من أقوال السلف في الزهد


 بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:

الدنيا ظل زائل، وخيال زائر، قال تعالى فيها: ﴿اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا ۖ﴾ [الحديد:20] وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((مالي وللدنيا، ما أنا في الدنيا إلا كراكبٍ استظل تحت شجرةٍ، ثم راح وتركها))[أخرجه الترمذي وقال حسن صحيح]

قال العلامة ابن القيم رحمه الله: سماها سبحانه متاع الغرور، ونهى عن الاغترار بها، وأخبر عن سوء عاقبة المغترين بها، وحذرنا مثل مصارعهم، وذم من رضي بها واطمأن إليها. فما اغتر بها ولا سكن إليها إلا ذو همّة دنية!

للسلف أقوال في الزهد، يسّر الله الكريم فجمعتُ بعضًا منها، أسأل الله أن ينفع بها الجميع.

** قال قتادة: ذكر لنا أن عمر رضي الله عنه قال: لو شئت كنت أطيبكم طعامًا، وألينكم لباسًا، ولكني أستبقي طيباتي للآخرة.

ولما قدم الشام صُنع له طعام لم ير قط مثله، فقال: هذا لنا! فما لفقراء المسلمين الذين ماتوا وما شبعوا من خبر الشعير!

فقال خالد بن الوليد: لهم الجنة.

فاغرورقت عينا عمر بالدموع، وقال: لئن كان حظنا من الدنيا هذا الحطام، وذهبوا هم في حظهم بالجنة، فلقد باينونا بونًا بعيدًا

وقال رضي الله عنه: الزهادة في الدنيا راحة القلب والجسد.

** قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: أنتم أطول صلاة، وأكثر جهادًا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم كانوا أعظم أجرًا منكم.

قالوا: لِمَ يا أبا عبدالرحمن ؟

قال: إنهم كانوا أزهد في الدنيا، وأرغب في الآخرة.

** عن أبي واقد الليثي، قال: تابعنا الأعمال، فلم نجد شيئًا أبلغ في طلب الآخرة من الزهد في الدنيا.

** قال سفيان الثوري رحمه الله:

- من زهد في الدنيا ملكها، ومن رغب فيها عبدها، فمن شاء فليعش فيها ملكًا، ومن شاء فليعش فيها عبدًا.

- الزهد في الدنيا قصر الأمل.

- قيل له: يكون الرجل زاهدًا وله مال ؟ قال: نعم، إذا ابتلي صبر، وإن أعطى شكر.

** قال الحسن: من أحب الدنيا وسرته، خرج حُب الآخرة من قلبه.

** قال أبو طالب: سئل أحمد وأنا شاهد: ما الزهد في الدنيا ؟ قال: قصر الأمل، والإياس مما في أيدي الناس.

** قال الفضيل علامة الزهد في الناس، إذا لم يحبَّ ثناء الناس عليه، ولم يُبال بمذمتهم

* قال الجنيد: سمعت سريًا يقول: إن الله تعالى سلب الدنيا عن أوليائه، وحماها عن أصفيائه، وأخرجها من قلوب أهل وداده لأنه لم يرضيها لهم.

* قال ابن الجلاء: الزهد هو النظر إلى الدنيا بعين الزوال لتصغر في عينك، فيسهل عليك الإعراض عنها.

** قال الإمام مالك: بلغني أنه ما زهد أحد في الدنيا واتقى، إلا نطق بالحكمة.

** قال الإمام الشافعي: عليك بالزهد، فإن الزهد على الزاهد، أحسن من الحلي على المرأة الناهد.

** قال أحمد بن حنبل: الزهد على ثلاثة أوجه: ترك الحرام وهو زهد العوام، والثاني: ترك الفضول من الحلال وهو زهد الخواص، والثالث: تركُ ما يشغل العبد عن الله عز وجل، وهو زهد العارفين. وسئل عن الرجل يكون معه ألف دينار هل يكون زاهدًا ؟

قال: نعم، بشرط أن لا يفرح إذا زادت، ولا يحزن إذا نقصت.

** قال يحيى بن معاذ: علامة الزهد: السخاء بالموجود.

** قال رجل لمحمد بن واسع: أوصني، قال: أوصيك أن تكون ملِكًا في الدنيا والآخرة، قال: كيف؟ قال: ازهد في الدنيا.

** قال إبراهيم بن أدهم: الزهد منه فرض، وهو ترك الحرام، وزهد بسلام وهو الزهد في الشبهات، وزهد فضل وهو الزهد في الحلال.

** قال سفيان بن عيينة: الزهد: الصبر، وانتظار الموت.

** قال يوسف بن أسباط: الزهد في الرئاسة أشد من الزهد في الدنيا.

** قال الإمام أبو الوفاء ابن عقيل رحمه الله: لو علم العقلاء ما في الزهد من الراحة، لكسدت سوق الدنيا عن راغب، وتعنست بهجتها عن خاطب.

