقق الدولة من جميع معاملاتي، وليس في الشرع ما يمنع ذلك، الأصل أن الإنسان هو من له السيادة على ماله فقط وليس لأحد أن يطلع على أسراره. وبالتالي من مجمل هذه المناقشة يمكن الجزم أن الجهة المصدرة ليست مؤثرة في الحكم على العملات الرقمية اللا مركزية -البيتكوين- لكن ممكن أيضًا هذه الدعوة من المعارضين بقولهم جهالة الجهة المصدرة تجعلنا نقول بتحريم التعامل بهذه العملات، لكن العملات التي تصدر عن جهات مجهولة هي عملة واحدة فقط وهي البيتكوين، اليوم يوجد في سوق العملات الرقمية 9500 عملة تقريبًا، إذا كان عملة واحدة فقط تصدر عن جهة مجهولة، بينما باقي العملات تصدر عن جهات معلومة، شركات أخذت تراخيص من الدول التي تعمل فيها، ومعلوم من الذي يقف وراءها، إذن هذه عملات وراءها شركات معروفة، لماذا لا تقولون بجواز التعامل بها، فالعلة انتفت -الجهة المصدرة مجهولة- يوجد 9500 عملة الجهة المصدرة لها معلومة!

قولكم هذا يقتضي القول بجواز هذه العملات، هذا فيما يخص الاعتراض الرابع المتعلق بالجهة المصدرة، واستطيع الاعتقاد جازمًا أن العملات الرقمية تتجاوز هذا الاعتراض.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply