بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
كان المذهب اليعقوبي هو مذهب الكنيسة المصرية والحبشة الذين يرون أن عيسى المسيح شخص واحد فقط، لا شخصان، وليس هذا فحسب، بل هذا الشخص الواحد ذو طبيعة واحدة أيضا، ولذلك يُسمَّوْن أيضا بالمونوفيزيين، أي القائلون بالطبيعة الواحدة للمسيح، فاعتقادهم أن: أقنوم الابن من الله تجسد من روح القدس ومريم العذراء فصيَّر هذا الجسد معه واحدا وحدة ذاتية جوهرية، أي صار الله (الابن) المتجسد، طبيعة واحدة من أصل طبيعتين، ومشيئة واحدة وشخصا واحدا.
وبعبارة أخرى: المركز المسيّر والطبيعة الحقيقية لعيسى المسيح الذي ولد من مريم هي الألوهية المحضة، فهو الله عينه، أما بشريته فهي مجرد لباس فانٍ في إلهيته. فلذلك الله تعالى عندهم هو بذاته الذي وُلِدَ من مريم العذراء، لذا فهي والدة الله، والله نفسه هو الذي عُذِّب وتألم وصلب ومات! ثم قام بعد ثلاثة أيام من قبره حيا. تعالى الله عن ذلك علوًَّا كبيرًا.
وفي شأن هؤلاء جاء قوله تعالى: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ اللّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [المائدة:17]
وقوله تعالى: {لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ} [المائدة:72]
أما مذهب الجمهور الأعظم (المذهب الملكاني، وهو مذهب الإمبراطور الروماني) فهو الذي قال الله تعالى في شأنه: {لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَـهٍ إِلاَّ إِلَـهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [المائدة:73]
والحاصل أن جميع الفرق المسيحية تتفق على أن المسيح بشرٌ وإلهٌ بنفس الوقت! وإنما تختلف عن بعضها في مدى تأكيدها وإبرازها لأحد الجانبين الإلهية أو البشرية في المسيح، فاليعاقبة يؤكدون الجانب الإلهي أكثر وعلى عكسهم النساطرة الذين يبرزون أكثر الجانب البشري في حين يطرح الجمهور الأعظم رؤية متوازية ومتعادلة للجانبين الإلهي والبشري دون ترجيح أي منهما على الآخر.
ولقد هددت الدولة الفارسية حدود الإمبراطورية الرومانية الشرقية، ونجحت بالفعل في التوغل إلى داخل الإمبراطورية ذاتها فاستولت على سورية وفلسطين ثم مصر عام 616م، وقد أباح كسرى فارس لبطريك الأقباط أن يبقى في الإسكندرية حتى موته وألا ينازعه منازع في رئاسة الدين ثم خلفه البطريق بنيامين في سهولة ويسر، فقضى أول سني ولايته مستظلا بجكم الفرس هادئة مطمئنة إذا قيست بسائر مدة ولايته الطويلة المليئة بالأحداث الجسام، غير أن الاحتلال الفارسي لمصر لم يدم أكثر من عشرة أعوام تمكن بعدها هرقل من إعادة هذه الولايات جميعها إلى حظيرة الإمبراطورية من جديد، وعاود الإمبراطور هرقل جهوده في التفاهم مع الأقباط المصريين على عقيدة دينية واحدة أساسها إدخال فكرة جديدة هي بدعة «الإرادة الواحدة» ولكن الأقباط المصريين لم يكونوا مستعدين للتفاهم على الإطلاق، فعين الإمبراطور هرقل أسقف الإسكندرية الملكاني (قيرس) ليكون حاكما لمصر أيضا، وكان قيرس هذا المعروف باسم المقوقس يوصف بالقسوة والكراهية المطلقة لأصحاب الطبيعة الواحدة، وقد منحه الإمبراطور سلطة مطلقة لتحقيق سياسته في مصر، فانطلق في حملة من الاضطهاد العنيف على المصريين الأقباط بما زادهم كراهية ونفورا من الحكم الروماني
قال ابن عبد الحكم في كتاب (فتوح مصر وأخبارها):
حدثنا هشام بن إسحاق وغيره قال لما كانت سنة ست من مهاجرة رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ورجع رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الحديبية بعث إلى الملوك
عن عبد الرحمن بن عبد القارئ أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قام ذات يوم على المنبر فحمد الله وأثنى عليه وتشهد ثم قال: (أما بعد فإني أريد أن أبعث بعضكم إلى ملوك العجم فلا تختلفوا علي كما اختلف بنو إسرائيل على عيسى بن مريم، وذلك أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى عيسى أن ابعث إلى ملوك الأرض، فبعث الحواريين، فأما القريب مكانا فرضي وأما البعيد مكانا فكره وقال لا أحسن كلام من تبعثني إليه فقال عيسى اللهم أمرت الحواريين بالذي أمرتني فاختلفوا علي فأوحى الله إليه إني سأكفيك فأصبح كل إنسان منهم يتكلم بلسان الذي وجه إليه) فقال المهاجرون: يا رسول الله والله لا نختلف عليك أبدا في شيء فمرنا وابعثنا فبعث حاطب بن أبي بلتعة إلى المقوقس صاحب الإسكندرية وشجاع بن وهب الأسدي إلى كسرى وبعث دحية بن خليفة إلى قيصر وبعث عمرو بن العاص إلى ابني الجلندي أميري عمان.
ثم رجع إلى حديث هشام بن إسحاق وغيره قال فمضى حاطب بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فلما انتهى إلى الإسكندرية وجد المقوقس في مجلس مشرف على البحر فركب البحر فلما حاذى مجلسه أشار بكتاب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بين أصبعيه فلما رآه أمر بالكتاب فقبض وأمر به فأوصل إليه فلما قرأ الكتاب قال: "ما منعه إن كان نبيا أن يدعو علي فيسلط علي" فقال له حاطب: "ما منع عيسى بن مريم أن يدعو على من أبى عليه أن يفعل به ويفعل".
فوجم ساعة ثم استعادها فأعادها عليه حاطب فسكت
فقال له حاطب: "إنه قد كان قبلك رجل زعم أنه الرب الأعلى فانتقم الله به ثم انتقم منه فاعتبر بغيرك ولا تعتبر بك، وأن لك دينا لن تدعه إلا لما هو خير منه وهو الإسلام الكافي الله به فقد ما سواه، وما بشارة موسى بعيسى إلا كبشارة عيسى بمحمد، وما دعاؤنا إياك إلى القرآن إلا كدعائك أهل التوراة إلى الإنجيل، ولسنا ننهاك عن دين المسيح ولكنا نأمرك به".
ثم قرأ الكتاب فإذا فيه
بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى المقوقس عظيم القبط سلام على من اتبع الهدى أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام فأسلم تسلم وأسلم يؤتيك الله أجرك مرتين {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} [آل عمران:64] فلما قرأه أخذه فجعله في حق من عاج وختم عليه.
ثم دعا كاتبا يكتب بالعربية فكتب:
لمحمد بن عبد الله من المقوقس عظيم القبط سلام، أما بعد فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه وقد علمت أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام وقد أكرمت رسولك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم وبكسوة وأهديت إليك بغلة لتركبها والسلام.
وعن أبان بن صالح قال أرسل المقوقس إلى حاطب ليلة وليس عنده أحد إلا ترجمان له فقال: "ألا تخبرني عن أمور أسألك عنها فإني أعلم أن صاحبك قد تخيرك حين بعثك".
قلت: لا تسألني عن شيء إلا صدقتك.
قال: إلى ما يدعو محمد؟ قال: إلى أن تعبد الله ولا تشرك به شيئا وتخلع ما سواه، ويأمر بالصلاة.
قال فكم تصلون؟
قال خمس صلوات في اليوم والليلة، وصيام شهر رمضان وحج البيت والوفاء بالعهد وينهى عن أكل الميتة والدم.