** قال الإمام الغزالي رحمه الله:

- الزهد....عبارة عن انصراف الرغبة عن الشيء إلى ما هو خير منه...وكل من باع الدنيا بالآخرة فهو زاهد في الدنيا، وكل من باع الآخرة بالدنيا فهو أيضًا زاهد ولكن في الآخرة، ولكن العادة جارية بتخصيص اسم الزهد بمن يزهد في الدنيا.

 

- علامة الزهد...ينبغي أن يعول  على ثلاث علامات:

الأولى: أن لا يفرح بموجود ولا يحزن على مفقود.

الثانية: أن يستوى عند ذامه ومادحه

الثالثة: أن يكون أنسه بالله تعالى، والغالب على قلبه حلاوة الطاعة.

** قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: الزهد المشروع ترك ما لا ينفع في الدار الآخرة.

** قال العلامة ابن القيم رحمه الله:

- لا تتم الرغبة في الآخرة إلا بالزهد في الدنيا.

- أفضل الزهد إخفاء الزهد.

- إذا زهدت القلوب في موائد الدنيا، قعدت على موائد الآخرة بين أهل تلك الدعوة، وإذا رضيت بموائد الدنيا، فاتتها تلك الموائد.

- القرآن مملوء من التزهيد في الدنيا والإخبار بخستها وقلتها وانقطاعها وسرعة فنائها والترغيب في الآخرة والإخبار بشرفها ودوامها وسرعة إقبالها. فإذا أراد الله بعبده خيرًا أقام في قلبه شاهدًا يعاين حقيقة الدنيا والآخرة، ويؤثر منهما ما هو أولى بالإيثار

- الزاهد لا يفرح من الدنيا بموجود، ولا يأسف منها على مفقود.

- سمعت شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه يقول: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما يُخاف ضرره في الآخرة. وهذه العبارة من أحسن ما قيل في  الزهد والورع وأجمعها.

- الذي أجمع عليه العارفون أن الزهد سفر القلب من وطن الدنيا وأخذُه في منازل الآخرة، وعلى هذا صنف المتقدمون كتب الزهد كـ " الزهد " لعبدالله بن المبارك، وللإمام أحمد، ولوكيع، ولهناد بن السري، ولغيرهم.

- من أحسن ما قيل في الزهد كلام الحسن: ليس الزهد في الدنيا بتحريم الحلال ولا إضاعة المال ولكن أن تكون بما في يد الله أوثق منك بما في يدك، وأن تكون في ثواب المصيبة إذا أُصبت بها أرغب منك فيها لو لم تصبك. فهذا من أجمع كلامٍ في الزهد

- الفساق يزدحمون على مواضع الرغبة في الدنيا، ولتلك المواقف كظيظ من الزحام، فالزاهد يأنف من مشاركتهم في تلك المواقف ويرفع نفسه عنها لخسة شركائه فيها، قيل لبعضهم ما الذي زهدك في الدنيا؟ قال قلة وفائها وكثرة جفائها وخسة شركائها.

- سمعت شيخ الإسلام يقول: الزهد تركك ما لا ينفعك، والورع تركك ما قد يضرك.

- الزهد فراغ القلب من الدنيا، لا فراغ اليد منها.

- الزاهد أروح الناس بدنًا وقلبًا، فإن كان زهده وفراغه من الدنيا قوة له في إرادة الله والدار الآخرة، بحيث فرغ قلبه لله، وجعل حرصه على التقرب إليه، وشحه على وقته أن يضيع منه شيء في غير ما هو أرضى لله وأحب إليه – كان من أنعم الناس عيشًا، وأقرهم عينًا، وأطيبهم نفسًا، وأفرحهم قلبًا، فإن الرغبة في الدنيا تشتت القلب وتبدد الشمل، وتطيل الهم والغم والحزن، فهي عذاب حاضر يؤدي إلى عذاب منتظر أشد منه، وتفوت على العبد من النعم أضعاف ما يروم تحصيله بالرغبة في الدنيا.

- الزهد في الدنيا...وليس المراد تخليتها من اليد ولا إخراجها وقعوده صفرًا منها، وإنما إخراجها من قلبه بالكلية، فلا يلتفت إليها، ولا يدعها تُساكن قلبه وإن كانت في يده، فليس الزهد أن تترك الدنيا من يدك، وهي في قلبك، وإنما الزهد أن تتركها من قلبك، وهي في يدك، وهذا كحال الخلفاء الراشدين، وعمر بن عبدالعزيز الذي يضرب بزهد المثل، مع أن خزائن الأموال تحت يده، بل كحال سيد ولد ابن آدم صلى الله عليه وسلم حين فُتح عليه من الدنيا ما فُتِحَ، ولا يزيده ذلك إلا زهدًا فيها.

