بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وبعد:
{وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242) }
يخبر تعالى أن الذين يتوفون من المؤمنين ويتركون أزواجاً فإن لهن من الله تعالى وصيّة على ورثة الزوج المتوفى أن ينفذوها من ماله، وهي أن يسمحوا لزوجة المتوفى عنها أن تبقى معهم في البيت تأكل وتشرب إلى نهاية السنة، بما فيها مدة العدة وهي أربعة أشهر وعشر ليال، إلا إذا رغبت في الخروج بعد انقضاء العدة فلها ذلك.
فقوله {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} الخطاب لعموم الأمة؛ وليس خاصاً بالصحابة رضي الله عنهم؛ لأن القرآن نزل للجميع إلى يوم القيامة؛ فالخطاب الموجود فيه عام لكل الأمة؛ إلا إذا دل دليل على الخصوصية، كما في قوله تعالى: {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا وكلًّا وعد الله الحسنى} [الحديد: 10].
{وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} يتركون زوجات {وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم} قال ابن عباس، والضحاك، وعطاء، والربيع: {وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ} هي وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ تعالى للأزواج بلزوم البيوت حولا، وعلى هذا القول فهو كقوله تعالى: {يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ} [النساء:11] فذلك لا يتوقف على إيصاء المتوفين ولا على قبول الزوجات، بل هو حكم من الله يجب تنفيذه
{مَّتَاعاً إِلَى الْحَوْلِ} والمتاع هنا هو السكنى كما دل عليه تأكيدا قوله: {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} أي من الورثة الذين يرثون المال بعد الزوج؛ ومنه البيت الذي تسكن فيه الزوجة.
والجمهور في هذه الآية على أنها منسوخة، وهو نسخ للأثقل بأخف منه من الاعتداد بأربعة أشهر وعشر، المنصوص عليه في قوله: {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234] وهذا في غير الحوامل، وأما الحوامل فعدتهن أن يضعن حملهن بآية الطلاق، والأمة على النصف من ذلك بالسُنة.
وروى الطبري عن مجاهد: هي محكمة، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً، ثم جعل الله لهنّ وصية منه: سكنى سبعة أشهر وعشرين ليلة، فإن شاءت سكنت في وصيتها، وإن شاءت خرجت.
وقال السدّي: كان ذلك [أي كان لها بعد وفاة زوجها السكنى والنفقة حولاً في ماله ما لم تخرج برأيها]، ثم نسخ بنزول الفرائض، فأخذت ربعها أو ثمنها، ولم يكن لها سكنى ولا نفقة، وصارت الوصايا لمن لا يرث.
قال ابن عطية: وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلاَّ ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري.
وروى البخاري: قَالَ ابْنُ الزُّبَيْرِ قُلْتُ لِعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا} قَالَ قَدْ نَسَخَتْهَا الْآيَةُ الْأُخْرَى فَلِمَ تَكْتُبُهَا أَوْ تَدَعُهَا قَالَ يَا ابْنَ أَخِي لَا أُغَيِّرُ شَيْئًا مِنْهُ مِنْ مَكَانِهِ.
وهذه الآية (البقرة:240) متقدمة في التلاوة متأخرة في التنزيل، والآية الناسخة بعكسها {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً} [البقرة:234]، ونظير ذلك قوله: {سَيَقُولُ السُّفَهَاء مِنَ النَّاسِ مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة:142] على ظاهر ما نقل مع قوله: {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} [البقرة:144ٍ]
{فَإِنْ خَرَجْنَ} من بيت الزوج المتوفى قبل نهاية السنة، وفيه منع من له الولاية عليهنّ من إخراجهنّ {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فليس للولي منعهنّ -إذا انقضت عدتها- مما يفعلن في أنفسهنّ من: ترك إحداد، وتزين، وخروج، وتعرض للخطّاب وتزويج، إذا كان ذلك بالمعروف شرعاً .. عدا الخطبة والتزوج والتزين في العدة، فذلك ليس من المعروف.
{وَاللّهُ عَزِيزٌ} إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور، أو أخرجهن وهنّ لا يخترن الخروج، ومشعر بالوعيد على ذلك {حَكِيمٌ} إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جارٍ على الحكمة والإتقان، ووضع الأشياء مواضعها.
{وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} جعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن. فاللام في قوله: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} لام الاستحقاق.
والمعنى: {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ} أي متعة لا مبالغة فيها، ولا تقصير، فالمطلقة المبني بها على مطلقها أن يمتعها بشيء من المال كثياب أو دواب أو خادمة، وعليه فالمطلقة قبل البناء وقبل تسمية المهر لها المتعة واجبة لها إذ ليس لها سواها، والمطلقة قبل البناء وقد سمى لها المهر فلها نصف المهر لا غير، والمطلقة بعد البناء وهي هذه المقصودة في هذه الآية لها متعة بالمعروف سواء قيل بالوجوب أو الاستحباب لأنها لها المهر كَاملاً.
والمتاع مقيد بالمعروف -أي ما يعرفه الناس-؛ وهذا قد يكون مفسَّراً بقوله تعالى: {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236]، أي المتاع على الموسر بقدر إيساره؛ وعلى المعسر بقدر إعساره.
وعلة مشروعية المتعة جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلقة.
{حَقّاً عَلَى الْمُتَّقِينَ} «الحق» هنا بمعنى الحتم الثابت.. أي حقا متعيناً على المطلقين الأتقياء، قال ابن زيد: نزلت هذه الآية مؤكدة لأمر المتعة، لأنه نزل قبل: {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النِّسَاء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنُّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدْرُهُ مَتَاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقّاً عَلَى الْمُحْسِنِينَ} [البقرة:236] فقال رجل: فإن لم أرد أن أُحسن لم أمتع، فنزلت {حقاً على المتقين}.
وخص المتقين بالذكر تشريفاً لهم، أو لأنهم أكثر الناس وقوفاً وأسرعهم لامتثال أمر الله .. ولا يعني أنه لا يجب على غير المتقين؛ ولكن تقييده بالمتقين من باب الإغراء، والحث على لزومه؛ ويفيد أن التزامه من تقوى الله عزّ وجلّ؛ وأن من لم يلتزمه فقد نقصت تقواه.
{كَذَلِكَ} العِدد والمتع {يُبَيِّنُ} يوضح {اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات، فإن العقل يرتبك فيها، ولا يكاد يحصل منها على طائل.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد والحمد لله رب العالمين
أضف تعليق
هذه التعليقات لا تعبر بالضرورة عن وجهة نظر الموقع وهي وجهات نظر أصحابها
تم الإرسال
ستتم إضافة التعليق بعد معاينته من قبل فريق عمل مداد