قال من اتباعه؟
قلت: الفتيان من قومه وغيرهم.
قال: فهل يقتل قومه؟
قلت: نعم.
قال: صفه لي؟
قال: فوصفته بصفة من صفاته لم آت عليها.
قال: قد بقيت أشياء لم أرك ذكرتها، في عينيه حمرة قل ما تفارقه، وبين كتفيه خاتم النبوة، ويركب الحمار ويلبس الشملة ويجتزئ بالتمرات والكسر، لا يبالي من لاقى من عم ولا ابن عم.
قلت: هذه صفته.
قال: قد كنت أعلم أن نبيا قد بقي وقد كنت أظن أن مخرجه الشام، وهناك كانت تخرج الأنبياء من قبله فأراه قد خرج في العرب في أرض جهد وبؤس والقبط لا تطاوعني في اتباعه ولا أحب أن يعلم بمحاورتي إياك وسيظهر على البلاد وينزل أصحابه من بعده بساحتنا هذه حتى يظهروا على ما ها هنا وأنا لا اذكر للقبط من هذا حرفا فارجع إلى صاحبك.
فلما توجه عمرو بن العاص لفتح مصر أزعج المقوقس هذا الإصرار الذي لم يعهده من قبل من هذه الأمة، ولما رجع الرسل إلى المقوقس سألهم عن المسلمين فقال: كيف رأيتموهم؟ قالوا: رأينا قومًا الموت أحب إلى أحدهم من الحياة، والتواضع أحب إليهم من الرفعة، ليس لأحدهم في الدنيا رغبة ولا نهمة، وإنما جلوسهم على التراب وأكلهم على ركبهم، وأميرهم كواحد منهم، ما يُعرف رفيعهم من وضيعهم، ولا السيد من العبد، وإذا حضرت الصلاة لم يتخلف عنها منهم واحد، يغسلون أطرافهم بالماء، ويخشعون في صلاتهم، فقال عند ذلك المقوقس: والذي يُحلف به لو أن هؤلاء استقبلوا الجبال لأزالوها وما يقوَى على قتال هؤلاء أحد.
فرد إليهم المقوقس رسله أن ابعثوا إلينا رسلا منكم نعاملهم ونتداعى نحن وهم إلى ما عساه أن يكون فيه صلاح لنا ولكم
فبعث عمرو بن العاص عشرة نفر أحدهم عبادة بن الصامت وأمره عمرو أن يكون مكلم القوم وأن لا يجيبهم إلى شيء دعوه إليه إلا إلى إحدى الخصال الثلاث
وكان عبادة أسود طويلا، يقول ابن عفير: أدرك الإسلام من العرب عشرة طول كل رجل منهم عشرة أشبار أحدهم عبادة بن الصامت، فلما ركبوا السفن إلى المقوقس ودخلوا عليه تقدم عبادة فهابه المقوقس لسواده، فقال: "نحوا عني هذا الأسود وقدموا غيره يكلمني" فقالوا جميعا: إن هذا الأسود أفضلنا رأيا وعلما، وهو سيدنا وخيرنا والمقدم علينا، وإنما نرجع جميعا إلى قوله ورأيه، وقد أمره الأمير دوننا بما أمره به وأمرنا أن لا نخالفه.
قال: وكيف رضيتم أن يكون هذا الأسود أفضلكم وإنما ينبغي أن يكون دونكم
قالوا: كلا إنه وإن كان أسود كما ترى فإنه من أفضلنا موضعا وأفضلنا سابقة وعقلا ورأيا، وليس ينكر السواد فينا.
فقال له المقوقس: تقدم يا أسود وكلمني برفق فإني أهاب سوادك وإن اشتد كلامك علي ازددت لذلك هيبة.