- الزهد في النفس فهو ذبحها بغير سكين، وهو نوعان:

إحدهما: وسيلة وبداية: وهو أن تميتها، فلا تُبقى لها عندك من القدر شيئًا، فلا تغضب لها، ولا ترضى لها، ولا تنتصر لها، ولا تنتقم لها، قد سبَّلت عِرضها ليوم فقرها وفاقتها، فهي أهون عليك من أن تنتصر لها، أو تنتقم لها، أو تجيبها إذا دعتك، أو تكرمها إذا عصتك، أو تغضب لها إذا ذُمَّت، بل هي عندك أخسّ مما قيل فيها، أو ترفهها عما فيه حظك وفلاحك وإن كان صعبًا عليها.

وهذا وإن كان ذبحًا لها وإماتةً عن طباعها وأخلاقها، فهو عين حياتها وصحتها، ولا حياة لها بدون هذا البتة، وهذه العقبة هي آخر عقبة يُشرف منها على منازل المقربين، وينحدر منها إلى دار البقاء، ويشرب من عين الحياة، وتخلص روحه من سجون المحن والبلاء وأسر الشهوات، وتتعلق بربها ومعبودها ومولاها الحق.

النوع الثاني: غاية وكمال وهو أن تبذلها للمحبوب جملةً بحيث لا تستبقي منها شيئًا بل تزهد فيها زهد المحب في قدر خسيس من ماله، قد تعلقت رغبةُ محبوبه به، فهل يجد من قلبه رغبةً في إمساك ذلك القدر وحبسه عن محبوبه؟ فهكذا زهد المحب الصادق في نفسه قد خرج عنها وسلمها لربه فهو يبذلها له دائمًا يتعرض منه لقبولها

- الزاهد يُسهِّل عليه الزهد في لحرام سوءُ مغبته، وقبحُ ثمرته، وحمايةً لدينه، وصيانة لإيمانه، وإيثارًا للذة والنعيم على العذاب، وأنفةً من مشاركة الفساق والفجرة، وحمية من أن يستأسر لعدوه، ويسهِّل عليه الزهد في المكروهات وفضول المباحات علمُه بما يفوته بإيثارها من اللذة والسرور الدائم والنعيم المقيم، ويسهل عليه زهده في الدنيا معرفته بما وراءها وما يطلبه من العوض التام والمطلب الأعلى،

- زهده فيها لا يمنعه شيئًا مما كُتِبَ له منها، وأن حرصه عليها لا يجلُب له ما لم يُقضَ له منها، فمتى تيقن ذلك، وصار له علم اليقين، هان عليه الزهد فيها.

** قال الحافظ ابن رجب رحمه الله:

- الزهد في الدنيا شعار أنبياء الله، وأوليائه، وأحبائه.

- في درجات الآخرة الباقية يشرع التنافس وطلب العلو في منازلها والحرص على ذلك بالسعي في أسبابه، وأن لا يقنع الإنسان منها بالدون مع قدرته على العلو، وأما العلو الفاني المنقطع الذي يعقبُ صاحبه غدًا حسرةً وندامةً وهوانًا وصغارًا فهو الذي يشرع الزهد فيه والإعراض عنه.

- فسر الزهد في الدنيا بثلاثة أشياء كلها من أعمال القلوب، لا من أعمال الجوارح

أحدها: أن يكون العبد بما في يد الله، أوثق منه بما في يد نفسه، وهذا ينشأ من صحة اليقين وقوته.

الثاني: أن يكون العبد إذا أصيب بمصيبة في دنياه، من ذهاب مال، أو ولد، أو غير ذلك أرغب في ثواب ذلك، مما ذهب منه من الدنيا أن يبقى له، وهذا أيضًا ينشأ من كمال اليقين. الثالث: أن يستوي عند العبد حامده وذامُّه في الحق، وهذا من علامات الزهد في الدنيا، واحتقارها، وقلة الرغبة فيها.

** قال العلامة بكر بن عبدالله أبو زيد رحمه الله: من أعظم أسباب الفوز والنصر الزهد في المناصب والولايات، والكف عن زخرفها، وكما كان شيخ الإسلام كذلك، فقد كان أئمة الإسلام على هذه الجادة منهم الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى ولهذا قيل في ترجمته أتته الدنيا فأباها، والولايات فقلاها

فمسكين من يتطلع إليها ويقول أنا لها ومغبون والله من دقع ثمنها مُقدمًا بالتنازل عن شيء من دينه والملاينة على حساب علمه ويقينه وكل امرئ حسيب نفسه.

** قال الشيخ صالح بن عبدالعزيز آل الشيخ: حق الله جل جلاله عظيم، وطريقُه أن تزهد فيما ابتلي به الخلق من الدنيا، وأن تقلل الدنيا في قلبك، وذلك أن تقلل شأن ما في أيدي الناس، فتكون معلقًا بالآخرة.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين

أضف تعليق

هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها

This site is protected by reCAPTCHA and the Google Privacy Policy and Terms of Service apply