فتقدم إليه عبادة فقال: قد سمعت مقالتك وإن فيمن خلفت من أصحابي ألف رجل كلهم أشد سوادا مني وأفظع منظرا، ولو رأيتهم لكنت أهيب لهم منك لي، وأنا قد وليت وأدبر شبابي وإني مع ذلك -بحمد الله- ما أهاب مائة رجل من عدوي ولو استقبلوني جميعا وكذلك أصحابي، وذلك أنا إنما رغبتنا وهمتنا الجهاد في الله واتباع رضوانه وليس غزونا عدونا ممن حارب الله لرغبة في دنيا ولا طلبا للاستكثار منها إلا أن الله عز وجل قد أحل لنا ذلك وجعل ما غنمنا منه حلالا وما يبالي أحدنا أكان له قنطار من الذهب أم كان لا يملك إلا درهما لأن غاية أحدنا من الدنيا أكلة يأكلها يسد بها جوعته لليله ونهاره وشملة يلتحفها، فإن كان أحدنا لا يملك إلا ذلك كفاه، وإن كان له قنطار من ذهب أنفقه في طاعة الله تعالى، وأقتصر على هذا الذي يتبلغ به ما كان في الدنيا لأن نعيم الدنيا ليس بنعيم ورخاءها ليس برخاء، وإنما النعيم والرخاء في الآخرة، وبذلك أمرنا ربنا وأمرنا به نبينا وعهد إلينا أن لا تكون همة أحدنا من الدنيا إلا ما يمسك جوعته ويستر عورته وتكون همته وشغله في رضا ربه وجهاد عدوه.
فلما سمع المقوقس كلامه قال لمن حوله: هل سمعتم مثل كلام هذا الرجل قط؟ لقد هبت منظره وإن قوله لأهيب عندي من منظره، وإن هذا وأصحابه أخرجهم الله لخراب الأرض ما أظن ملكهم إلا سيغلب على الأرض كلها.
ثم أقبل على عبادة فقال: أيها الرجل قد سمعت مقالتك وما ذكرت عنك وعن أصحابك ولعمري ما بلغتم إلا بما ذكرت وما ظهرتم على من ظهرتم عليه إلا بحبهم الدنيا ورغبتهم فيها، وقد توجه إلينا لقتالكم من جمع الروم ما لا يحصى عدده، قوم يعرفون بالنجدة والشدة لا يبالي أحدهم من لقي ولا من قاتل، وإنا لنعلم أنكم لن تقووا عليهم ولن تطيقوهم لضعفكم وقلتكم، وقد أقمتم بين أظهرنا أشهرا وأنتم في ضيق وشدة من معاشكم وحالكم، ونحن نرق عليكم لضعفكم وقلتكم وقلة ما بأيديكم، ونحن تطيب أنفسنا أن نصالحكم على أن نفرض لكل رجل منكم دينارين دينارين ولأميركم مائة دينار ولخليفتكم ألف دينار فتقبضوها وتنصرفوا إلى بلادكم قبل أن يغشاكم ما لا قبل لكم به
فقال عبادة بن الصامت: يا هذا لا تغرن نفسك ولا أصحابك، أما ما تخوفنا به من جمع الروم وعددهم وكثرتهم وأنا لا نقوى عليهم فلعمري ما هذا بالذي يخوفنا ولا بالذي يكسرنا عما نحن فيه، إن كان ما قلتم حقا فذلك والله أرغب ما يكون في قتالكم وأشد لحرصنا عليكم لأن ذلك أعذر لنا عند ربنا إذا قدمنا عليه، وإن قتلنا من آخرنا كان أمكن لنا في رضوانه وجنته، وما من شيء أقر لأعيننا ولا أحب إلينا من ذلك وإنا منكم حينئذ على إحدى الحسنيين إما أن تعظم لنا بذلك غنيمة الدنيا إن ظفرنا بكم أو غنيمة الآخرة إن ظفرتم بنا، وإنها لأحب الخصلتين إلينا بعد الاجتهاد منا وإن الله عز وجل قال لنا في كتابه {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة:249]
وما منا من رجل إلا وهو يدعوا ربه صباحا ومساء أن يرزقه الله الشهادة وألا يرده إلى بلاده ولا إلى أرضه ولا إلى أهله وولده، وليس لأحد منا هم فيما خلفه وقد استودع كل واحد منا ربه في أهله وولده وإنما همنا ما أمامنا.
وأما قولك: إنا في ضيق وشدة من معاشنا وحالنا، فنحن في أوسع السعة لو كانت الدنيا كلها لنا ما أردنا منها لأنفسنا أكثر مما نحن عليه، فانظر الذي تريد فبينه لنا فليس بيننا وبينك خصلة نقبلها منك ولا نجيبك إليها إلا خصلة من ثلاث فاختر أيها شئت ولا تطمع نفسك بالباطل بذلك.
أمرني الأمير وبه أمره أمير المؤمنين وهو عهد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من قبل إلينا إما أجبتم إلى الإسلام الذي هو الدين الذي لا يقبل الله غيره وهو دين أنبيائه ورسله وملائكته أمرنا أن نقاتل من خالفه ورغب عنه حتى يدخل فيه فإن فعل كان له مالنا وعليه ما علينا، وكان أخانا في دين الله، فإن قبلت ذلك أنت وأصحابك فقد سعدتم في الدنيا والآخرة ورجعنا عن قتالكم ولم نستحل أذاكم ولا التعرض لكم
وإن أبيتم إلا الجزية فأدوا إلينا الجزية عن يد وأنتم صاغرون نعاملكم على شيء نرضى به نحن وأنتم في كل عام أبدا ما بقينا وبقيتم، ونقاتل عنكم من ناوأكم وعرض لكم في شيء من أرضكم ودمائكم وأموالكم ونقوم بذلك عنكم إذ كنتم في ذمتنا وكان لكم به عهد علينا.
وإن أبيتم فليس بيننا وبينكم إلا المحاكمة بالسيف حتى نموت من آخرنا أو نصيب ما نريد منكم .. هذا ديننا الذي ندين الله تعالى به ولا يجوز لنا فيما بيننا وبينكم غيره فانظروا لأنفسكم.
فقال له المقوقس: هذا ما لا يكون أبدا ما تريدون إلا أن تتخذونا عبيدا ما كانت الدنيا.أهـ
إلا أن المقوقس في نهاية المطاف صالحهم على الجزية ومعه القبط من أهل مصر أما الروم فاختاروا القتال.
عن زيد بن أسلم قال: لما أبطأ على عمر بن الخطاب فتح مصر كتب إلى عمرو بن العاص، أما بعد فقد عجبت لإبطائكم عن فتح مصر تقاتلونهم منذ سنين وما ذاك إلا لما أحدثتم وأحببتم من الدنيا ما أحب عدوكم، وإن الله لا ينصر قوما إلا بصدق نياتهم، وقد كنت وجهت إليك أربعة نفر، وأعلمتك أن الرجل منهم مقام ألف رجل على ما أعرف إلا أن يكون غيّرهم ما غيّر غيرهم، فإذا أتاك كتابي هذا فاخطب الناس وحضهم على قتال عدوهم، ورغبهم في الصبر والنية، وقدم أولئك الأربعة في صدور الناس، وأمر الناس أن يكون لهم صدمة كصدمة رجل واحد وليكن ذلك عند الزوال يوم الجمعة، فإنها ساعة تنزل فيها الرحمة، ووقت الإجابة وليعج الناس إلى الله، وليسألوه النصر على عدوهم، فلما أتى عمرو الكتاب جمع الناس وقرأه عليهم، ثم دعا أولئك النفر فقدمهم أمام الناس، وأمر الناس أن يتطهروا ويصلوا ركعتين، ثم يرغبون إلى الله ويسألونه النصر ففتح الله عليهم.
وعن أبي عبد الله بن عبد الحكم: حدثنا أبي، قال: لما أبطأ على عمرو بن العاص فتح الإسكندرية، استلقى على ظهره، ثم جلس فقال: إني في هذا الأمر؛ فانه لا يصلح آخره إلا من أصلح أوله - يريد الأنصار - فدعا عبادة بن الصامت، فعقد له، ففتح الله على يديه الإسكندرية من يومهم ذلك.
وفتحت مصر سنة عشرين هجرية.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد